من المفروض ان يتحول مؤتمر القمة العربية التي تعقد خلال نهاية الاسبوع في دولة الكويت الى مناسبة تحظى باهتمام المعنيين بالاوضاع العربية العامة وأن تحقن الجسم العربي الذي انهكته الصراعات الدامية بشيء من التفاؤل. ولقد بذلت إمارة الكويت جهداً ملحوظاً من اجل تيسير عقد القمة وضمان نجاحها. ولكن على الارجح، وكما جرت العادة، فإن من المرجح ان تتحول القمة الى هدف للنقد المركز يمارسه فريقان من فرقاء السياسة العربية. الفريق الاول يضم من يعارض الفكرة العربية بكل رموزها ومؤسساتها ونشاطاتها، فيخشى ان تؤدي القمة الى انتعاش هذه الفكرة ولو موقتاً. ففي السياسة العربية كثيراً ما يتحول الموقت الى دائم. الفريق الثاني، ينتقد مؤسسات العمل العربي المشترك لأنه يعتقد انها ولدت لكي تحرمه من احلامه التوحيدية ولكي تثبت الوضع الراهن، اي ما يوصف بـ «التجرئة العربية». وفيما يمتلك الفريقان اسباباً متناقضة للتقليل من شأن القمم العربية، فإنهما يستخدمان ضدها السلاح نفسه، الا وهو تظهير عجزها وفشلها في التأثير الحقيقي في مجرى السياسة العربية.
مقابل هذين الفريقين، لا يملك المتعاطفون مع مؤسسات العمل العربي المشترك، واستطراداً مع القمة العربية، الكثير من الحجج والادلة لكي يستخدموها في الرد على هذه الانتقادات. ذلك ان باروميتر العلاقات العربية يدل إلى ان التضامن العربي والالتزام بالأفكار التي قام عليها النظام الاقليمي العربي هو اليوم في ادنى حالاته. كذلك يدل هذا الباروميتر، إلى ان ثمة علاقة لا تخفى بين نمط عمل مؤسسات العمل العربي المشترك من جهة، وبين التراجع المضطرد في صدقيتها وصدقية مبدأ التضامن العربي، من جهة اخرى. فبعد اربعين عاماً من ولادة القمة العربية نجدها باتت عنواناً لنمط من الممارسة قلّ ان حادت عنه. يتمثل هذا النمط في الغزارة في اتخاذ القرارات والندرة في التنفيذ. هذا النمط يشكل مقتلاً محققاً لأية مؤسسة ولأي مشروع او مبادرة حتى ولو كانت في مستوى القمة العربية. من هنا، فإن المستغرب هو ليس التقهقر الذي اصاب مؤسسات العمل العربي المشترك نتيجة ظاهرة كثرة قراراتها وندرة تطبيقها، بل على العكس تماماً، اي ان المستغرب هو ان هذه الظاهرة لم تفلح، حتى الآن، في القضاء المبرم على هذه المؤسسات.
حتى ندرك مدى تأثير هذه الظاهرة في تجارب العمل العربي المشترك، من المناسب ان نتطرق الى امثلة تبين جسامة الفارق بين القرار والتنفيذ في سجل التجارب الاقليمية العربية. ولعل من اهم هذه الامثلة ما يلمسه الكثيرون من تدهور مستمر في الثقافة العربية ومن تقهقر متمادٍ في حال اللغة العربية مما دعا القادة العرب الى إقرار عقد قمة مختصة تنظر في طرق إنهاض الثقافة العربية. وكانت الاستجابة الواسعة لهذا الاقتراح دليلاً على صواب مبرراته. ولكن لماذا اصاب الثقافة العربية مثل هذا التقهقر؟ وهل تحركت مؤسسات العمل العربي المشترك آنفاً بقصد الحفاظ على الثقافة العربية؟ اخيراً هل هناك من علاقة بين الواقع الثقافي العربي اليوم وبين ظاهرة الفارق بين القرار والتنفيذ؟
اذا عدنا الى سجل العمل الاقليمي العربي لوجدنا ان القيادات العربية أولت الثقافة العربية اهمية قصوى، منذ تأسيس جامعة الدول العربية. تعبيراً عن هذا الاهتمام، كانت المعاهدة الثقافية العربية اول معاهدة توقّعها دول الجامعة بعد توقيع ميثاقها عام 1945. ولقد تضمنت المعاهدة بنوداً مهمة مثل النص على «الوصول باللغة العربية الى تأدية جميع اغراض التفكير والعلم الحديث وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد وفي كل مراحل التعليم». كذلك نصت المعاهدة على حماية الملكية الفكرية والعمل على تبادل المدرسين والطلاب بين دول الجامعة وتوثيق الصلات بين دور النشر وأهل الفكر والعلم، وإعداد برامج تعريفية ودراسات كلية عن المنطقة العربية في سائر مجالات التاريخ والجغرافيا والأدب والعلوم.
