تتأكد مكانة روسيا كقوة كبري ودورها الفاعل في النظام الدولي مجددا منذ مطلع الألفية الجديدة، وتبرازن في اللحظة الدولية الراهنة، خاصة في ضوء موقف الاتحاد الروسي خلال الأزمة الأوكرانية الأخيرة، ومن قبلها الأزمة السورية، وأزمة أوسيتيا الجنوبية.
إلا أن رؤية القيادة الروسية الحالية لهذا الدور ومحدداته وحدوده تختلف كثيرا عما كان عليه الحال خلال فترة الاتحاد السوفيتي السابق. فالسياسة الروسية الراهنة تحكمها المصالح الاقتصادية، ومقتضيات الأمن القومي الروسي، وأصبحت أكثر برجماتية وبعدا عن الأيديولوجية التي كانت تحكم سياستها في العهد السوفيتي.
وفي هذا الإطار، يبرز قطاع الطاقة كقطاع قائد لعلاقات روسيا الخارجية، وهو أشبه بالبوصلة التي توجه السياسة الروسية، وتحكم حركتها، وذلك بالنظر لكونه دعامة أساسية للأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل، والعمود الفقري للاقتصاد الروسي، وعليه تعقد الآمال في مزيد من النمو الاقتصادي، والتطور الاجتماعي في المستقبل. فلا مستقبل حقيقيا لروسيا دون تأمين حد أدني لأسعار النفط، توفر روسيا من خلاله عوائد تكفي لتطوير باقي قطاعات الإنتاج، وتحقيق التحسن المنشود في مستوي دخل المواطن الروسي، والارتقاء بالخدمات المختلفة المقدمة له من صحة، وتعليم، ومواصلات، وغيرها. وتضمن به أيضا استقلالية قرارها الخارجي، وتطوير قدراتها الدفاعية، وامتلاك قدرة علي التأثير، وممارسة دور فاعل علي الصعيدين الدولي والإقليمي.
تمد عوائد صادرات النفط والغاز الموازنة الروسية بأكثر من 55٪ من وارداتها، ويسهم النفط بنحو 13٪ من إجمالي الناتج المحلي الروسي، وتمثل صادرات قطاع الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) ما يزيد علي نصف الصادرات الروسية، وتسهم عائداته بأكثر من 60٪ من حصيلة روسيا من العملة الصعبة. وهو أداة تأثير مهمة من أدوات السياسة الخارجية الروسية بالنظر إلي الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في سوق الطاقة العالمي. فروسيا أكبر منتج، وثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، حيث تستأثر بنحو 40٪ من إجمالي الصادرات العالمية من النفط، وهي الأولي في إنتاج وتصدير الغاز وبها 35٪ من الاحتياطي العالمي من الغاز، الطبيعي.
أولا- محاور تأثير النفط في السياسة الروسية:
يبدو تأثير قطاع الطاقة واضحا في توجيه السياسة الروسية في إطار عدة محاور، يمكن إجمالها فيما يلي:
1- التعاون والتنسيق مع كبار منتجي الطاقة بهدف الحفاظ علي استقرار السوق النفطية، وضمان حد أدني لأسعار النفط، وذلك من خلال التحكم في حجم الانتاج، خاصة أن روسيا تشارك في اجتماعات أوبك كمراقب. وفي منحي جديد للسياسة الروسية في مجال الطاقة، باتت روسيا تنظر إلي كبار المنتجين كحلفاء في سوق الطاقة العالمية، خاصة دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وليس منافسين، أحدهما للآخر. ويفسر هذا الاهتمام الروسي بمنطقة الخليج العربي، وقيام الرئيس بوتين بعدة زيارات إلي دول الخليج، قبل أن تلقي الأزمة السورية، والتباعد في المواقف بشأنها بظلال سلبية واضحة علي العلاقات الروسية - الخليجية. كما يمكن في إطار هذا المنحي الجديد أن نلمح النمو المطرد والزيارات المتبادلة رفيعة المستوي بين روسيا والجزائر، هذا إلي جانب العلاقات الوطيدة مع فنزويلا التي تعد أكبر منتج للنفط في الأمريكتين، والرابعة عالميا، وتبلغ احتياطياتها المؤكدة من الغاز الطبيعي 4.1 تريليون متر مكعب، لتحتل بذلك المرتبة الثانية في النصف الغربي من العالم، بعد الولايات المتحدة.
