مضى على ثورة يناير 2011 ما يزيد على ثلاث سنوات، دون أن تشهد الدولة المصرية تحولات محورية تستجيب لفكرة الثورة بمثاليتها وطموحاتها. فالثورات بطبيعتها ترفع شعارات مراوحة للواقع الذى ثارت عليه، والمؤسسات التقليدية العاجزة عن الاستجابة لاحتياجات المجتمع المتزايدة. ولكن بمرور الوقت، بدا أن عبارة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" ليست سوى شعار تنادَى به المحتشدون في ميدان التحرير، دون أن ينتقل إلى واقع ما بعد الثورة. وهكذا، تأجلت أحلام الثورة، ووقعت الدولة في مأزق المرحلة الانتقالية الممتدة، وانكشف عجز الحكومات المتعاقبة عن تلبية مطالب المواطنين.
ودخلت المرحلة الانتقالية منعطفا جديدا بعد اسقاط المصريين لحكم الإخوان في 30 يونيو، حيث تم الإعلان بعدها عن خارطة طريق جديدة. بيد أن الوضع السياسي بات أكثر تعقيداً، لاسيما مع تزايد حدة الأزمات التي يعانيها المجتمع، وهكذا وُجدت أزمات مؤجلة، وملفات ممتدة لسنوات ستشكل تحدىا حقيقيا أمام الرئيس القادم، فور وصوله لسدة الحكم.
مشهد مختلف
يبدو مشهد الانتخابات الرئاسية مختلفا بدرجة أو بأخرى عن الانتخابات الرئاسية السابقة التي أجريت في عام 2012 ، فقد تراجع تأثير تيار الإسلام السياسي في المشهد الانتخابي، عقب سقوط حكم جماعة الإخوان، وما ارتبط بذلك من تآكل الحاضنة المجتمعية لذلك التيار، ومن ثم سيدخل تيار الإسلام السياسي الانتخابات، وهو يعاني تبعات ما حدث خلال الشهور الأخيرة. فثمة قطاع داخل التيار – المنضوي تحت لواء تحالف دعم الشرعية – يرفض ترتيبات خريطة الطريق والعملية السياسية برمتها.
وعلى الجانب الآخر، فإن القطاع المؤيد لترتيبات خريطة الطريق من داخل التيار الإسلامي اكتفي بدعم المرشح المشير عبد الفتاح السيسي.ومن ثم انحصرت المنافسة بينه وبين مؤسس التيار الشعبي، حمدين صباحي، حيث يدخل كلا المرشحين الانتخابات الرئاسية وهو يستند إلى رصيد شعبي.
فمن ناحية، يعتمد المشير السيسي على شعبتيه التي اكتسبها خلال الشهور الأخيرة، ورصيد الثقة الذي يحظى به المرشح ذو الخلفية العسكرية، إذ إن قطاعا لا يستهان به من المواطنين يثق بدرجة أكبر في نمط رجل الدولة المرتكز على خبرة مؤسساتية سابقة، ويعتقد أنه الأجدر بإدراة الدولة.ومن ناحية أخرى، يعول حمدين صباحي كثيراً على تاريخه السياسي في المعارضة، وتمكنه من حصد المركز الثالث في الانتخابات الرئاسية السابقة، كما أنه يطمح إلى طرح نفسه كمرشح معبر عن التيار الثوري.
تحديات صعبة
وبعيداً عن هذه التباينات، فإن الواقع الراهن يفرض على الرئيس القادم عددا من التحديات، من الجائز اختزالها فيما يلي:
أولا - معضلة الأمن، وهو ملف أكثر ارتباطاً بالسياقات التي أفرزتها الثورة على مدى الأعوام الماضية، والتى انطوت على محفزات للعنف تمحورت حول مفهومي الاستقطاب السياسي، وانحسار دور الدولة. إذ إن واقع ما بعد الثورة شهد تناميا في حدة الاستقطاب السياسي الذى استحضر معه ثنائيات كثيراً ما كانت توصف بأنها تتوارى خلف مطلب إسقاط النظام، وصار سؤال الهوية هو محور الصراع داخل المجتمع. وعلى أساسه، تتم عملية الفرز السياسي والمجتمعي. وعشية سقوط حكم جماعة الإخوان، أُضفي على المشهد السياسي المزيد من عوامل الانقسام التى شكلت بدورها مغذيات للعنف.
