2 إبريل 2014
حملت نتاج الانتخابات البلدية في تركيا التي فاز بها حزب العدالة والتنمية مؤشرات دالة على قوة ونفوذ الحزب، وقدرة قيادته على قراءة الواقع المحلي، بما يخدم تماسك الحزب الحاكم، ويدعم سلطة رئيسه، رجب طيب أردوغان، الذي استغل "خطاب الشرفة"، أو ما يعرف بـ"خطاب النصر" لإعادة تأكيد أن سياسات تركيا الخارجية ستتسم بالثبات وعدم التراجع عما تبنته سابقا حيال بعض الملفات الخارجية.
بدا ذلك واضحا حينما رفع أردوغان شعار "رابعة" مرة أخرى، ليؤكد رسالتين مهمتين، إحداهما موجهة للداخل، تفيد بأن الحديث عن إمكانية "تمصير" تركيا مضيعة للوقت، وأن حزب العدالة والتنمية مستند إلى إصلاحات سياسية واقتصادية كبرى، ورسالة أخرى للخارج تشي بأن دعم التيارات الإسلامية، وبالتحديد جماعة "الإخوان المسلمين"، سيظل محددا حاكما لتوجهات تركيا في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى الرغم مما يعنيه ذلك من إمكانية تعرض تركيا لمزيد من الأزمات في ملفات التشابك الإقليمي مع مصر، وبعض دول الخليج، فإن الحزب يبدو أنه يسير في اتجاه اللعب على التناقضات، من خلال توثيق العلاقات مع دول مثل ليبيا وتونس، بالإضافة إلى كل من الكويت وقطر في منطقة الخليج، مستغلا في ذلك تفاوت المواقف حيال سياسات تركيا الداعمة لجماعة "الإخوان".
هذه المؤشرات قد تدلل على أن تركيا قد تكون أكثر جرأة في التعاطي مع ملفات التوتر الإقليمي، خصوصا أنها ستكون مدعومة من ناحية بتزايد أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للغرب وحلف الناتو، بعدما غدت دولة جوار مباشر لروسيا، بعد ضمها لإقليم "القرم" من ناحية، ومن ناحية أخرى لانفتاحها على طهران، التي تشهد علاقاتها مع الغرب تطورات ملموسة فيما يخص ملفات الاشتباك، وقضاياها المعلقة.
أردوغان وإدارة القضايا الخارجية
على الرغم من أن الانتخابات أثبتت نسبيا أن تضرر الصورة النمطية لحزب تركيا، الحاكم خارجيا، لم يصاحبها تضرر مماثل يمكن أن يصنع الفارق شعبيا على الصعيد الداخلي، فإنها أعادت إثبات أن أردوغان لا يزال رجل تركيا القوى، بما يدفع بالقدرة على تجاوز التوترات التي شهدتها علاقات تركيا الدولية، جراء توجيه اتهامات لبعض الدول الغربية، بالإضافة إلى إسرائيل، بالوقوف وراء ما سماه "المؤامرة على الأمة التركية" التي تستهدف إسقاط التجربة التي يقدمها حزب العدالة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، لا سيما مع توالي مشروعات عملاقة يتبناها الحزب، وقد تعيد صوغ وضعية تركيا على خريطة الاقتصاد العالمي.
القوة المستمدة من نتائج الانتخابات قد تدفع بتراجع الانتقادات والمعارضة التي حملّت الحزب الحاكم مسئولية الإخفاق في إدارة ملفات السياسة الخارجية، بما أفضى إلى توتر العلاقات مع دول مثل مصر، والسعودية، والإمارات، هذا بالإضافة إلى الاضطرابات التي شهدتها علاقات تركيا مع كل من إسرائيل وسوريا لأسباب مختلفة، بما يعني قدرة أكبر للحزب على الاستمرار في نهج دعم المعارضة السورية، ومد الجماعات المسلحة داخل المدن السورية بالسلاح والأموال، سعيا إلى إسقاط الأسد، الذي سيبدو واحدة من أولويات أردوغان خلال الفترة المقبلة.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل، فإن الحزب قد يسير في اتجاه "تطبيع العلاقات" معها عبر زيارة أردوغان لها خلال الفترة المقبلة، وقد يروج لذلك محليا من خلال تأكيد محاولة دعم الجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، كما قد يسوق ذلك بحسبانه انتصارا لحزب العدالة الذي دفع بإسرائيل إلى الاعتذار، ودفع تعويضات لضحايا "حادثة القافلة"، وسيعني ذلك عمليا إنهاء حال التوتر التي وسمت علاقات الدولتين منذ عام 2010.
