يعد "التدخل الخارجي" من أكثر الظواهر تعرضا لجدالات تنظيرية في العلاقات الدولية، لاسيما أن التغيرات في بنية القيم والقوي المهيمنة علي النظام الدولي فرضت تحولات كبري علي تلك الظاهرة، علي صعيد تغير مبررات التدخل، وأنماط الأطراف المتدخلة، ودوافعها، والأطر القانونية والأخلاقية لسلطة التدخل. إذ بدا أن هنالك تآكلا لمبدأي السيادة وعدم التدخل في شئون الدول، اللذين أقرتهما المواثيق الدولية، أمام اتجاهات "أنسنة العلاقات الدولية"، أي إعادة الاهتمام للفرد في مواجهة الدولة، لاسيما بعد أن خلفت الصراعات الداخلية ملايين الضحايا، وتصاعد أجندة حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية، الأمر الذي توجب معه تنظيرات جديدة تلامس التغيرات في الواقع العالمي.
لقد مرت عملية التنظير للتدخل الخارجي في العلاقات الدولية، منذ الحرب العالمية الثانية، وحتي ما بعد انتهاء الحرب الباردة، بتحولات عديدة، استهدفت تقييد استخدام القوة بين الدول، وتقليص التدخلات الدولية المنفردة، وتوجيهها باتجاه أطر جماعية، ذات دوافع أكثر إنسانية. فالواقعيون، الذين بنوا افتراضاتهم للسياسة الدولية علي أنها كفاح من أجل القوة -كما يقول مورجانثو- نظروا للنظام الدولي علي أنه يقوم علي الفوضي. وبالتالي، فالدولة تستخدم القوة العسكرية في التدخل لتحقيق مصالحها، أو إذا وجدت ما يهدد أمنها، الأمر الذي دفع المواثيق الدولية والإقليمية إلى إقرار مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخري، منعا للفوضي الدولية، وحفاظا علي السيادة الوطنية للدول.
غير أن صعود القضايا الاقتصادية والمجتمعية علي حساب الأمنية، في سبعينيات القرن العشرين، دفع إلى بروز اتجاهات نظرية جديدة من أصحاب المدرسة الليبرالية، ومنظور الاعتماد المتبادل لإثناء الدول عن استخدام القوة ضد بعضها، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين، كما أعطوا أهمية لدور المنظمات الحكومية الدولية، كالأمم المتحدة، والتحرك الدولي لحماية حقوق الإنسان في الدول التسلطية.
بينما جاء التحول التنظيري الأبرز في إطار نظريات أطلق عليها "ما بعد وستفاليا Post Westfalia"، والتي سعت إلى إعادة المكانة للفرد وحقوقه، في ظل طغيان العولمة، وصعود أجندة حقوق الإنسان، والتحول الديمقراطي بعد انتهاء الحرب الباردة. كما تمت إعادة تعريف مفهوم السيادة الوطنية، فلم تعد الدولة تحتكر حق مسألة عدم التدخل في شئونها، إذ إن عليها في المقابل واجب حماية مواطنيها، وإذا فشلت فتئول مسئولية الحماية للمجتمع الدولي ومؤسساته، في إطار ما يسمي بـ "التدخل الإنساني"، خاصة بعد تزايد تعرض الأفراد والجماعات لعمليات إبادة علي يد الحكومات نفسها، لأسباب تتعلق باختلاف العرق أو الدين. من هنا، جاء التدخل الإنساني في إطار تدويل حقوق الإنسان، والربط بينها وبين ضمان السلم والأمن الدوليين. وبالتالي، لم تعد حقوق الإنسان ضمن الاختصاص الداخلي. ولعل البعض قد رأي أن العمليات العسكرية التي أطلقت في كردستان 1991، والصومال 1992، جاءت لتمثل شواهد علي عودة الروح لما يسمي بـ "الحرب العادلة" التي تخوضها الأطراف الأشد قوة علي المسرح الدولي، باسم ما اصطلح علي وصفه من الناحية النظرية "الأمن الجماعي والقيم الأخلاقية الكونية".
