شهد عام 2013 تطورات مهمة على الأصعدة كافة، موضوعيا وجغرافيا، فقد حفل بأحداث مفصلية، بعضها يستحق وصف "تاريخي" في عدة دول ومناطق من العالم. وامتدت تأثيرات تلك الأحداث إلى مختلف المجالات سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا أيضا. ورغم أهمية وعمق التحولات التي حملها عام 2013 معه، فإن أحداثه وفعالياته لم تكن وليدة العام ذاته، أو حتي العام السابق، وإنما يعود بعضها إلى الأعوام القليلة التي مضت منذ بداية الألفية الثالثة، في حين يمكن تلمس إرهاصات البعض الآخر في سنوات أخري أسبق.
على الصعيد الأول، يمكن بسهولة إيجاد أسباب واضحة لحالة الانتكاس التي أصابت دول الربيع العربي، سياسيا واقتصاديا، في الأوضاع الداخلية والإقليمية التي أحاطت الثورات والانتفاضات العربية، وصاحبتها طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وهو ما ينطبق أيضا على حالة التردد والليونة التي اتسمت بها السياسة الخارجية الأمريكية في ملفات وقضايا، بعضها شديد الأهمية، مثل الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط، خاصة ملفي النووي الإيراني، والصراع العربي - الإسرائيلي، وبعضها الآخر شديد الإلحاح، مثل ارتفاع حدة التنافس الجيواستراتيجي مع الصين في أقاليم مختلفة من العالم. وتبلور في عام 2013 ما يمكن وصفه -مجازا- نمطا تخاذليا في السياسة الخارجية، حيث الانكفاء ليس عن مواجهة الحقائق أو التطورات، وإنما عن التعامل معها بما تستحق من قرارات ملائمة، أو بالأحري "إجراءات فعالة". ومع التسليم بأن تحديد وتقييم الفعالية والملاءمة يعود في الأصل إلى الدوائر المختصة في الدولة، فضلا عن نسبية وتفاوت التقييم من حالة إلى أخري، ومن طرف إلى آخر، فإن السمت العام الذي غلب على الأداء الخارجي الأمريكي، منذ تولي أوباما الرئاسة، كان الميل إلى الهدوء، وتفضيل أسلوب الحوار والتفاوض على الضغط والمواجهة.
على خلاف ذلك، واجهت الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 2013 أزمة حادة تتعلق بالديون الحكومية، اضطرت الحكومة الفيدرالية معها إلى تعطيل العمل، ووقف الرواتب جزئيا. إلا أن الأزمة تضرب بجذورها في الماضي لسنوات طويلة، لم تظهر خلالها عيوب وأوضاع هيكلية في الاقتصاد الأمريكي، حتي وقعت الأزمة المالية العالمية التي ضربت كثيرا من الاقتصادات الرأسمالية عام 2008، وهو ما مهد لتدهور الاقتصاد الأمريكي سريعا، خصوصا في جانبه المالي. مقابل التطورات التي استجدت، وكانت نتاج تراكمات سابقة، عادت إلى السطح ظواهر قديمة كانت قد انحسرت في الأعوام القليلة الماضية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك عودة ظاهرة الجهاد المسلح بكثافة في أكثر من بؤرة توتر، سواء داخلية أو إقليمية. ورغم أن الظاهرة لم تكن قد انتهت أصلا، فإن حدتها ومدي انتشارها كانا قد شهدا تراجعا ملحوظا، قبل أن يحمل عام 2013 معه دلائل واضحة على عودة الجهاد المسلح بقوة، سواء في مناطق التمركز التقليدي، مثل إفريقيا جنوب الساحل والصحراء، أو في بؤر جديدة مثل سوريا.
المشترك بين تطورات عام 2013، سواء المستجدة أو المتجددة، أنها شهدت حرصا متزايدا من الأطراف المعنية على الخروج من المآزق المرتبطة بها، ومحاولة تسوية أو على الأقل تهدئة الأزمات المصاحبة لها، وذلك على الرغم من إدراك أن كثيرا من القضايا يصعب حلها، أو تسويتها فعليا، مثل الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي بدأت الولايات المتحدة مع نهايات العام تتحرك حثيثا تجاهه بهدف التوصل إلى صيغة للتسوية، تعلم مسبقا أنها غير مقبولة من الطرف الفلسطيني، لكنها مدفوعة في ذلك التحرك باقتراب نهاية المهلة التي أتاحتها الجامعة العربية لتحقيق تقدم في المفاوضات. ومن ثم، يبدو التحرك الأمريكي بمثابة محاولة لإنعاش العملية التفاوضية المتعثرة، ولو باقتراحات لن تحظي بقبول، لكنها تكفي لإعادة الجدل حول التسوية السلمية، وبالتالي يمكن تأمين استمرار المسار التفاوضي، مع تغيير بعض تفاصيله وآلياته.
