يعود جزء كبير من اللغط الدائر الآن فى مصر والعالم حول دور الجيش المصرى فى السياسة إلى القصور فى فهم تاريخه ودوره فى حماية الدولة المصرية وهويتها ومكانتها، وهذا التاريخ، والذى يعود إلى ما ينهاز سبعة آلاف عام، يؤكد مدى مهنية وحرفية الجيش المصرى، وأنه جيش دفاعى مهمته حماية أقدم دولة فى التاريخ، والواقع أن هذه المهنية والحرفية وفلسفته الدفاعية كلها ساهمت فى الحفاظ على الدولة المصرية وحدودها منذ الفراعنة وحتى اليوم، ومما ساعد الجيش على القيام بتلك الوظيفة ما يتسم به المصريون من وحدة وانصهار وتكامل لا توجد فى معظم دول العالم خصوصا القديمة منها، وهذا ما يحاول الإخوان هدمه والنيل منه.
فقد حافظ الجيش المصرى على استقلال مصر فيما عدا مراحل تاريخية محدودة؛ ففى الدولة المصرية القديمة ومنذ سبعة آلاف عام، أنشأ الفراعنة أول جيش مركزى فى التاريخ حافظ على كيان الإمبراطورية المصرية إلى نهاية المملكة الوسطى التى تفاقمت عليها التهديدات سواء من دول الجوار أو دول منابع النيل أو الأقاليم فى الداخل، ونظرا لانشغال الفراعنة ببناء الأهرامات، واعتمادهم فى جزء من البناء على عمال ينتمون إلى الهكسوس وتخويل حكام الأقاليم تشكيل جيوش إقليمية؛ فقد ضعفت قدرة الدولة الدفاعية، مما أدى إلى احتلال الهكسوس لمصر مستعينين فى ذلك بمواطنيهم العاملين داخل مصر، وقد أدى ذلك إلى تصميم الفراعنة، والذين انزووا فى طيبة على بناء جيش مركزى قوى لديه أسلحة عصرية بمقاييس زمانهم، وتم تحرير مصر منهم، ومن بعدهم الحيثيين؛ حيث استطاع رمسيس الثانى تطوير القدرات العسكرية للجيش المصرى بإدخال العجلات الحربية (سلاح النخبة)، وإنشاء القلاع الاستراتيجية وبناء المراكز الدفاعية المتقدمة، كما لاقى التحدى الذى فرضه على الدولة المصرية ما أطلق عليهم آنذاك «سكان البحار»، أى سكن الجزر القريبة من مصر والموجودة فى البحر المتوسط، بإنشاء أسطول بحرى، وهكذا، لعب الجيش المصرى دورا أساسيا فى الدفاع عن الوطن والمواطنين دون تهديد جيران مصر، وهذه مسألة مهمة؛ حيث رسخ لدى الجيش المصرى مبدأ سياسيا مهما يكمن فى دفع الأعداء والطامعين والمغيرين خارج حدود الدولة المصرية دون القيام بالتوسع الخارجى أو الاستقرار خارج الحدود.
ولم يحدث فى تاريخ مصر أن خرج الجيش المصرى خارج أراضى الدولة المصرية لاحتلال أراض أو أقاليم دول مجاورة، ولكنه يقوم بمهامه بصورة احترافية، ويعود إلى أرض الوطن، وقد حدث ذلك أيضا فى العصر الحديث؛ فحينما تولى محمد على السلطة فى مصر بمباركة الأزهر، أراد بناء دولة حديثة عصرية قوامها اقتصاد قوى، وبيروقراطية حديثة ومدربة، ومجتمع ديناميكى متطور، وجيش مركزى قوى يتحدى به الإمبراطورية العثمانية، ورأى، عن حق، أن تقدم مصر يكمن فى الصناعة، وعلى رأسها الصناعات الحربية، وهكذا، تركزت صناعة السلاح، وخاصة المدافع والذخيرة بالقاهرة، والسفن والأسطول البحرى فى الإسكندرية، وبنهاية القرن التاسع عشر، صار لمصر أسطول يتكون من تسع سفن؛ على متن كل منها ما يناهز مائة مدفع، كما أرسل بعثات تعليمية إلى أوروبا، وخاصة فرنسا، كان القصد منها أن يسهم العائدون فى بناء جيش عصرى ملم بتكنولوجيا السلاح، كما قام بتقديم دليل عمل Manual لكيفية استخدام السلاح والتكتيكات العسكرية للجيش المصرى، ولم يستخدم محمد على الجيش خارج حدود مصر إلا لتأمين منابع النيل باعتبارها المجال الحيوى للأمن القومى المصرى، أما قواته التى ذهبت إلى الحجاز؛ فقد تم إرسالها لإرضاء الباب العالى الذى كان يريد إعادة الحجاز إلى سيطرة الدولة العثمانية.