2- تنمية الصادرات الروسية من النفط والغاز لمختلف الأسواق الآسيوية والأوروبية، ودعم القدرة التنافسية للشركات الروسية لتسويق الطاقة في الخارج. ويفسر ذلك العلاقات الروسية المتنامية مع الصين، ثاني أكبر مستوردي الطاقة في العالم، حيث اتفق البلدان في أكتوبر 2009 علي توريد 70 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلي الصين كل عام. وفي سبتمبر 2010، تم افتتاح خط الأنابيب الممتد من سيبيريا في روسيا إلي الصين، وبدأ ضخ النفط به في يناير من العام التالي، ووقع البلدان عام 2013 مذكرة تفاهم لتوريد 100 مليون طن من النفط الروسي للصين في غضون 10 سنوات، بدءا من العام الجاري.
كما نجحت موسكو في تجاوز الخلافات التاريخية العميقة مع اليابان حول تبعية جزر الكوريل الجنوبية، والتي منعت البلدين من توقيع معاهدة الصلح والسلام بينهما، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليشهد التعاون بينهما قفزات ملحوظة. وقامت روسيا في ديسمبر 2012 ببدء تشغيل المرحلة الثانية لخط أنبوب النفط الروسي الذي يمتد بين سيبيريا والمحيط الهادي لنقل النفط الروسي إلي اليابان، والصين، ودول آسيوية أخري.
ويظل الاتحاد الأوروبي هو السوق الرئيسي للنفط والغاز الروسي، حيث تقوم روسيا بإمداده بـ 27٪ من احتياجاته من النفط، وأكثر من 50٪ من احتياجاته من الغاز، وأهم دوله ألمانيا التي تعد روسيا أكبر مصدر للنفط وللغاز الطبيعي إليها، وأيضا إيطاليا، والجزء الشرقي من أوروبا، حيث كان الاتحاد السوفيتي يمد دول أوروبا الشرقية بأكثر من ثلثي استهلاكها من النفط، و80٪ من وارداتها منه، وبأسعار تقل كثيرا عن مثيلتها في السوق العالمية. ولا تزال هذه الدول تعتمد اعتمادا أساسيا علي روسيا في الحصول علي احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعي.
ويعد ملف الطاقة ملفا أساسيا في العلاقات الروسية - الأوروبية، وهناك لقاءات دائمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي بشأن التنسيق في مجال الطاقة. أهمها المجلس الدائم للشراكة في مجال الطاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، والذي عقد جلسته الأولي في أكتوبر، 2005 واللقاء التنسيقي الدوري "حوار الطاقة" بين وزير الصناعة والطاقة الروسي، والمفوض الأوروبي لشئون الطاقة.
وتقوم روسيا بتصدير النفط عبر البحر الأسود وبحر البلطيق، إلي جانب النقل البحري للنفط المستخرج من منطقة القطب الشمالي. ومن المعروف أن لدي روسيا أسطولا لناقلات البترول، ولديها أيضا شبكة من خطوط الأنابيب لنقل الغاز، أبرزها خط "السيل الأزرق" الذي بدأ تشغيله عام 2005، ويمتد من "نوفورسيسك" جنوب روسيا عبر البحر الأسود، إلي ميناء "سامسون" التركي، ومنه إلي أوروبا، وخط"Yamal-Europe" الذي يربط غرب سيبيريا بألمانيا عبر بلورسيا وبولندا، وخط "السيل الشمالي" الذي بدأ توريد الغاز عبره منذ نوفمبر 2011، ويمر بقاع بحر البلطيق، ويربط ساحل روسيا بالساحل الألماني لينقل الغاز الروسي إلي دول أوروبا الغربية (ألمانيا، والدنمارك، وبريطانيا، وهولندا، وبلجيكا، وفرنسا، والتشيك، وغيرها). أيضا، هناك "الخط الغربي" لنقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، ورومانيا، وبلغاريا، وتم البدء في مشروع "السيل الجنوبي" لنقل الغاز الروسي إلي أوروبا عبر تركيا، والمقرر الانتهاء منه في ديسمبر .2015