واستصحب هذا الاستقطاب معه إشكالية أخرى تمثلت في تراجع نفوذ الدولة وانسحابها من الفضاءات التى تعد حكراً عليها، ومن ثم ظهرت ثقافة الكيانات الموازية كمسار بديل للدولة الضعيفة، وتزايدت أحداث العنف التي تراوحت بين الاشتباكات الجماعية، والتصدى للمظاهرات وفضها، فضلاً عن الهجمات الإرهابية المسلحة، واستهداف الأفراد والممتلكات.
وفي هذا الصدد، سيكون الرئيس القادم مطالبا بالتفاعل مع هذه المعطيات، وإيجاد صيغة موائمة تعيد الدولة إلى مجالها الذي انسحبت منه لتكون قادرة على فرض الأمن، وفي الوقت ذاته يتم طرح رؤية متماسكة لتسوية محفزات العنف داخل المجتمع.
ثانيا - الأوضاع الاقتصادية، أفضت التحولات التي شهدتها الدولة خلال مرحلة ما بعد الثورة إلى أوضاع اقتصادية متأزمة، كان أبرز ملامحها تراجع معدلات النمو الاقتصادي، حيث تشير تقارير رسمية- صادرة عن الهيئة العامة للاستثمار- إلى أن معدل النمو الاقتصادي بلغ خلال عام (2012/2013) 2.1% ، وهو معدل منخفض مقارنة بسنوات ماضية. كما تشير النشرة الإحصائية (مارس 2014) الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن معدل التضخم وصل إلي 10.2% في شهر فبراير الماضي، وهو معدل مرتفع يعكس تردى الأوضاع الاقتصادية، كما ارتفع معدل البطالة ليصل إلي 13.4% في الربع الرابع من عام 2013 . واتساقاً مع هذه الأوضاع، تراجعت الاستثمارات الأجنبية، وعوائد السياحة، وباتت الدولة أكثر اعتماداً على الدعم والمنح الخارجية.
وعطفاً على هذه المعطيات، سيكون على مؤسسة الرئاسة التعامل مع الأوضاع الاقتصادية عبر ثلاثة مستويات، يتصل المستوى الأول بتطوير رؤية تنموية تكرس لنموذج اقتصادي إنتاجي يعتمد على المقومات الداخلية، وليس مجرد ارتكان علي دعم الخارج، خاصة أن هذه المقاربة (مقاربة الدعم الخارجي، سواء من خلال المساعدات الخليجية، أو حتى السعي للحصول على قرض صندوق النقد الدولي) أثبتت عدم قدرتها على النهوض الحقيقي باقتصاد الدولة.
ويربط المستوى الثاني بين قضية العدالة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية، فقد ظلت قضية العدالة الاجتماعية قضية مركزية في خطاب الثورة، ومن ثم تستلزم أي مقاربة اقتصادية أن تأخذ في حسبانها قضية العدالة الاجتماعية. فتحقيق إنجاز في هذا الملف يمكن أن يشكل إطارا داعما للسياسات الاقتصادية. فيما ينصرف المستوى الأخير إلي التعاطي الإيجابي مع مشكلة إمدادات الوقود والطاقة الكهربائية كأحد أبعاد المأزق الاقتصادي القائم، وسيتحدد بناءً على كيفية معالجة تلك المشكلة طريقة تفاعل قطاع مجتمعي واسع مع السلطة الحاكمة، خاصة أن مشكلة الوقود والكهرباء كانت من العوامل الرئيسية التي سرّعت من وتيرة السخط المجتمعي على حكم جماعة الإخوان، وإنهائه في نهاية المطاف.
