لا شك أن حالة غامرة من الحزن تعمّ الشرق الأوسط في عطلة نهاية الأسبوع عندما سيودّع العالم نيلسون مانديلا، ويتصادف هذا الموعد مع زيارة استطلاعية سأقوم بها إلى المنطقة. فلقد كان مانديلا يجسّد شخصية رجل حكيم ناضل بتفانٍ لا نظير له لإنهاء حكم عنصري جائر كانت ترزح تحته أغلبية سوداء من طرف أقلية بيضاء حتى أصبح اسمه رديفاً للتسامح مع أنداده البيض عندما استعاد أبناء جلدته السود زمام السلطة.
ويمكن لغياب القادة الحكماء من طراز مانديلا أن يفسر السبب الذي أدى بـ«الربيع العربي» إلى هذه النتائج غير المحمودة. ففي مصر، فاز محمد مرسي في انتخابات تاريخية، إلا أنه أظهر عجزاً لا يُغتفر في القدرة على إخفاء مشاعره الآسرة المتعاطفة مع أقرانه من «الإخوان المسلمين» الذين أرهبوا المسلمين المعتدلين والمسيحيين على حدّ سواء. وكان هذا السلوك المنافي لأبسط مفاهيم الأخلاق السياسية كافياً لتدخل الجيش المصري وإبعاده عن السلطة.
وفي سوريا، واصل العلويون والمسيحيون تأييدهم للديكتاتور الأسد بدافع خوفهم من أن يؤدي انتصار السُنّة إلى إبعادهم عن المعادلة السياسية. ولم نرَ سنّياً واحداً من طراز نيلسون مانديلا يمكنه أن يطمئنهم ويزيل مخاوفهم.
ومع كل هذا، هناك قِلّة من قادة الشرق الأوسط من الذين يمكنهم، أو يسعون على أقل تقدير، لإقناع بقية الأقليات والمذاهب والعشائر بأنهم لا يريدون إبادتهم لو خسروا الانتخابات. ولهذه الأسباب، سيطر القلق على دول الشرق الأوسط التي بدأت لتوّها تتذوّق طعم الحرية والديموقراطية وبدأت الآن بالعودة إلى الوراء نحو الحكم الاستبدادي والفوضى.
ولم تعد حكاية الشرق الأوسط الجديد ترتكز على أساس إحلال الديموقراطية باعتبارها تمثل البديل الشرعي الوحيد والمقبول للاستبداد والديكتاتورية، بل أصبحت تعني بشكل أساسي البحث عن طريقة مناسبة للتعامل مع الفصائل والمجموعات «الجهادية» التي تمكنت من استغلال الفرصة وتسللت إلى الساحة، بما فيها تنظيم «القاعدة»، وأصبحت هذه الفصائل تزدهر وتجد الملاذ الآمن الجديد في الدول ذات الحكومات التي أصابتها انتفاضات «الربيع العربي» بنوع من الشلل والتصدّع مثل ليبيا واليمن والعراق وسوريا. وباتت العديد من دول الشرق الأوسط أمام خيارين لا ثالث لهما (مثلما كانت قبل انتفاضات 2011) وهما: قبول الحكم من قبل أشخاص أقوياء أو من قبل إسلاميين متطرفين.
ومن خلال زيارة أعتزم القيام بها إلى القاهرة وستقودني بعد ذلك إلى الحدود التركية- السورية، سوف أوجّه جملة من الأسئلة للنشطاء السياسيين المصريين والسوريين عما إذا كانت هناك ثمّة طريقة للخروج من هذا المأزق.
وفي مصر، هناك احتمال كبير بالعودة إلى الديموقراطية. ومما يؤيد هذا الحكم هو أن الدستور الجديد الذي أعدته لجنة الخمسين، يقضي بأن يتم تنظيم الانتخابات الشهر المقبل.
ويبدو بوضوح الآن أن الجيش المصري يمثل اللاعب الأكثر قوة في البلاد، وسوف يمتنع عن التدخل في انتخابات مرشح جديد للرئاسة. وإذا حدثت أية عراقيل فسوف تبقى الأمور بشكل مؤقت في عهدة وزارة الدفاع التي يقودها السيسي بشخصيته الكارزمية القوية.
وسوف أتحدث خلال زيارتي المقبلة إلى القاهرة مع النشطاء السياسيين والنساء وأعضاء البرلمان المنحلّ والجنرالات والقادة الإسلاميين حول مستقبل مصر وما إذا كان بالإمكان ابتداع نظام يمكنه أن يحتضن الجميع. وذلك لأن مصر تبقى الدولة المحورية في المنطقة مهما كانت الظروف.
وتوحي الأحوال السائدة في سوريا بافتقاد أكبر لـ(نموذج مانديلا). فلقد بدا واضحاً أن الأسد تعمّد استهداف الجماعات والأحزاب المعارضة من المسلمين المعتدلين في الوقت الذي سمح فيه للإسلاميين المتطرفين بالعمل بحرية مطلقة. ولقد نجح في تحقيق هدفه عندما عانى المعتدلون من ضآلة المساعدات العسكرية التي تأتيهم من الدول الغربية بسبب مخاوفهم من وقوعها في الأيدي الخاطئة، وتحقق للجماعات الجهادية في المقابل ما كانت تحلم به من دعم وبما سمح لها بالازدهار والانتشار.
وأعلن الديكتاتور الأسد لجماعته من الأقلية العلوية التي تشعر بالخوف، أن تنازله عن السلطة سوف يؤدي إلى القضاء عليهم. وكرر مقولته ذاتها أمام المسيحيين، وزعم أن الحكومات الغربية تريد بقاءه في السلطة حتى يواصل حربه ضد تنظيم «القاعدة» وبقية الجماعات الأصولية التي تسرّبت إلى ساحات المعارك داخل سوريا.
والأسد يمثل وجه النقيض لمانديلا لأنه عمد إلى زرع الخوف والرعب في شعبه، وهو الذي فتّت الأمة، وقسّمها، ولكنّه نجح في الاحتفاظ بالسلطة، وهذا هو المهم.
ومن المنتظر أن تنطلق المحادثات حول الأزمة السورية الشهر المقبل في جنيف إلا أن من العسير تصور أي مخرج للأزمة. ولقد أظهرت الدولتان المؤيدتان للأسد روسيا وإيران القليل من المؤشرات الدالة على إمكان التراجع عن موقفهما. وكل ما يؤمل منهما هو أن إجبار الأسد على القبول بمرور المساعدات الإنسانية إلى اللاجئين والنازحين داخل سوريا. ولا يزال أوباما يبدي عدم اكتراثه بتسليح ثوار المعارضة المعتدلة. ولقد فات وقت هذا الحل على أي حال.
وسوف أتحادث خلال رحلتي المقبلة مع المواطنين السوريين والنشطاء العسكريين المقيمين على الحدود التركية للاطلاع على آرائهم حول ما إذا كانت هناك ثمة فرصة للإبقاء على وحدة الأراضي السورية. ولو كان هناك معارض من طراز مانديلا، لكان في وسع السوريين أن يتجنبوا الاختيار المخيف بين بقاء الديكتاتور أو تسليم السلطة لتنظيم «القاعدة» ولكن.. ولسوء الحظ، لا يوجد سوري من هذا الطراز.
-----------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين، 16/12/2013.