3- الشراكة والاستثمارات المشتركة في شبكات الطاقة التي تمثل بدائل محتملة للطاقة الروسية بالنسبة لأسواقها، خاصة في أوروبا والصين. ويتم التركيز في هذا الخصوص علي منطقة آسيا الوسطي وأذربيجان. فمن المعروف أن بحر قزوين، الذي تمتلك كازاخستان، وتركمانستان، وأذربيجان نحو ثلثي شواطئه، يمثل ثاني أكبر احتياطي عالمي من النفط، بعد منطقة الخليج العربي. وتتفاوت تقديرات هذا الاحتياطي من 200 مليار برميل - وفق تقديرات أولية متفائلة مطلع التسعينيات - إلي 33 مليار برميل، وفق تقديرات أكثر دقة وواقعية عام .2003
وتبدي روسيا اهتماما واضحا بتطوير التعاون في مجال استخراج وتصدير النفط والغاز مع دول آسيا الوسطي، وتم توقيع اتفاقية مع كازاخستان لزيادة كميات النفط الكازاخي، المصدرة عبر روسيا إلي أوروبا. وأكد الرئيس الكازاخي، نزارباييف، اهتمام بلاده بمشروع خط أوديسا - برودي - جادنسك، بين أوكرانيا وبحر البلطيق، لكن بشرط إشراك الجهات الروسية المعنية بهذا المشروع، الأمر الذي يرجح دورا للمشروع كشبكة احتياطية لنقل النفط الكازاخي والروسي إلي الأسواق الخارجية، وليس منافسا للخطوط الروسية.
أعقب ذلك توقيع الرئيس بوتين لاتفاقية مع الرئيس التركماني، بيردي محمودوف، لمد خط غاز جديد من تركمانستان إلي أوروبا عبر الأراضي الروسية نحو بلغاريا واليونان. وأكد محمودوف أنه سيمضي قدما نحو بناء علاقات أوسع مع روسيا، وتحديدا في مجال تصدير الغاز. ويتضمن ذلك شراء روسيا للغاز التركماني بأسعار تقل كثيرا عن أسعار بيع الغاز الروسي لأوروبا. وتم الاتفاق بين البلدين علي استغلال حقل النفط والغاز في المنطقة رقم 21 للقطاع التركماني علي بحر قزوين، والذي تقدر احتياطياته بنحو 160 مليون طن من النفط، و60 مليار متر مكعب من الغاز.
من ناحية أخري، وفي إطار هذا التوجه أيضا، جاء اتفاق شركتي غازبروم الروسية وسوناطراك الجزائرية علي مشاركة غازبروم في أنبوب الغاز "جالسي" الذي يجري مده من حقول الغاز الجزائرية إلي إيطاليا، ويمر جزئيا عبر قاع البحر المتوسط، ومن خلال أراضي جزيرة سيردينيا، إضافة إلي انضمام الشركة الروسية إلي كونسورتيوم يتولي مد أنبوب الغاز "ميدجاز" من الجزائر إلي إسبانيا.
4- الدفع بالاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة خارج روسيا، وهناك إقبال شديد من جانب شركات النفط الروسية، لاسيما تلك التابعة للدولة للاستثمار في قطاع النفط والغاز في الدول المنتجة له في مختلف أنحاء العالم، من خلال المشاركة في عمليات البحث، والتنقيب، وتطوير الإنتاج. فروسيا تمتلك التكنولوجيا والخبرة اللازمة في مجال الكشف والتنقيب عن البترول واستخراجه، وكذلك في مجال الصناعات البتروكيماوية، حيث تعد روسيا من أكبر منتجي البتروكيماويات في العالم، من خلال 15 شركة كبري بفروعها المنتشرة في العالم. وتعد الشركات الروسية، خاصة "لوك أويل" و"غاز بروم"، حاليا من كبري الشركات العالمية العاملة في مجال الطاقة. وتمتد خريطة الاستثمارات الروسية لتشمل المنطقة العربية، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأوروبا.