بيد أن ثمة عثرات تعرضت لها عمليات التدخل الإنساني، لعل أبرزها: اختلاط تطبيقها بانتقائية ومصالح القوي الكبري، وتنامي المردودات السلبية للتدخل في بعض الحالات، والتي خلفت ترديا لأوضاع الأمن الإنساني، أكثر مما عملت علي حمايته وتحقيقه. ولعل ذلك تجلي بوضوح في حالتي الصومال والعراق. بل إن تقاعس الأمم المتحدة والقوي الكبري، خاصة الولايات المتحدة، أمام المجازر الجماعية في رواندا في عام 1994، دفع إلى تطوير تطوير القدرة علي الاستجابة في الوقت الملائم للأزمات الإنسانية.
في هذا السياق، بزغ مبدأ "مسئولية الحماية Responsibility to Protect" الذي يستند إلى أن السيادة لم تعد توفر للدول حماية حصرية من التدخل الأجنبي، بل مناط السيادة أن تكون الدول مسئولة عن رفاهية شعوبها، وهذا المبدأ مكرس في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. وتم إقرار مبدأ" مسئولية الحماية" في القمة العالمية للأمم المتحدة في عام 2005، وتقرير الأمين العام لعام 2009، ويشير هذا المبدأ إلى أن الدول ذات السيادة يقع علي عاتقها مسئولية حماية مواطنيها من الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية. ولكن عندما تكون الدولة غير راغبة، أو غير قادرة علي القيام بذلك، فيجب أن يتحمل المسئولية المجتمع الدولي باستخدام الوسائل المناسبة الدبلوماسية والإنسانية وغيرها لحماية السكان من هذه الجرائم، وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
ووضعت الأمم المتحدة شروطا للمسئولية عن الحماية، من أبرزها: وجود خسائر في الأرواح علي نطاق واسع، ووجود سلطات مناسبة للتدخل من قبل مجلس الأمن والمنظمات الإقليمية، والنية السليمة. كما أنه ينبغي عدم اللجوء إلى القوة، إلا عندما يكون قد تم بحث كل وسيلة من الوسائل غير العسكرية للحيلولة دون حدوث الأزمة الإنسانية. أضف إلى ذلك أن التدخل العسكري لا يكون مبررا إذا كانت حماية السكان الفعلية لا يمكن تحقيقها، أو إذا كان من المحتمل أن تكون عواقب الشروع بالتدخل أسوأ من عدم القيام بأي عمل علي الإطلاق.
ورغم أن مسئولية الحماية في جوهرها تتعلق ببناء أكبر قدر ممكن من توافق الآراء للقيام بعمل دولي لمنع أو وقف الفظائع الجماعية، فإن تطبيق المبدأ اكتنفته مشكلات عديدة، بما جعله يحيد عن شروطه النظرية عند التطبيق علي أرض الواقع. فقد أعاق امتلاك القوي الكبري لحق الفيتو في مجلس الأمن تطبيق "مسئولية الحماية"، حينما رفضت كل من روسيا والصين تطبيق هذا المبدأ. وقد أدي هذا لتدخل حلف شمال الأطلسي في كوسوفو، دون موافقة مجلس الأمن. كما شهدت الحالة الليبية انحرافا أيضا في تطبيق المفهوم، لاسيما فيما يتعلق بالتهم الموجهة لحلف الناتو بأنه تجاوز حدود تفويض قرار مجلس الأمن، إضافة إلى أنه لم تُستنفد الوسائل الدبلوماسية، إذ بدا أن الهدف من العمليات إسقاط النظام كأولوية، وليس حماية السكان.
وبرغم مقتل عشرات الآلاف في الصراع السوري، فإن توازنات القوي بين الولايات المتحدة وروسيا منعت تطبيق مبدأ مسئولية الحماية، حيث ظهر أن القوي الكبري مهتمة بإسقاط النظام، أكثر من حماية السكان. بل إن القوي المتنافسة دعمت البيئة غير الآمنة للسكان بتمويل النظام والمعارضة بالأسلحة. وبرغم أن اتفاق روسيا والولايات المتحدة علي نزع الأسلحة الكيميائية لنظام بشار الأسد أجل التدخل العسكري الأمريكي، وأعطي أولوية للمحادثات السلمية، فإنه كشف من جانب آخر عن معضلة إهمال حماية السكان مقابل تحقيق مصالح تلك القوي، خاصة أن المعارك لم تتوقف، والضحايا لا يزالون يسقطون يوميا.