وكما يلاحظ، فإن المواد والبنود التي تضمنتها المعاهدة لم تكن مجرد اعلان مبادئ ذات قيمة ارشادية مجردة وبغرض حفظها في المكتبات والعودة اليها في المناسبات، بل تضمنت خطوات ومشاريع ذات طابع اجرائي وملح ايضاً. ولقد جرى تنفيذ بعض هذه الخطوات والاجراءات، ولكن ليس بالمقدار الذي توقعه او رغب به المعنيون بالشأن الثقافي العربي. هذا القصور دعا القادة العرب الى اعادة إحياء المعاهدة عام 1964 بعد تحويلها الى «ميثاق» جددت فيه الحكومات العربية التزامها بمبادئ المعاهدة.
ولكن بسبب التقهقر العملي للثقافة العربية لم تجد قرارات ومبادئ الميثاق والمعاهدة طريقها الى التنفيذ، حتى بعد قيام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو) المنبثقة عن جامعة الدول العربية عام 1970. وخلافاً للآمال التي علقت على هذه المنظمة، فإنها لم تتمكن من تحقيق النهضة الثقافية العربية المرتجاة. هذا الواقع جعل المؤرخ والمفكر العربي قسطنطين زريق، الذي كان من القيمين على المنظمة، يشكو من السنوات السبع التي أنفقتها المنظمة في إعداد مشروع ضخم للنهوض بالثقافة العربية، لكي يدفن بعدها في الأدراج البيروقراطية.
كان نصيب هذا المشروع مماثلاً للكثير من المشاريع المماثلة في شتى مجالات التعاون الاقليمي العربي التي قضت بعيداً من الأعين وتحت وطأة الاهمال. فقد وقعت الحكومات العربية على اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية عام 1957، اي في العام نفسه الذي وقع فيه الزعماء الاوروبيون معاهدة روما لتأسيس السوق الاوروبية المشتركة. ولما تعثرت الوحدة الاقتصادية، اتفق القادة العرب على تأسيس السوق العربية المشتركة عام 1964. ولكن كان حظ «السوق» شبيهاً بحظ «الوحدة»، عاثراً في الحالتين. ومن المرجح انه اذا بقيت الامور على حالها ان تنتهي «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى» الى مآل مماثل للتجارب السابقة.
في معرض البحث عن اسباب هذا التراجع المتمادي الذي يطرأ على اوضاع العمل العربي المشترك، يتفق كثيرون بأن غياب ضعف العلاقة بين المؤسسات الاقليمية العربية من جهة، والرأي العام العربي، من جهة اخرى، هو احد اهم اسباب هذه الظاهرة. كذلك يتفق هؤلاء على اهمية بناء صلة تفاعل وثيق بين هذه المؤسسة الأم، اي جامعة الدول العربية، من جهة، والرأي العام العربي، من جهة اخرى. وكان الراحل الكبير الدكتور عصمت عبدالمجيد، الامين العام السابق للجامعة، من ابرز الذين حملوا هذه الفكرة وعملوا من اجلها. وكثيراً ما ردد الدكتور عبدالمجيد الذي خسرته الديبلوماسية العربية وفقده التعاون الاقليمي العربي قبل اشهر قليلة، في احاديثه مع المعنيين بأوضاع المؤسسات الاقليمية العربية ان الجامعة، او بالاحرى الامانة العامة للجامعة، تحتاج الى بناء علاقات وطيدة مع الرأي العام العربي بحيث يكون عاملاً مساعداً في حض الحكومات العربية على تنفيذ قراراتها. وخلال وجوده في الامانة العامة لم يكف الدكتور عبدالمجيد عن مساندة النشاطات الرامية الى مد جسور بين الامانة العامة للجامعة والرأي العام العربي والدولي.
ان ما تحتاجه الجامعة وما تحتاجه مؤسسة القمة العربية ليس المزيد من المقررات فحسب - وبعضها تحتمه ضرورات ملحّة - وإنما ايضاً تفاعل منظمات الرأي العام العربي مع هذه المقررات. اي ان تسعى هذه المنظمات الى تقويم هذه القرارات ومن ثم الى مراقبة تنفيذ ما تراه، كمنظمات شعبية مستقلة، مناسباً ومفيداً للمصلحة العامة. ان بعض هذه المنظمات والهيئات، مثل الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة، يضطلع بمثل هذه المهمة على صعيد قطاعي وبصورة تستحق التنويه، فهل تنضم الى اتحاد الغرف منظمات اقليمية عربية مهنية ونقابية اخرى؟ هل تخصص هذه المنظمات والاتحادات جزءاً من جهدها ونشاطاتها لمراقبة مدى التزام الحكومات العربية بما وافقت عليه من مقررات؟
---------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الخميس، 20/3/2014.