يهرب أهل المشرق العربى بآمالهم من المستنقع الدموى الذى يكادون يغرقون فيه جميعا إلى مصر، برغم وعيهم بخطورة الظروف التى تعيشها والألغام الكثيرة المزروعة فى الطريق مستقبلها. ذلك أن التجارب التاريخية قد أثبتت للعرب فى مختلف ديارهم أن شعب مصر عميق الإيمان لدرجة التطهر من التعصب الطائفى والمذهبى. وثمة مقولة شهيرة يعتمدها المؤرخون للفتن والحروب الطائفية التى شهدها المشرق العربى عبر تاريخه الحديث خلاصتها: إن فى مصر دينا لا تعصب وان فى بلاد الشام دينا وتعصبا وان فى ما خلفها تعصبا أكثر مما فيها دين. ومعظم الحروب أو الفتن، كبراها وصغراها، التى شهدتها بلاد الشام، بعد سيادة الإسلام فيها، وتحديدا بين السنة والشيعة وبين الفرق المختلفة عموما، لم تمتد بتأثيراتها المدمرة إلى مصر وما بعدها حيث ساد المذهب المالكى فاتبعته الأكثرية الساحقة من المسلمين فى شمال أفريقيا، بينما توزع المسلمون من أهل السنة فى المشرق على أكثر من مذهب (الحنفى والحنبلى والشافعى)، وانحصر أهل الشيعة الاثنى عشرية فى العراق وبعض لبنان. ولأن مصر لم تعرف التعصب الدينى أو المذهبى فقد كانت على الدوام مؤهلة للعب الدور الجامع بين المسلمين، لاسيما بعد اعتراف الأزهر الشريف بمذهب الشيعة الاثنى عشرية واعتماده كمذهب خامس إلى جانب المذاهب السنية الأربعة.
هذا على المستوى الدينى والمذهبى، أما على المستوى السياسى فقد كانت مصر «اكبر» من الخلافات والانقسامات بل والصراعات الحزبية التى فعلت فعلها فى المشرق العربى، متخذة فى بعض الحالات الطابع العلمانى للخروج من دوامة الصراع الطائفى أو المذهبى، وحتى الدينى. فعرف المشرق أولى الحركات السياسية المبشرة بالعروبة مع بداية القرن العشرين، وكانت معظم قياداتها كما المؤسسين الذين ارسوا دعائم العلمانية فى العمل السياسى والابتعاد عن زج الدين فيه من المسيحيين. هذا فضلا عن المؤرخين والعلماء الذين أعادوا الاعتبار إلى اللغة العربية (لغة القرآن الكريم). ولم تكن مصادفة أن يبرز انطون سعادة مؤسس الحزب السورى القومى الاجتماعى (العلمانى) ثم ميشال عفلق، مؤسس حزب البعث العربى الاشتراكى، ثم الدكتور جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب، وان تلعب هذه الأحزاب السياسية الدور الأبرز فى تاريخ العمل السياسى فى المشرق العربى خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، ثم أن تكون جميعها فى طليعة المنادين بالكفاح المسلح من أجل عروبة فلسطين فى مواجهة المشروع الصهيونى بمرتكزاته الدينية، والذى نجح ــ بالدعم الدولى المفتوح ــ فى إقامة الكيان الإسرائيلى.
ما علينا وللتاريخ. لنعد إلى الواقع الماثل أمام عيوننا وأحداثه الراهنة التى تتهدد دول المشرق العربى فى هويتها القومية كما فى وجودها السياسى. فليس سرا أن الصراع الدائر الآن على الأرض السورية، بتداعياته المؤثرة على الواقع العراقى فى أعقاب الاحتلال الأمريكى، قد اخذ يتجاوز الإطار السياسى وينحو فى اتجاه الحرب الأهلية على قاعدة طائفية ومذهبية فيما بين المسلمين (سنة وشيعة وعلويين ضمنا)، ويستدرج أطرافا أخرى، عربية (السعودية ودول الخليج) وخارجية (إيران الشيعية والى حد ما تركيا الإخوان المسلمين) إلى الانخراط فى هذه الحرب التى أخذت تكتسب أبعادا لا علاقة لها بالمطالب السياسية (الحريات، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، الخ) بل هى تنذر بحروب بين المسلمين مرشحة للتمدد فى كامل مساحة المشرق العربى فيما بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر (حتى لا ننسى اليمن). ولبنان ليس بعيدا عن مخاطر الانزلاق إلى هذا الأتون الدموى، حيث تتواجه أكثريتان إسلاميتان (سنية وشيعية) فى قلب نظام سياسى يقوم على قواعد طائفية، حيث تتوزع الرئاسات فيه الطوائف الكبرى وهى: المسيحيون الموارنة (رئاسة الدولة) والمسلمون من أهل السنة (رئاسة الحكومة) والمسلمون الشيعة (رئاسة المجلس النيابى) بينما تتوزع الطوائف والمذاهب ــ إسلامية ومسيحية ــ المقاعد النيابية والوزارات والإدارات على قواعد طائفية ومذهبية دقيقة. نسرد هذه الوقائع المفزعة لكى نؤكد الاحتياج الملح فى المشرق العربى إلى دور مصرى فاعل ومؤهل وقادر على وقف هذه الصراعات المهددة بتمزيق الأمة، وإعادة الأمور إلى نصابها. فالأصل فى الصراع المحتدم «سياسى»، وإن ارتدى فى حالات كثيرة أو لبس المظهر الطائفى. فإلى ما قبل الاحتلال الأمريكى للعراق كان الطابع الغالب على الصراعات فى هذه المنطقة هو التنافس السياسى بين أحزاب وهيئات وقوى سياسية، وموضوعه الأول والأخير: السلطة. ولقد برز العامل الطائفى، ثم المذهبى، وأخذ يحتل صدارة المشهد السياسى، مع تراجع العمل السياسى عموما وتهاوى الأحزاب العلمانية التى تولت القيادة فى معظم النصف الثانى من القرن الماضى وحتى الأمس القريب.