ففي المنطقة العربية، يمثل قطاع الطاقة أحد المجالات الأساسية التي تتلاقي فيها المصالح العربية والروسية، وهو جوهر الشراكة العربية - الروسية في المستقبل، والدعامة الأساسية لها. وهناك العديد من المشروعات التي بدأت بالفعل بين روسيا وعدد من الدول العربية، والتي تعد نواة لتطوير التعاون في هذا المجال، أهمها: مؤسسة "لوكسار" الروسية - السعودية المشتركة لاكتشاف واستثمار حقول الغاز في الجزء الشمالي من صحراء الربع الخالي، وتمتلك لوك أويل 80٪ من أسهمها، واشتراك شركتي "سينفط" و "لوك أويل" الروسيتين في تطوير حقول النفط الكويتية الأربعة الشمالية، ومشروع أنبوب الغاز "الطويلة الفجيرة" بالإمارات العربية المتحدة الذي تقوم بتنفيذه شركة ستروي ترانس غاز الروسية، أيضا التعاون مع سلطنة عمان في إطار مشروع "كونسوريتوم" لمد خط أنابيب في منطقة بحر قزوين لنقل النفط من كازاخستان، عبر الأراضي الروسية، إلي ميناء نوفورسيسك الروسي علي البحر الأسود. كما تعد الشركات الروسية، خاصة "لوك أويل" و"غاز بروم"، من كبري الشركات العالمية العاملة في مجال الطاقة في مصر. وهناك العديد من المشروعات التي بدأت بالفعل بين البلدين، والتي تعد نواة لتطوير التعاون بينهما في هذا المجال. بالإضافة إلي ذلك، العديد من المشروعات المشتركة مع الجزائر والسودان، وسوريا، ومحاولات إحياء التعاون وتأكيد احترام العقود والاتفاقات السابقة بين روسيا، وليبيا، والعراق.
من ناحية أخري، تشارك شركة "غازبروم" الروسية في استخراج الغاز الطبيعي والتنقيب عن النفط في مجمعين أو ثلاثة من حقول "فارس الجنوبي" بإيران، الذي يعد واحدا من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم.
واتفق الطرفان علي تشكيل مؤسسة مشتركة للتنقيب واستغلال الحقول النفطية، ومكامن الغاز، وتوريد الغاز الروسي إلي المناطق الشمالية من إيران بعد توقيع عقود طويلة الأمد في هذا المجال. كما اتفق البلدان علي مشاركة شركة "غازبروم" الروسية في تنفيذ مشروع بناء خط أنابيب الغاز "إيران - باكستان - الهند".
وفي أمريكا اللاتينية، تعد فنزويلا ركيزة أساسية للاستثمارات الروسية، وتم الاتفاق علي إنشاء شركة مشتركة بين البلدين لاستغلال حقل "خونين 6"، وتقدر احتياطيات النفط به بـ 53 مليار برميل، ويبلغ حجم الاستثمارات فيه نحو 30 مليار دولار. وكانت شركة "غازبروم" الروسية قد فازت في عام 2005 بالمناقصة الخاصة بالترخيص لتنقيب حقول الغاز "أوروماكو-1"، و"أوروماكو-2" في فنزويلا. كما وقعت روسيا وفنزويلا في سبتمبر 2009، خلال زيارة الرئيس تشافيز لموسكو، مجموعة من الاتفاقيات الخاصة بالاستثمار المشترك لحقول النفط في منطقة "حزام نهر أورينوكو"، والذي يصل مخزونه النفطي إلي نحو 235 مليار برميل من النفط. وتم الاتفاق بين روسيا وبيرو علي أن تقوم شركة "غازبروم" الروسية بتطوير قطاع الغاز في بيرو، التي تملك احتياطيا من الغاز يعتد به.
وعلي الصعيد الإفريقي، تم توقيع اتفاقية تعاون بين شركة "غازبروم" وشركة النفط الوطنية النيجيرية. وتعد نيجيريا أحد أكبر منتجي الوقود الهيدروكربوني في إفريقيا، إذ يزيد الاحتياطي المكتشف فيها علي 9 مليارات طن، وتنتج نيجيريا مليوني برميل من النفط يوميا، ويشكل احتياطي الغاز الطبيعي المكتشف فيها 5.2 تريليون متر مكعب، وتنتج 22 مليون طن من الغاز الطبيعي المسيل سنويا، ومن المنتظر أن تضاعف إنتاجها النفطي بمساعدة روسيا. هذا إلي جانب مشاركة شركة "غازبروم" في مشروع إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز من نيجيريا عبر الصحراء الكبري إلي الجزائر، ثم عبر البحر المتوسط إلي أوروبا.