وفى عام 1962، أرسل عبدالناصر القوات المسلحة المصرية إلى اليمن لتأمين النظام الجمهورى الجديد إلى أن وصلت، عام 1965، إلى حوالى 55.000، وهو أكبر عدد من قوات الجيش المصرى يحارب خارج حدود الدولة المصرية، وسرعان ما عاد إلى الوطن بعد استقرار النظام الجمهورى فى اليمن، وعلى الرغم من نكسة 1967 على يد جيش إسرائيل، والتى تعود ــ فى جزء منها ــ إلى انشغال الجيش آنذاك بالسياسة، إلا أن الجيش المصرى استطاع إعادة التدريب والتسليح وتحرير سيناء بعد انتصاره فى حرب 1973، وبعدها انخرط الجيش المصرى فى مناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الأمريكى فيما سمى «النجم الساطع»، كما اشترك فى «عاصفة الصحراء» بقصد تحرير الكويت من الاحتلال العراقى، ثم عاد إلى الوطن، ولم يظل خارج الحدود، وفى منتصف الثمانينيات، قرر الجيش إنشاء جهاز الخدمة المدنية لكى يتحول من مؤسسة استهلاكية إلى مؤسسة إنتاجية تتمكن من توفير جزء من احتياجاته بنفسه، وهى فكرة إبداعية بادر بها وزير الدفاع الأسبق المشير أبوغزالة رحمه الله، واشترك الجيش فى مشروعات تنموية رئيسية تتعلق بالبنية التحتية كالطرق السريعة والكبارى وغيرهما، وهكذا، يلتزم الجيش المصرى بالحياد سياسيا إلا فيما يتصل بتحقيق الأمن القومى العربى والمصرى خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على كيان الدولة وتكاملها واستقلال الدول العربية.
إن العرض السابق لم يجب على سؤال رئيسى، وهو دور الجيش المصرى فى السياسة خصوصا بعد ثورة 1952 وثورتى 25 يناير 2011، و30 يونيه 2013، والإجابة عن هذا السؤال ليست يسيرة أو قاطعة؛ فقد تولى حكم مصر منذ عام 1952 رؤساء عسكريون فيما عدا فترة حكم الرئيس المعزول، والرئيس المؤقت الحالى المستشار عدلى منصور، وقد أعطى عبدالناصر أولوية للعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية على حساب الحريات السياسية، ولكنه ساهم فى تشكيل طبقة متوسطة واسعة حاولت الاضطلاع بالتنمية الاقتصادية، بينما أعطى السادات أولوية للتعددية السياسية والانفتاح الاقتصادى على العدالة الاجتماعية، وإن انتهى حكمه بعدم النجاح فى أى من تلك الأبعاد، أما مبارك؛ فقد خلق جمودا سياسيا فى مصر لم يسبق له مثيل وقام بتجريف النخبة السياسية بصورة تكاد تكون تامة، وأدت سياساته إلى تقليص الطبقة المتوسطة وإنهاكها سياسيا واقتصاديا، كما أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذى ساند ثورة 25 يناير لم يكن له موقف محدد سياسيا أو اقتصاديا، وإن استمرت الحريات الأساسية التى نجمت عن ثورة 25 يناير دون مساس، أما أول رئيس مدنى منتخب؛ فحدث ولا حرج، لقد كان على وشك إضاعة استقلال البلاد وتكاملها الداخلى وحدودها التاريخية، ولم ينحز إلى العدالة الاجتماعية أو الحريات السياسية، بل وعلى العكس تماما، حاول خلق نظام ثيولوجى استبدادى لا يمكن الفكاك منه، ولاشك أن القضاء على الحكم الثيولوچى الاستبدادى قد تم باكتمال التعاون العضوى بين الجيش والشعب المصرى؛ حيث عاد الجيش مرة أخرى لدوره التقليدى فى الحفاظ على كيان الدولة واستقلالها والأهم محاولة الحفاظ على وحدتها وتكاملها، وهى سمتها التاريخية التى حاول الحكم الثيولوچى الاستبدادى النيل منها.
إن الحفاظ على كيان الدولة المصرية، والحرص على وحدة وتكامل المصريين، والانطلاق إلى آفاق المستقبل، والاستجابة لتطلعات وآمال المصريين تستلزم وجود قيادة ملتزمة تستشرف المستقبل، ولديها قدرة إبداعية وخبرة إدارية فائقة التنظيم والترتيب، وقدرة استثنائية على اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بانطلاق مصر داخليا وخارجيا؛ فهل هناك شخصية مدنية تتوافر فيها تلك الخصائص اليوم أو فى خلال الستة أشهر المقبلة؟ ربما يحدث ذلك، وإن كنت أرى أنه إذا ترك الفريق أول السيسى منصبه كنائب أول لرئيس الوزراء ووزيرا للدفاع والإنتاج الحربى؛ فمن حقه الترشح للرئاسة ويترك أمر الاختيار الحر بين المرشحين للشعب المصرى وحده.
-----------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الثلاثاء، 3/12/2013.