لعل أخطر ما في دراما عض الأصابع بين إدارة أوباما والكونجرس الأميركي خلال الأسابيع الماضية، وتعطيل وشل الحكومة الأميركية، وتسريح مؤقت بدون راتب لحوالي 800 ألف موظف فيدرالي من أصل أكثر من مليوني موظف يعملون للحكومة الأميركية، هو الكيفية التي ظهرت بها أميركا متخبطة إلى هذه الدرجة في الداخل، ومرتبكة وغير مسؤولة في الخارج. وتداعيات كل ذلك طبعاً كبيرة وخطيرة، وقد وصلت إلى حد الشلل والتعطيل وارتفاع الدَّين العام إلى مستويات قياسية تقترب من 17 تريليون دولار متضاعفاً 3 مرات منذ التسعينيات، ومرتفعاً من أقل من تريليون دولار عام 1980 إلى ما وصل إليه اليوم من قروض ودين يثقل كاهل أميركا ويرهقها على رغم بقائها صاحبة أكبر اقتصاد وأكبر ميزانية على المستوى الدولي.
وبعد 16 يوماً من المواجهة والتصعيد وتعطيل الحكومة الفيدرالية بتكلفة وصلت إلى 20 مليار دولار للاقتصاد الأميركي تم التوصل كما كان متوقعاً إلى اتفاق مؤقت بين إدارة أوباما والكونجرس، ووقع الرئيس على قانون حل مؤقت يؤجل المواجهة لتسعين يوماً أخرى! وسيتم تمويل الحكومة الفيدرالية حتى 15 يناير 2014 ويُرفع سقف الدين العام حتى 7 فبراير.. قبل أن تعود الدراما والمواجهات بين الطرفين مجدداً، في تهديد للاقتصاد الأميركي، ومن ورائه الاقتصاد العالمي المترابط معه بسبب العولمة وربط عملات العديد من الدول بالدولار العملة المعتمدة في التبادل في أكثر من 87 في المئة من دول العالم، مما يذكر بالمقولة القديمة «إذا عطست أميركا يُصاب العالم بالزكام»!
ولكن خطورة ما جرى في الأزمة المالية في الولايات المتحدة، والدروس المهمة التي يجب الالتفاف إليها من وراء سياسات حافة الهاوية في المواجهة بين إدارة أوباما والكونجرس، هي في كيفية نجاح حفنة من النواب الصقور في الحزب الجمهوري وحلفائهم الذين يشكلون أقلية ضمن الحزب -وخاصة النواب وأعضاء مجلس الشيوخ من الموالين لحزب الشاي المتشدد مثل السيناتور الجمهوري تيد كروز من ولاية تكساس والسيناتور الجمهوري «ماركو رابيو» من ولاية فلوريدا والسيناتور الجمهوري راند بول من ولاية كنتاكي، وثلاثتهم يتوقع أن يرشحوا ويتنافسوا عن الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016- في اختطاف القرار السياسي ومصادرة المسؤولية المالية ليس للولايات المتحدة وحدها ولكن للنظام الاقتصادي العالمي كله ودفعه إلى حافة الهاوية، مع كل ما لذلك من انعكاسات كارثية ومخاوف عودة كساد يهدد الاقتصاد العالمي. وهذا وضع مؤسف يجب التوقف عنده طويلاً!
وهذا الانهماك بالشأن الداخلي وطغيانه ودفع النظام الأميركي إلى حافة الإفلاس والشلل يرافقه تراجع أميركي دولياً مما يثير قلق حلفاء واشنطن ويُبهج خصومها.. ويدفع بالمسؤولين للتحذير من عواقبه. وفي هذا المقام دخل على الخط «جون كيري» الذي ظل لسنوات عضواً ثم رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، والذي مثل أوباما مطلع الشهر الجاري في مؤتمر دول منتدى الباسيفيكي في إندونيسيا لتعذر مشاركة أوباما في القمة المهمة للدول المطلة على المحيط الهادئ -بسبب الأزمة المالية والمواجهة مع الكونجرس- محذراً من الانعكاسات الضارة لعدم حل خلاف الميزانية والدين العام، وكيف سيضعف ذلك من مكانة الولايات المتحدة عالمياً، قائلاً إنه «إذا ما استمرت وتفاقمت الأزمة، أو تكررت، سيبدأ الآخرون حول العالم بطرح أسئلة حول مدى استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في مواقفها والوفاء بالتزاماتها!».
واليوم هناك دروس كثيرة مما جرى، وحساب للربح والخسارة، وتحميل للمسؤولية لأطراف تسببت في هذه المواجهة المؤسفة. وكثير من الأميركيين وشعوب العالم يجهلون خطورة الأبعاد والأسباب والتداعيات الخطيرة لما يجري. ولاشك أن هناك تداعيات كبيرة للأزمة المالية تتعدى أميركا إلى بقية العالم بسبب عولمة الاقتصاد العالمي، والاستثمارات الكبيرة لصناديق السيادة للعديد من الدول، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، في السوق الأميركية، وشراء سندات الخزينة الأميركية.
والراهن أن 53 في المئة من الأميركيين يحمّلون الجمهوريين مسؤولية الشلل والمواجهة المالية، بينما 31 في المئة فقط يحملون مسؤولية النزاع والخلاف لأوباما. وثلثا الأميركيين يفضلون عزل جميع أعضاء الكونجرس وانتخاب كونجرس جديد! وقد سجل تراجع لشعبية الكونجرس إلى أدني المستويات!