ويمكن التأريخ لبداية هذا التحول مع إسقاط الاحتلال الأمريكى نظام صدام حسين فى العراق الذى كان يموه انفراده بالسلطة بشعارات حزب البعث العربى الاشتراكى، ثم بإقدام الاحتلال على تسليم مقاليد السلطة فى العراق إلى «الشيعة»، بذريعة أنهم الأكثرية. وعبر الممارسات التى اعتمدها الحاكم العسكرى الأمريكى فقد ثارت الشبهات حول تواطؤ ما أمريكى ــ إيرانى على صيغة الحكم الجديدة فى العراق، واعتبر «تسليم الشيعة مفاتيح السلطة» دليلا دامغا على هذا التواطؤ، بغض النظر عن حقيقة أن الأكثرية فى العراق «شيعية» خاصة بعد فصل الأكراد فى إقليمهم واعتبارهم «شعبا آخر بقومية مختلفة تغلب على الانتماء الطائفى أو المذهبى».
طبيعى أن يكون لهذا التحول فى «طائفة» الحكم فى العراق انعكاساته على دول المنطقة المحيطة به والتى يشكل السنة أكثريتها الساحقة. وكان أول من بشر بهذا التحول الملك عبدالله بن الحسين ملك الأردن الهاشمى حين صك الشعار التهييجى عن خطر «الهلال الشيعى» الذى يمكن أن يشمل منطقة المشرق العربى عموما ليتصل بإيران محاصرا أهل السنة ومنتزعا منهم السلطة عبر حلف سياسى ــ طائفى مع «الثورة الإسلامية» فى إيران التى لا يمكن إخفاء هويتها المذهبية، الشيعية، فضلا عن افتراقها عن الهوية القومية لمنطقة المشرق العربى. وطبيعى أن يكون للاحتلال الأمريكى، وللمشروع الإسرائيلى، فوائد جمة فى تحوير طبيعة الصراع فى المنطقة، لاسيما وقد اختفت فى غياهبه القضية المقدسة: فلسطين.
على هذا فإن مصر لوحدها يمكن أن تستنقذ المشرق العربى من مخاطر الفتنة المذهبية التى تفجرت ــ فعليا ــ فى العديد من أنحائه. من هنا كان السقوط الذريع للشعارات السياسية التى رفعت فى الاعتراض على النظام السورى، والتى قد تكون محقة فى جوهرها (المطالبة بالديمقراطية وبإسقاط الامتيازات الطائفية أو المذهبية وبإنهاء حكم الفرد.. الخ) وان كان قد بقى منها فى الممارسة المناداة «باستعادة أهل السنة حقهم فى حكم سوريا، بوصفهم الأكثرية الساحقة، وكذلك تخليص العراق من حكم الشيعة تحت مظلة الهيمنة الفارسية».
إن مصر، وبرغم انشغالها بهموم المرحلة الانتقالية، وهى كثيرة وثقيلة الوطأة، يمكنها أن تلعب دورا تاريخيا فى استنقاذ هذا المشرق العربى من خطر التفتت فى غياهب فتنة طائفية، وصراع عربى ــ فارسى سيرتد مزيدا من الدمار فى النفوس كما على العمران فى هذه المنطقة.
إن مصر الثورة وحدها المؤهلة لأن تبعث الاطمئنان فى نفوس الخائفين أو المخوفين، بحضورها وبالتقدم لاستعادة دورها القيادى فى منطقتها. كما أن مصر الثورة وحدها المؤهلة لفتح حوار صحى مع إيران، على قاعدة المصالح المشتركة لأهل المنطقة جميعا، عربا وإيرانيين.
إن مصر فى موقع القيادة يمكنها أن تلجم الجموح الإيرانى، إذا ما كان هناك من جموح ــ كما يمكنها أن تهدئ نفوس الخائفين من أهل السنة من «الاجتياح الشيعى»، وكشف الأوهام وإسقاطها، وإعادة الأمور إلى نصابها السياسى.
وهذه المعركة السياسية ذات الأهمية الفائقة ليست تورطا فى حرب فى الخارج، بل هى انجاز تاريخى لتثبيت هوية المنطقة ولتصحيح العلاقة بين العرب فيها وجيرانهم من حولها، وفى الطليعة منهم إيران التى تستطيع مصر أن تطمئنها إلى مصالحها وقد اضر بها الحصار الدولى مع عدم التفريط بمصالح الأمة فى حاضرها ومستقبلها، خصوصا أن هموم تركيا الداخلية قد أخذت تشغلها عن طموحها إلى دور إمبراطورى عثمانى بقبعة أمريكية.
-----------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأربعاء، 25/12/2013.