ويظل التركيز الأكبر للاستثمارات الروسية في أوروبا، وأبرزها صفقة شراء شركة "سنتريكا" البريطانية، التي توفر الغاز لأكثر من 12 مليون مستهلك، ومليون مؤسسة صناعية في بريطانيا، بالإضافة إلي شرائها 7٪ من رأس مال شركة "جالب انريجيا" البرتغالية، واتفاق شركة "غازبروم" الروسية، وعملاق الطاقة الالماني "إي أون" في يونيو 2009حول تبادل الأصول في مجال استخراج وتسويق الغاز الطبيعي، ومشروع إنشاء مستودع ضخم للغاز الروسي في بلجيكا بين شركة غازبروم الروسية ومؤسسة فلوكسي البلجيكية، تقدر سعته التخزينية بنحو 300 مليون متر مكعب من الغاز الروسي الذي يوجه للتوزيع في أوروبا وتبلغ حصة روسيا في المشروع 75٪، ومشروع بناء مستودع للغاز في المجر بين شركة "غازبروم" وشركةMOL المجرية بسعة أكثر من مليار متر مكعب.
ثانيا- النفط "سلاحا" والمخاوف الدولية:
أثار النفوذ الروسي المتزايد في سوق الطاقة العالمي، خاصة الأسواق الأوروبية، وبدرجة أقل الأمريكية، وكون روسيا دون شك عملاقا في مجال الطاقة، مخاوف الولايات المتحدة من استخدام روسيا لإمدادات النفط كسلاح سياسي في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة، رغم أن روسيا أكدت في أكثر من مناسبة الطابع الاقتصادي البحت لتعاملاتها في سوق الطاقة، بحسبانها موردا هاما واستراتيجيا لاقتصادها القومي، ودعامة أساسية لتمكين الدولة الروسية، وتنمية قدراتها. ونفت روسيا أي أهداف سياسية قد تؤثر في إمداداتها من الطاقة الي أوروبا أو غيرها، مذكرة بأن موسكو التزمت باتفاقاتها مع البلدان الأوروبية حتي خلال الحرب الباردة، وخلال الأزمة الأوكرانية الأخيرة، لأنها تدرك خطورة أي مسلك مخالف لذلك علي اقتصاد البلاد، وسمعتها الدولية في سوق الطاقة.
ويري البعض أن الولايات المتحدة صنعت الأزمة الأوكرانية بهدف أساسي، هو ضرب الاقتصاد الروسي، من خلال تقويض صادرات روسيا من الطاقة لأوروبا، وتكرار ما حدث زمن جورباتشوف، عندما انخفضت أسعار النفط بشكل حاد، وأثرت في القدرات الاقتصادية للاتحاد السوفيتي، وأدت إلي تفككه مطلع التسعينيات من القرن الماضي. ويفترض أصحاب هذا الرأي أن واشنطن تحاول رسم خريطة جديدة للطاقة علي مستوي العالم، في ظل اكتشاف الولايات المتحدة احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط الصخري بها، قد تغنيها في المستقبل القريب عن استيراد احتياجاتها من الطاقة، بل وتمكنها من التصدير أيضا. فقد استطاعت الشركات الأمريكية إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة بكميات ضخمة وبسرعة، وبتكاليف منخفضة نسبيا عن المتوقع، ليشكل إنتاجه نحو 29٪ من مجمل إنتاج النفط الأمريكي، في حين يشكل الغاز الصخري نحو 40٪ من إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، وفق تقديرات عام 2012، مقارنة بـ 1٪ فقط عام .2000