وكان المطلوب هو حل مشكلة رفع سقف الدين العام والسماح بالاستمرار في صرف سندات الخزينة لتتمكن الحكومة الأميركية من الوفاء بالتزاماتها المالية، وكذلك إقرار الميزانية بالتوصل إلى حل وسط لا يجمّد التمويل المالي لقانون الرعاية الصحية المعروف باسم «أوباماكير» كما يصر على ذلك الجناح المتشدد في أعضاء الحزب الجمهوري ويدعمهم حزب الشاي أيضاً.
والملفت أن التعثر والشلل والانكفاء الأميركي، وتقدم الشأن الداخلي على حساب الشأن الخارجي، يأتي في وقت تزداد فيه الأزمات والملفات المعقدة إلحاحاً على صانع القرار في الولايات المتحدة ليمارس دوراً قيادياً لا يتوافر في الدول الأخرى. هذا في ظل تعقيدات وأزمات الخارج التي شهدنا العديد منها مؤخراً، وأبرزها ملفات سوريا وإيران وفضيحة تجسس أميركا على شعبها وحلفائها، ما دفع رئيسة البرازيل لإلغاء زيارتها لواشنطن احتجاجاً على التجسس الأميركي على بلادها.
ولكن الثمن الذي تدفعه أميركا جراء هذا النزيف والمواجهة السياسية بين طرفي النظام السياسي في واشنطن هو خصم من سمعتها وكيف ينظر حلفاؤها بقلق وتساؤل حول ما يجري في واشنطن؟ ولماذا هذا العناد والمواجهة غير المسؤولة في الدولة العظمى التي وصل بها الأمر إلى أن تغلق فيها الحكومة وزاراتها ومرافقها العامة! وكذلك طرح أيضاً التساؤل الواقعي الذي وجهه وزراء خارجية ومالية حلفاء أميركا في منتدى التعاون لمنطقة المحيط الهادئ: هل يمكن الاعتماد والتعويل على أميركا بعد اليوم؟ خاصة بعد ما شاهده الجميع في سوريا وإيران والأزمة المالية في الداخل الأميركي، وإلغاء أوباما زيارته الآسيوية ومشاركته في قمة دول منتدى التعاون الباسيفيكي.
وقد كان مُلفتاً ما كشفه وزير الدفاع الأميركي تشاك هاجل مؤخراً في مقابلة مع مجلة «أتلانتك» من أنه في اجتماع وزراء الدفاع ورؤساء أركان دول مجموعة آسيان في 21 أغسطس 2013 -في اليوم الذي استخدم فيه النظام السوري السلاح الكيماوي ضد المدنيين في غوطة دمشق ما تسبب في سقوط أكثر من 1400 شخص- طرح وزراء الدفاع سؤالاً عن رد فعل الولايات المتحدة على هذا الخرق الفادح؟ مُحذرين من أنه إذا لم تُظهر واشنطن دوراً قيادياً، فإن هذا قد يدفع دولة مثل كوريا الشمالية لتحدي أميركا وحلفائها، والتهدد باستخدام، أو حتى قد تستخدم السلاح الكيماوي ضد كوريا الجنوبية واليابان. كما أن وزير الدفاع هاجل وزميله كيري ما فتئا يحذران من انعكاسات الوضع الحالي على التزامات الولايات المتحدة في الخارج، وثقة الحلفاء بتعهدات واشنطن.
والمعضلة الحقيقية ليست الاستمرار في رفع سقف الدين العام لتمكين الولايات المتحدة من الاقتراض وإصدار سندات الخزينة التي تملك الصين والدول الآسيوية معظمها، حتى لا تضطر الحكومة الأميركية لإعلان عجزها عن سداد التزاماتها والمستحقات المالية عليها، ما قد يؤدي لخفض التقييم الائتماني للولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم. وهو ما سيترتب عليه كثير من التداعيات أميركياً ودولياً... وهذا ما حذرت منه مؤسسة «فيتش» مؤخراً. ولكن المعضلة في الدروس التي ينبغي أن تستخلصها أميركا نفسها كنظام كان يحاضر على العالم بممارسة المسؤولية المالية، ثم يظهر أخيراً كنظام عاجز، ويتصرف برعونة وعدم مسؤولية مهدداً استقرار اقتصاده ومعه الاقتصاد العالمي كله.
والدرس الأخير من تلك المواجهة هو الخسارة الكبيرة للحزب الجمهوري الذي لم يتعلم الدروس من خسارة مجلس الشيوخ عام 2010 والرئاسة عامي 2008 و2012. وبسبب الغضب الشعبي تتوقع انتكاسة للجمهوريين في انتخابات الكونجرس عام 2014 والرئاسة للمرة الثالثة عام 2016! والأخطر تراجع شعبية الحزب الجمهوري واختطافه من قبل حفنة تمثل الجناح المتطرف فيه! والمعضلة الحقيقية أن أميركا والعالم سيشهدان «كلاكيت» ثانٍ لهذه الدراما بعد ثلاثة أشهر! دون تعلم الدروس والعبر!
-----------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 21/10/2013