يبدو الأمر أكثر تعقيدا وصعوبة في الملف السوري، وكذلك فيما يتعلق بالتحديات الأمنية في الساحل والصحراء الإفريقية. بينما الوضع أخطر رغم وضوحه، وأكثر إلحاحا رغم طول أمده، وذلك بالنسبة للملف النووي الإيراني، وما يتشابك معه من قضايا حول دور وسياسة إيران الإقليمية.
وهكذا، يبدو جليا أن العالم يدخل عام 2014 بدوافع قوية نحو التعامل الفعال والمباشر مع ملفات كثيرة، تختلف في حدتها وتعقيدها وخطورتها، لكنها تشترك جميعا في تبلور قناعة لدي أطرافها وغيرهم من الفاعلين المؤثرين في الساحة العالمية بضرورة العمل على تغيير معطياتها الراهنة، وتحقيق اختراق إيجابي فيها، حتي وإن اختلفت الوسائل من حالة إلى أخري، سواء بالحوار والتفاوض، أو بالضغط والإجبار.
بيد أن التوجه نحول مزيد من الفعالية والتحرك النشط لا يعني بالضرورة توقعات إيجابية، أو حسابات مسبقة تضمن أو ترجح تحقيق مصالح ومكاسب من ذلك التوجه، بما يبرره ويمنح الأطراف المنخرطة في كل ملف أو المعنية به ثقة وحافزا للحركة. فقد تبلورت تلك الرؤية بضرورة الاشتباك مع تلك القضايا إيجابيا، نتيجة المخاطر التي ترتبت على طريقة معالجتها في الماضي. والمثال الأبرز على ذلك الملف النووي الإيراني، حيث أحرزت إيران تقدما تقنيا كبيرا في السنوات القليلة الماضية التي كان الغرب يرفض خلالها قبول مبدأ "إيران نووية"، أو يتشدد كثيرا في شروط ذلك الوضع بما يفرغه من مضمونه. وكانت المحصلة أن اضطر العالم إلى تعديل شروط وأسس، بل وسقف التفاوض مع طهران، تجنبا لمزيد من الخسائر، إذا استمر العمل بالمنطق السابق.
كذلك الأمر بالنسبة لقضايا أثبتت التطورات، غير مرة، ارتفاع تكلفة الاستمرار في التعاطي معها بمنطق إدارة الصراع وليس حله. ورغم ذلك وبسبب معطيات ومحددات تتعلق أحيانا بتناقض جذري في الحسابات والمواقف، فقد يظل المدخل الأساسي للتحرك في العام الجديد هو تثبيت أوضاع وتمرير الوقت، وليس البحث عن حلول، كما في حالة الصراع العربي - الإسرائيلي. فإخفاق كل المحاولات السابقة للتسوية لا يعني التخلي عن ذلك النمط في إدارة الصراع، حيث تدرك واشنطن جيدا أن أي حل جذري للصراع لابد أن يتضمن استحقاقات والتزامات لن تقبلها تل أبيب، ولا تجرؤ إدارة أمريكية على الجهر بها، إن أرادت، خاصة إذا كانت إدارة محاصرة وضعيفة لرئيس في ولايته الثانية، ينتمي للحزب الديمقراطي الذي سيخوض هذا العام انتخابات تجديد نصفي للكونجرس.
إذن، تتنوع الدوافع بين درء المخاطر المحتملة، وتقليل الأعباء الراهنة، وإعادة إنتاج الحلول المتعثرة. والمحصلة النهائية واحدة، هي مزيد من الانخراط البناء في المشكلات والقضايا الإقليمية وفوق الإقليمية. لكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن يكون 2014 عام إنهاء مشكلات العالم، ليس فقط في القضايا المعقدة التي يجري تدوير المواقف السابقة بشأنها، دون تحول حقيقي في أسس إدارتها، لكن أيضا في بعض الملفات التي يجري البحث فيها عن أدوات وأساليب جديدة للتعامل بسبب إخفاق الأساليب والمنطلقات السابقة. وبالطبع، لا يعني ذلك أن الجديد سينجح بالضرورة، أو أنه خضع لحسابات دقيقة، أو أن الأطراف قد قامت بمراجعة ذاتية لمدركاتها وحساباتها تجاه تلك الملفات. فتغيير الأدوات، والأساليب، ومداخل المعالجة لا يضمن بالضرورة تجنب الأخطاء ذاتها التي شابت المعالجات السابقة، الأمر الذي يفتح الباب أمام كل الاحتمالات، بدءا من النجاح الكامل إلى الفشل الذريع. ومن هنا، فإن التفاؤل في العام الجديد بمواقف مغايرة، يمكن وصفها بالإيجابية أو بالأحرى البناءة، يظل مشوبا بغموض في النتائج المتوقعة لتفاعل واحتكاك تلك المواقف عمليا.