يعزز هذا الطرح أن جهود واشنطن للحد من الهيمنة الروسية علي سوق الطاقة بدأت عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث اندفعت الشركات الأمريكية للاستثمار في قطاع الطاقة في أذربيجان وآسيا الوسطي. ودعا نائب الرئيس الأمريكي السابق، ديك تشيني، صراحة -في كلمة ألقاها في قمة حلف الأطلنطي التي عقدت عام 2006- إلي تنويع موارد الطاقة لأوروبا. كما أعلن الاتحاد الأوروبي مرارا عزمه تقليص دور شركة "غاز بروم" الروسية في إمداد أوروبا بالغاز، من خلال اللجوء إلي مصادر أخري من آسيا الوسطي، والقوقاز، وإيران. وتعد أذربيجان أقوي المنافسين لروسيا، وذلك من خلال خط أنابيب الغاز "باكو - تبليسي - جيهان" لنقل ليس فقط الغاز الآذري، ولكن الكازاخي والتركماني أيضا إلي ميناء جيهان التركي، ومنه إلي أوروبا. وقد أنشئ هذا الخط بدعم أمريكي واضح رغم المعارضة الروسية القوية له. أيضا، هناك مشروع خط "نابوكو" الذي تعثر، ولم يكتمل، وكان من المقدر له أن ينقل الغاز المنتج في أذربيجان وجمهوريات آسيا الوسطي، عبر تركيا، إلي كل من وسط وغرب أوروبا. كذلك، كان هناك مشروع إيراني لنقل الغاز عبر أراضي كل من تركيا، وبلغاريا، ورومانيا، والمجر، وصولا إلي النمسا، تبلغ قدرته الاستيعابية المعلنة 30 مليار م2 في السنة، إلا أن تطورات قضية البرنامج النووي الإيراني، والعقوبات الأوروبية والأمريكية علي إيران عرقلت المشروع.
وعقب الأزمة الأوكرانية الأخيرة، عاد الحديث مرة أخري عن ضرورة تنويع مصادر الطاقة لأوروبا، خاصة في ضوء التوتر الشديد الذي ينتاب العلاقات بين روسيا والغرب، وتراشق العقوبات بين الجانبين أو ما سَّماه البعض "حرب العقوبات". فقد أمعن الجانبان الأمريكي والأوروبي في إطلاق التهديدات بمعاقبة موسكو وعزلها، عقب ضم القرم إليها، واتخذا عددا من الإجراءات التصعيدية، حيث أعلنت واشنطن، ولندن، وباريس عن تجميد التعاون العسكري مع روسيا، وتم تجميد التحضير لقمة "الثماني" المقرر عقدها في سوتشي في يونيو المقبل، وكذلك اجتماعات روسيا الناتو، وقمة الاتحاد الأوروبي وروسيا. وعقب إعلان نتائج استفتاء القرم، وفي اليوم التالي مباشرة، أعلن أوباما سلسلة عقوبات تستهدف شخصيات أوكرانية وروسية، مؤكدا مواصلة العمل علي "عزل روسيا". كما قرر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات علي 33 مسئولا روسيا وأوكرانيا.
في المقابل، قللت موسكو من فاعلية تلك العقوبات وتأثيرها فيها، وعَّدت مثل هذه الإجراءات والتهديدات استفزازية وضارة للجانبين، في ضوء تداخل الاقتصادات واندماج الاقتصاد الروسي في الاقتصاد العالمي، وأكدت أنها سترد بالمثل علي أي عقوبات غربية، وقامت بالفعل بفرض عقوبات علي مسئولين وأعضاء من الكونجرس الأمريكي، منهم اثنان من مساعدي الرئيس الأمريكي، ونائب مساعد الرئيس لشئون الأمن القومي، ورئيس مجلس النواب، والسيناتور جون ماكين وآخرون.
تشير هذه التطورات جميعها إلي عودة أجواء الحرب الباردة من جديد، ولكن ليس علي أسس أيديولوجية، كما كان الحال زمن الاتحاد السوفيتي، ولكن علي أسس مصلحية، ونتيجة لتناقض وصدام المصالح بين روسيا والغرب.