هذا، فيما قد تشهد العلاقات مع طهران تطورات أكبر خلال الفترة المقبلة، خصوصا مع رفع العقوبات النسبية التي فرضت على إيران بسبب تداعيات برنامجها النووي، وهو أمر تراه الحكومة التركية منطقيا في ظل استراتيجية "إعادة تدوير الاتجاهات" التي تقضي بتخفيف التوترات مع دول الجوار، خصوصا بغداد وطهران، بسبب تباين المواقف حيال الأزمة السورية، وهو ما قد يلقى بتبعات كبرى على حال التوتر المكتوم التي تشهدها علاقات أنقرة مع بعض دول الخليج بسبب الموقف من الثورة المصرية، والدعم التركي – القطري المشترك لجماعة "الإخوان"، التي باتت بالنسبة لدول مثل الإمارات والمملكة العربية السعودية "جماعات إرهابية".
تركيا وقطر والإخوان
قد يكون من اليسير تفهم طبيعة الأدوار الانتخابية التي أداها عدد كبير من عناصر "الإخوان" الموجودين في تركيا لخدمة الحزب الحاكم، سواء في فترة الداعية الانتخابية، أو المشاركة في العمليات اللوجيستية الخاصة بـ"الكتائب الإلكترونية" التي دعمت الحزب، وكذلك يمكن تفهم نمط الترحيب والسعادة بنتائج الانتخابات في العديد من دول المنطقة، خصوصا تلك التي تشهد تمركزا كثيفا للتيارات الإسلامية التي تخوفت من سقوط حزب العدالة والتنمية، جراء سلسلة الفضائح المالية الأخيرة، والتسريبات التي طالت ملفات للأمن القومي التركي، ويتعلق بعضها بمحاولة "اختراع" أسباب تدفع إلى القيام بعمليات عسكرية في سوريا.
ومع ذلك، يمكن القول إن الفترة القادمة ستشهد محاولة قطرية – تركية لاستغلال نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، والتي أعادت إنتاج المعادلة السياسية القائمة لجهة التحرك المشترك لمحاولة كسر العزلة عن قطر التي باتت تواجه موقفا شبه جماعي من دول الخليج بسبب مواقف قطر الداعمة لجماعة "الإخوان" على المستوى الإقليمي، وداخل بعض الساحات لمحلية لبعض دول الخليج.
ومن المرجح أن تندفع تركيا إلى الاستثمار في علاقاتها مع دول، مثل تونس، التي عبرت بعض قياداتها عن سعادتها بنتائج الانتخابات البلدية في تركيا، حيث رأى راشد الغنوشي، زعيم حركة "النهضة" التابعة للتنظيم "الإخوان"، أن انتصار أردوغان "يمثل مصدر فخر للديمقراطيين والإسلاميين في العالم". كما رأى في ذلك رسالة تأييد للثورتين المصرية والسورية، وقال: "لا شك في أن المصريين الديمقراطيين والإسلاميين مبتهجون بما جرى في تركيا، فقد كسبت الثورة المصرية بانتصار حزب العدالة والتنمية نصيرا مؤيدا قويا، وكذلك الثورة السورية، وبقية ثورات الربيع العربي"، وهى تصريحات تنسجم مع قيام أردوغان بالإعلان عن امتنانه لمصر، وسوريا، وفلسطين و"كل الأصوات التي ساندته في هذه الانتخابات".