ثالثا - ثنائية المعارضة والسلطة، فقد أصبحت المعادلة السياسية المصرية أكثر تعقيداً، وتخلت المعارضة السياسية عن حالة السكون، وغياب التأثير التي ظلت تعانيها لعقود. وفي غمار المنافسة السياسية القائمة بين من في السلطة (سواء كان المجلس العسكري في فترة ما بعد إسقاط نظام مبارك، أو أثناء حكم جماعة الإخوان، أو حتى النظام الحاكم حالياً) والمعارضة، كانت العلاقة ليست على ما يرام، ولم يعد التنافس بين الطرفين مقصوراً على الأروقة الداخلية، ولكنه امتد بكافة تجاذباته إلي الشارع، واستدعيت مكونات مجتمعية عديدة في هذا الصراع السياسي الذى كان العنف أحد متلازماته الجوهرية.
وتتسم المعارضة السياسية في الوقت الراهن بخلافات بينية واضحة، فثمة قطاع منتم لجماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها (تحالف دعم الشرعية)، وهو قطاع رافض لترتيبات خريطة الطريق بعد 30 يونيو ، كما تتضمن المعارضة قطاعا آخر كان ضمن تكتل الثلاثين من يونيو الذى أسقط حكم جماعة الإخوان. ولكن بمرور الوقت، زادت الهوة بين هذا القطاع والسلطة الحاكمة على خلفية عدد من القضايا، أهمها الخلاف حول الدستور، وقانون التظاهر، وتراجع قدرة السلطة على تحقيق إنجاز فعلي يتجاوز الأوضاع المتردية.
وهنا، سيكون على الرئيس القادم المفاضلة بين ثلاثة خيارات في التعامل مع المعارضة، الخيار الأول: أن يعتمد نهجا أكثر تصادماً مع المعارضة بكافة مكوناتها بصورة يمكن أن تهدد استقرار الحكم، وتخلق بيئة محفزة للانقسامات المجتمعية. بينما يفترض الخيار الثاني أن تتبني مؤسسة الرئاسة آليات توافقية تصالحية مع المعارضة بمختلف أطيافها، بغية إرساء قواعد تأسيسية لعملية تحول ديمقراطي. أما الخيار الأخير، فهو الارتكان إلى آليات لتصنيف المعارضة، بحيث يتم استبعاد التيار الرافض لخريطة الطريق من العملية السياسية، وإيجاد مساحة توافقية مع قوى المعارضة الأخرى.
رابعا - السياسة الخارجية، حينما اندلعت ثورة 25 يناير 2011 ، كان ثمة تساؤل مطروح حول إمكانية تأسيس الحالة المصرية نموذجاً مغايراً في السياسة الخارجية يُحدث قطيعة مع الأطر التقليدية التي ظلت مستقرة لعقود. بيد أن السنوات التالية على الثورة أثبتت عدم قدرة مؤسسات الدولة على صياغة رؤية جديدة متماسكة للسياسة الخارجية. وحتى المقاربات التي تم استدعاؤها في هذا السياق، اتضح أنها لا تعدو أن تكون مجرد أحاديث إعلامية، وزيارات مسئولين لقوى دولية مختلفة لا ترقي في حد ذاتها إلى أن تكون تعبيراً عن مرحلة جديدة في السياسة الخارجية. وبوجه عام، تثير السياسة الخارجية قضايا مهمة، يتعين على مؤسسة الرئاسة الاستجابة لها منها :
- العلاقات المصرية- الأمريكية، والتى شهدت تأزما واضحا في الآونة الاخيرة انكشف مع الموقف الأمريكي المراوغ في توصيف ما جرى في 30 يونيو و3 يوليو 2013 ، وعدم الاستقرار على إعطاء توصيف محدد للمشهد يمكن أن يرضي النظام الحاكم في مصر، والذى يرى أن إسقاط جماعة الإخوان المسلمين تم عبر ثورة شعبية لا تختلف عن ثورة 25 يناير 2011 ، فضلا عن توظيف الإدارة الأمريكية لورقة المساعدات للضغط على الجانب المصري، وبزوغ أصوات داخل الكونجرس تطالب بتعليق المساعدات الأمريكية لمصر، لأن ما حدث كان انقلابا عسكريا من وجهة نظرها.
