كما شغلتني أكاديميا حالة الصراع بين الأمم، كانت تجارب التكامل والاتحاد والوحدة انشغالا آخر، وعندما جرى الحديث عن مشروع لاتحاد دول الخليج العربية، لم يكن بالنسبة لي فيه جديد. وإذا كان هذا الانشغال هنا وهناك يخلص إلى شيء، فإنه لا يوجد صراع أو نزاع ليس له حل، كما أنه لا يوجد توجه نحو الاتحاد لا يمكن تذليل الصعوبات من أمامه. كلتا الحالتين تمثلان حالة متطرفة من العلاقات الدولية، ولكنها شائعة، حتى أن الوحدة والاتحاد قد يأتيان من رحم الصراع والنزاع، والنموذج الأوروبي كثيرا ما يضرب به المثل. وحالة الخليج مثلها مثل كل الحالات، هي من ناحية لها خصوصيتها، ولكنها من ناحية أخرى ليست استثناء يخرجها من العلم والتاريخ. وفي وقت من الأوقات تصورت أن ذلك ممكن بعد أن قام العراق بغزو الكويت، فطلبت قطر من مصر أن ترسل لها خبيرا في الأمور السياسية وآخر في العسكرية، وكنت الخبير الأول، أما الثاني فكان اللواء فؤاد هويدي الذي عمل في المخابرات الحربية أثناء الحروب العربية - الإسرائيلية، كما كان «الخبير» وراء الفريق الجمسي في المفاوضات التي تلت حرب أكتوبر (تشرين الأول). وهكذا شاهدت المشهد الخليجي «الموحد» بالفعل أثناء الأزمة، وما بعدها الحرب، وما بعد الحرب من مفاوضات. ومن المدهش، وما لم تخني الذاكرة، أن عمان كانت هي الدولة التي اقترحت فكرة إنشاء جيش خليجي موحد قوامه 100 ألف من الرجال. وفي ذلك الوقت رأيت أن ذلك ربما كان فكرة طموحة أكثر مما هو ممكن، أما ذلك الممكن الذي أشرت إليه فقد كان الحفاظ على القيادة العربية الموحدة التي تكونت أثناء الحرب، وتدربت من خلالها جيوش الدول الست على التعاون معا، وهي تجربة ثمينة في جميع أبعادها. أيامها قيل لي إن قطر دولة صغيرة، وهي لا تستطيع أن تتبنى مثل هذه الأفكار الطموحة.
مضت الأيام وأصبحت قطر كما شهدناها، وأفلتت فرصة كبرى، كما أفلتت معها مقترحات أخرى أقل طموحا حينما وجدت أن دول الخليج العربية الست لها برامج عالمية للإغاثة الدولية، وكثيرا ما أشارت إليها المنظمات الدولية بالتقدير، وكان منطقيا قيام منظمة خليجية كبرى للقيام بمثل هذه المهمة على المستوى العالمي، فيكون للعرب سمعة إنقاذ البشر. ومع ذلك فإن مجلس التعاون لدول الخليج العربية مضى يتقدم بعد هذا الامتحان خطوة بعد الأخرى، وهذه كان يراها البعض أسرع مما يجب، وآخرون أبطأ مما يلزم. ولكن ذلك هو حال التجارب الوحدوية، طالما أنها تظل أولا واقعة في إطار التعاون وليس النزاع، وثانيا أنه حينما يجدّ الجد فإنها تقف وقفة واحدة. وفي الأولى وصل مجلس التعاون إلى مرتبة الاتحاد الجمركي، وفيها كانت اتفاقية الاتحاد النقدي التي بالمناسبة جرى توقيعها في مسقط في ديسمبر (كانون الأول) 2008 وجرى التصديق عليها من قبل الدول الأعضاء في 27 فبراير (شباط) 2010. ولمن لا يعرف، فإن حجر الزاوية في إقامة الاتحاد الأميركي كان إقامة بنك مركزي موحد وعملة موحدة، وحول هذه القضية جرى النقاش والحوار الحاد بين ألكسندر هاملتون وتوماس جيفرسون وانتهى الأمر لصالح الأول. وكان من الممكن للاتحاد الأوروبي أن ينفرط حاله مع الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة، لولا أن خسائر انهيار منطقة «اليورو» كانت أعلى بكثير من مواجهة الأزمة بوسائل أخرى. في الثانية وكما ذكرنا وقفت دول المجلس كلها وقفة رجل واحد إبان أزمة وحرب تحرير الكويت، وقبلها في ما تعلق بالحرب العراقية - الإيرانية، وبعدها عندما تعرضت عمان أخيرا لظروف صعبة، وعندما وصلت الأزمة في البحرين إلى مرحلة حرجة من التآمر الخارجي، كان استدعاء قوات «درع الجزيرة» هو الذي حسم الأمر.