وفي السياق ذاته، احتفلت الأفرع المنتمية إلى التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان" بفوز حزب أردوغان بالانتخابات البلدية، خاصة حركة "حماس" التي نظمت مسيرات في قطاع غزة احتفالا بالفوز، وحاولت الإشارة إلى أن انتصار حزب أردوغان في الانتخابات البلدية يعد انتصارا لجماعة "الإخوان"، وهو المشهد نفسه الذي كررته عندما احتفلت بفوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية 2012.
إن هذه التصريحات تمثل رسائل مشتركة تتضامن مع موقف أردوغان من جماعة "الإخوان" في مصر، والذي تثبت مواقفه المتكررة، ورفعه لإشارة "رابعة" أن تركيا لا تزال قوية، ولم تهتز بفعل التطورات المحلية، كما تشي بأن أنقرة ستستمر في دعم تيارات الإسلام السياسي، وبالتحديد جماعة "الإخوان"، وهى مؤشرات تعطي انطباعا بأن توتر العلاقات المصرية- التركية سيكون أحد الملفات الساخنة، والسمت المميز للعلاقات المشتركة خلال الفترة المقبلة.
إعادة التموضع إقليميا
تثبت تصريحات أردوغان وإشارته أن تركيا ستعيد تأكيد موضعها الذي اتخذته منذ ثورة الثلاثين من يونيو في مصر، لأسباب داخلية تتعلق بنمط التوجهات الأيديولوجية، وطبيعة القاعدة المحافظة المؤيدة والمناصرة، غير أن هذا سيترافق مع ثقة أكبر في تعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية المختلفة، خصوصا قطر، والعراق، وإيران، وتونس، ودوليا مع القوى الغربية، بالإضافة إلى روسيا.
وعلى الرغم من النشاط الذي ستشهده حركة تركيا الخارجية، فإنها قد لا تكون على النحو المتوقع من قبل بعض الاتجاهات، بالنظر إلى الاستحقاقات الانتخابية التي من المنتظر أن تشهدها أنقرة خلال الشهور القليلة القادمة، حيث الانتخابات الرئاسية في أغسطس، والرئاسية في مايو من العام القادم.
يضاف إلى ذلك أن "معركة تكسير" العظام بين حركة كولن (الخدمة) وأردوغان لم يكتب بعد فصلها الأخير، رغم التهديدات التي أطلقها أردوغان حيال أعضاء الحركة الذين اتهمهم بـ"الخونة"، مؤكدا أنه سيستمر في "تصفية" وجودهم داخل هيكل الدولة ومؤسساته المختلفة، هذا بالإضافة إلى المشكلات التي قد تنتج عن تشكيك البعض في نتائج انتخابات بعض المدن، هذا فضلا عن التداعيات المحتملة لمحاولة أردوغان استمالة الجيش في سياق صراعه مع جماعة "الخدمة".
هذه المعطيات جميعها تؤكد أن حزب العدالة خرج من الانتخابات البلدية منتصرا، وأنه سيحاول توظيف هذا الانتصار، إقليميا ودوليا، في دعم جماعة "الإخوان" على الساحات المحلية المختلفة في دول المنطقة، بما سيرسخ مجال التوتر مع بعض الدول، وقد يخرجه من نطاقه المكتوم إلى المعلن، خصوصا مع بعض دول الخليج.
وبينما يُتوقع ذلك، فإن الحزب سيركز، خلال الفترة المقبلة، على معاركة الداخلية، خصوصا في ظل التقديرات التي تشير إلى أن أردوغان قد يتجه لتعديل لائحة حزبه الداخلية، من أجل الاستعداد لإعادة انتخابه لمرة رابعة، مغيرا بذلك وجهته من خوض الانتخابات الرئاسية، التي لا يتمتع الفائز بها بغير صلاحيات رمزية، إلى رئاسة الوزراء مرة أخرى.
إن رجل تركيا القوي يريد البقاء في بؤرة صنع القرار، وهو أمر بينما يخلق مجالات للتوتر والصراع محليا، في ظل نزعته السلطوية، وإحساسه المتزايد بتآمر الكثيرين عليه، فإنه يجعل ملفات التوتر الإقليمي المعنية بها تركيا على حالها، حيث يتم توظيفها محليا وإقليميا لخدمة وجود أردوغان في السلطة.