- سد النهضة، يعد إحدى القضايا الملحة في الوقت الراهن، فهي قضية يتماهى فيها الداخل مع الخارج بصورة أكبر من غيرها من قضايا السياسة الخارجية. إذ إن إثيوبيا مصرة على استكمال بناء سد النهضة، دون أن تأخذ في االحسبان الحقوق التاريخية للقاهرة في مياه النيل، وهو ما سينعكس بصورة حتمية على حصة مصر من مياه النيل، والتكريس لأزمات اقتصادية واجتماعية حادة.
محددات الإنجاز
تطرح الأدبيات السياسية أنماطا عديدة للقيادة السياسية، من ضمنها القيادة التحويلية transformational leadership والتي تصلح لأن تكون مدخلا للاقتراب من نموذج الرئاسة الذي تحتاج إليه الدولة المصرية، فهذا النمط من الرئاسة (القيادة التحويلية) يمتلك القدرة على التأثير فى الآخرين وتوجيههم بهدف إحداث تغيير جوهري في الواقع القائم، ويتم توظيف الأزمات لإعطاء زخم أكبر لمحاولات الإصلاح، وتعزيز الشعور المجتمعي بمدى إلحاحية الحاجة للتغيير. وإجمالاً، يمكن القول إن قدرة الرئيس القادم على الاستجابة للتحديات ترتهن ببعض المحددات:
أولاً- مدى قدرة الرئيس القادم على الحصول على دعم المؤسسات البيروقراطية التي تحظى بوضعية أقوى من المؤسسات السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي فإن تمكن مؤسسة الرئاسة من تحقيق إنجاز فعلي يرتبط بدرجة أوبأخرى بالتوافق مع البيروقراطية، وتطويع هذه المؤسسات التقليدية – بما تحمله من سمات الجمود، وصعوبات الإصلاح الهيكلي – كى لا تقف حجر عثرة أمام التغيير، وسياسات السلطة الجديدة.
ثانياً- البحث عن مقاربات أكثر رشادة في التعاطي مع متطلبات السلطة والمعارضة، وهو ما يعني التفاعل العقلاني الكفء مع الواقع السياسي، لاسيما مع ما يتصف به من عدم الاستقرار، وتزايد حدة الاستقطاب، وهيمنة الثنائيات الاختزالية. وفي هذا السياق شبه الفوضوي، يتم استحضار مقولات تشدد على مركزية أفكار من قبيل المصالحة الوطنية (المرتبطة بالعدالة الانتقالية)، والتوافق أو الإجماع، حيث يشير توفيق السيف في كتاب (رجل السياسة.. دليل في الحكم الرشيد) إلى أن "النظام السياسي الذي يفتقر إلى الإجماع لا يمكن إلا أن يكون فوضوياً منعدم السمات، وعديم الاستقرار".
ثالثاً- الحيلولة دون تآكل شرعية السلطة بوتيرة متسارعة، وذلك عبر تحقيق إنجازات في ملفات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية. فخلال ما يربو على الأعوام الثلاثة، لم تراوح قضية العدالة الاجتماعية مكانها، وتوالت الإحباطات المجتمعية، وأخفقت الحكومات المتوالية فى الوفاء بتعهداتها فيما يتعلق بقضية مثل الحدين الأدني والأقصى للأجور، بالرغم من كونها جانبا بسيطا من جوانب العدالة الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، فإن شروع الرئيس القادم في تحريك مثل هذه الملفات سيعزز من شرعية سلطته، ويقلل من حدة السخط المجتمعي.
رابعاً- التأسيس لرؤية مختلفة للسياسة الخارجية تتعامل معها من منظور براجماتي، بعيداً عن الأطر الداعمة لفكرة السياسة الخارجية التابعة التى تقلص من مكاسب الدولة لمصلحة أطراف دولية أخرى. ويفترض هذا المسار أن يكون الهدف الأول للسياسة الخارجية هو تحقيق مصالح الدولة، والاستناد لهذه الرؤية في التفاعل مع الولايات المتحدة وإثيوبيا في المقام الأول، وإقامة علاقات خارجية متنوعة تحول دون تعرض الدولة لضغوط تقيد من خياراتها.