المسألة هكذا ليست عما إذا كان واجبا إقامة الاتحاد الخليجي أم لا، ولكن كيف يجري ذلك؟ وعندما يثار مثل هذا السؤال، وأسئلة كثيرة مرتبطة به، فإنه ليس جديدا بالمرة ما يأتي معها من شكوك أو هواجس. فلم يحدث أن كانت هناك تجارب وحدوية، إلا وأثير فيها قضية التفاوت في الحجم بين الدول الأعضاء، ولم تكن الولايات الأميركية الثلاث عشرة متساوية الحجم لا من حيث عدد السكان، ولا المساحة، ولا القوة المالية، ولا العسكرية. وفي الاتحاد الأوروبي لم تكن هولندا والدنمارك ومعهما لكسمبورغ مثل بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا. وكانت قضية الهوية أحيانا مثارة خاصة بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتينية في أوروبا، أو بين ولايات أميركية اعتقدت حقا أن «العبودية» جزء من تعاليم الكتاب المقدس، وولايات أخرى اعتقدت أن «الحرية» هي الأصل في وجود الإنسان. وهناك دائما قائمة طويلة بمشكلات أخرى تخص كل منطقة، وكان حلها سياسيا عن طريق «دستور» هو ما جرى في أميركا، أو وظيفيا كما حدث في أوروبا، أو عن طريق طاحونة كلام ومفاوضات لا تهدأ في جنوب شرقي آسيا. وبهذا المعنى، فإن الخليج سوف يخلق لغته الخاصة التي يقف فيها خلف الأشكال والنظم علاقات قبلية وعائلية وتقاليد مشتركة، وتجربة مع النفط والصناعة والتنمية، يندر أن نجد لها مثيلا في منطقة أخرى.
وإذا كان لعربي يكنّ لدول الخليج كل التقدير، أن يعطي خلاصة التجارب العالمية في الأمر، فهي أولا لا للحديث كثيرا عن الوحدة أو الاتحاد في العلن، فالعلانية مجالها الإعلان عما يجري التوافق عليه، وحشد الموارد من أجله.
وثانيا البحث دائما عن الممكن، وهناك عشرات المجالات التي يمكن السير فيها من دون أن تضغط على حساسية أو تدوس على أصبع. وثالثا أنه يمكن السير بسرعات مختلفة، فليس كل دول الاتحاد الأوروبي أعضاء في منطقة اليورو أو أعضاء في التأشيرة الموحدة. ورابعا أن هناك ضرورة لتعويض المتضرر من إجراء ما، كما أن هناك حاجة لتنمية الأقل حظا، فترتفع سقوف المصلحة لدى الجميع. وخامسا أن الاتحاد ليس بالضرورة نقيض السيادة، فهذه يمكنها دوما البقاء لو حسنت الترتيبات والأنظمة. وسادسا، وربما كان الأكثر أهمية، أن قضية تفاوت الأحجام موجودة دائما في الواقع، وسواء كان هناك اتحاد أو لا، ولكنها يمكن تلافيها عندما تصب في مجالس تتساوى فيها الأصوات والأحجام. وفي كل الأحوال، فإن النصائح قد تكون مفيدة، ولكن التجارب دائما ما تجد في الواقع ما هو أكثر حكمة وغنى.
-------------------------
نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، 18/12/2013.