في هذا السياق، بحث الاتحاد الأوروبي إمكانية تخفيض اعتماده علي الغاز الروسي في محاولة للضغط علي روسيا، وخنق اقتصادها، وضرورة تنويع مصادر الطاقة الموردة إلي أوروبا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، في إطار "اتفاقية التجارة الحرة العابرة للأطلسي". ويتضمن ذلك توريد الغاز الصخري من الولايات المتحدة إلي أوروبا، والتعاون بين الجانبين في تطبيق تقنيات جديدة لتوفير الطاقة. أيضا تنشيط الجهود لتنفيذ مشروع "الممر الجنوبي" لنقل موارد الطاقة من أذربيجان وتركمانستان وغيرهما إلي أوروبا، دون المرور بروسيا.
ويشكك البعض في القدرة علي إدخال هذه المقترحات حيز التنفيذ في المدي القصير. فالغاز الصخري الأمريكي سيظل أعلي تكلفة بكثير من الغاز الروسي بالنسبة لأوروبا التي تواجه صعوبات اقتصادية، وليست علي استعداد لتحمل تكاليف إضافية. كما أن خطوط نقل الطاقة البديلة تحتاج إلي استثمارات كبيرة ووقت لتنفيذها. ومن ثم، لا يمكن تصور أن تستطيع أوروبا الاستغناء عن الطاقة الروسية في الأجل القريب، وتوجيه ضربة موجعة لروسيا، وهو ما تدركه روسيا جيدا.
والواقع أن التلويح بمعاقبة موسكو قد لا يكون بالفعل مؤثرا، في ضوء تعدد دوائر التعاون الاقتصادي والاستراتيجي لروسيا علي الصعيد الدولي، ومن أهمها مجموعة البريكس التي تضم في عضويتها -إلي جانب روسيا- كلا من الصين والهند، حيث أكبر ثاني وثالث اقتصاد عالمي، والبرازيل وجنوب إفريقيا، وأيضا مجموعة شنجهاي التي تعد من أهم أطر التعاون الاستراتيجي بين روسيا والصين، إلي جانب دول آسيا الوسطي. يضاف إلي ما سبق أنه ليس من المعقول عزل دولة بحجم روسيا، وهي ليست بالدولة الصغيرة أو الفقيرة التي تتأثر بالعقوبات، حيث تعد روسيا سادس أكبر اقتصاد عالمي، وتمتلك ثالث أكبر احتياطي عالمي من الذهب والعملات الصعبة، بعد الصين واليابان، وهي القوة العسكرية الوحيدة المكافئة للولايات المتحدة، وتمتلك حق النقض في مجلس الأمن، وهي أيضا أكبر دول العالم من حيث المساحة، وتشكل مساحتها ثمن مساحة العالم المأهولة بالسكان، وتغطي شمال آسيا بالكامل، وتمتد إلي العمق الأوروبي.
وقد يؤدي تصاعد حدة الاستقطاب الدولي إلي تزايد الاتجاه الروسي نحو الشرق، والتركيز مستقبلا علي الأسواق الآسيوية الأكثر استيعابا لصادراتها من الطاقة، خاصة الصين. فشعار روسيا المتمثل في نسر برأسين، ينظر أحدهما للشرق، والآخر للغرب، تعبيرا عن التوازن في السياسة الروسية، من المتوقع أن يتجه برأسيه إلي الشرق ليتعمق التعاون الاستراتيجي والاقتصادي القائم بالفعل بين روسيا والقوي الآسيوية الكبري، وفي مقدمتها الصين والهند، خاصة مع موقف البلدين المتفهم للموقف الروسي، ورفضهما العقوبات الغربية علي روسيا. ولا شك في أن الغرب ينظر بكثير من القلق لمحور روسيا - الصين، وتوطيد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
يرتبط أمن الطاقة الأوروبي دون شك بروسيا، وسلاح الطاقة هو أحد أهم أدوات التأثير الدولي والإقليمي، إلا أن النفوذ الروسي المتزايد بوضوح في سوق الطاقة العالمي لا يزال اقتصاديا بحتا. ورغم أن النفط يعد أداة واعدة للسياسة الخارجية الروسية يمكن توظيفها سياسيا، إذا أرادت القيادة الروسية ذلك، فإنه حتي الآن لا توجد أي مؤشرات علي رغبة روسيا في ذلك، لأنها تعي تماما أنها ستكون المتضرر الأساسي من توظيفه سياسيا.