إذن، فالتطور الأحدث في ظاهرة التدخل الخارجي، وهو مسئولية الحماية، عاني معضلات مزمنة، كهيمنة توازنات المصالح بين القوي الكبري علي الأطر القانونية للتدخل، وعدم إيلائها للقيم الأخلاقية وزنا، إذا تصادمت مع مصالحها. أضف إلى ذلك أن نتائج التدخل قد تؤدي لعواقب وخيمة تتناقض مع الأهداف التي تصيغها القوي المتدخلة. فتجارب التدخل الخارجي لم تنتج بيئة دولية آمنة، بل خلقت تداعيات سلبية علي السلم والأمن الدوليين. فعلي سبيل المثال، فإن التدخل الخارجي في ليبيا أحدث عدم استقرار إقليمي في منطقة الساحل والصحراء، بل وفر من حيث لا يقصد ملاذات للجماعات الجهادية المسلحة التي لعبت دورا مؤثرا في مرحلة لاحقا في أزمة شمال مالي، والتي استدعت بدورها أيضا تدخلا خارجيا فرنسيا مدعوما بقوات أفريقية. كما أن إدارة مراحل ما بعد التدخل شابها الكثير من المشكلات، مثل الارتداد للسلطوية، وتردي الأمن الإنساني، وانهيار الدولة، وتزايد التنظيمات الارهابية، لاسيما أن عمليات تدخل القوى الكبرى أمست خاضعة لضغوطات الرأي العام، حتي إن دولة كبري، كالولايات المتحدة، بدت تتحول إلي استراتيجية التدخل" القيادة من الخلف قليلة الخسائر" في مرحلة ما بعد العراق وأفغانستان، للتواؤم بين مصالحها وضغوطات الرأي العام، وهو ما تجلي في الحالة الليبية خصوصا.
وعلى ذلك، تكمن أهمية العدد الجديد من ملحق "اتجاهات نظرية"، في المراجعة النقدية لنظريات التدخل الخارجي، ومدي ما أحدثه الواقع من إشكاليات دفعت لتطوير التنظيرات بخصوص تلك الظاهرة في العلاقات الدولية. وتبني الملحق مفهوم التدخل الخارجي، لاسيما أنه أكثر اتساعا، وملاءمة للتغيرات الجديدة في العالم التي تشير إلى أن التدخل لم يعد حكرا على الدول، والمؤسسات الدولية الحكومية، بل أصبح الفاعلون من غير الدول يمارسون تأثيرات على السلم والأمن الدوليين، وهو ما واكبته الحركة التنظيرية في العلاقات الدولية بمنظورات جديدة تنطوي على النظر للنظام العالمي، كما يشير جيمس روزناو، على أنه أكثر تعقيدا. إذ إننا أصبحنا أمام عالمين، أحدهما للدولة، وهو قائم على الشرعية وأدوات الإكراه، والآخر عالم متعدد المراكز، ويضم فاعلين من غير الدول، وهو قائم على الفاعلية والعلاقات غير الرسمية. ومن هنا، ينبغي فهم العالم في إطار التفاعلات بين العالمين، حيث يتعايش عالم الدولة، الذي لا يزال قائما، على الرغم من تراجع السيادة مع العالم المتعدد المراكز.
ويحاول الملحق الاجابة على تساؤلات مركزية تتعلق بظاهرة التدخل الخارجي، من أبرزها: ما هي التطورات في نظريات التدخل الخارجي في العلاقات الدولية؟، وما مدي تأثير طبيعة التغير في أطراف التدخل (دولة، منظمات دولية حكومية، فاعلون من غير الدول) في تغيير نمط التدخل نفسه وأدواته (عسكرية، اقتصادية، إنسانية ... إلخ)؟، وهل هنالك أشكال، ونماذج جديدة للتدخل ( جماعي، فردي، مباشر، غير مباشر) عكسها الواقع عبر الصراعات، والأزمات المتعددة على نظريات التدخل، وفلسفة نشوئها؟. أضف إلى ذلك، هل هنالك سياقات داخلية وإقليمية والدولية تشكل بيئة عامة محددة للتدخل، لاسيما في ضوء معضلة الانكشاف الداخلي للدول الأكثر عرضة للتدخل؟، كما أن ثمة ضرورة لفهم مرحلة ما بعد التدخل الخارجي، عبر تتبع نظري للأدبيات التي تفسر تلك المرحلة، ومدي انطباق الواقع عليها، في مسعى لتقويم مردودات التدخل الخارجي علي المجتمعات.