في ساعة مبكرة من صباح يوم السبت الموافق 14 سبتمبر 2013 ، صعدت روح السفير الدكتور/ أسامة الباز إلى بارئها، بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز اثنين وثمانين عاما. وبذلك، انتهت حياة طويلة حافلة بالعطاء من أجل الوطن والأمة، وبقيت الذكرى معنا، كما بقي معنا العديد من الذكريات والخبرات للأجيال الحالية، ولأجيال قادمة من أبناء مصر، والأمة العربية.
لم يكن السفير الدكتور/ أسامة الباز سفيرا عاديا، أو دبلوماسيا نمطيا، بل كان، وستبقى ذكراه، إنسانا شديد الخصوصية، من حيث تعدد مجالات تفرده، وتميزه، وتنوع إسهاماته الثرية على أكثر من صعيد، جمع بينها جميعا الموقف الملتزم، بدون انقطاع، بما يراه الصواب إزاء قضايا الوطن المصري، وهموم الأمة العربية، والأحلام المشروعة للشعوب في الحرية والاستقلال.
فقد جمع الراحل الكريم بين دور الدبلوماسي النابغة، ودور الشاب الناشط، وطنيا ومجتمعيا، ودور القيادي الطلابي العربي، ودور الدارس والباحث الأكاديمي الجاد، ودور "الأستاذ" في معهد الدراسات الدبلوماسية المصري، التابع لوزارة الخارجية المصرية، ودور السياسي الذي يشعر بمشاعر رجل الشارع من المواطنين العاديين، ويسعي لربط ذلك ليؤخذ في الحسبان لدى أعلى دوائر صنع القرار في الدولة. ومع كل ما تقدم، جمع السفير الدكتور أسامة الباز - رحمه الله - أيضا بين دور المثقف والمشجع للثقافة، ودور المتذوق للفنون، على تنوعها، والراعي لأنشطتها.
"ذاكرة" وزارة الخارجية المصرية:
تميز السفير الدكتور/ أسامة الباز بأنه يكاد يكون الدبلوماسي الوحيد في تاريخ وزارة الخارجية المصرية، منذ نشأتها، الذي لم يعمل في أي بعثة دبلوماسية أو قنصلية لمصر في الخارج، وقضى حياته بعد التخرج ما بين العمل كمعاون نيابة، ثم كدبلوماسي، وجمع بين ذلك والدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولعب دورا قياديا هناك في سياق تأسيس، ثم إدارة رابطة الطلبة العرب في الولايات المتحدة، ثم في قارة أمريكا الشمالية بأسرها. وبالتالي، فقد بقي السفير الدكتور/ أسامة الباز في العمل في الديوان العام لوزارة الخارجية بالقاهرة لسنوات طويلة، ولكن دائما في مواقع مؤثرة به، حيث يكفي أن نذكر أنه عمل في مرحلة مبكرة في إدارة المعلومات والبحوث والتقديرات التي كانت موجودة حينذاك، والتي كانت تعد واحدة من أهم الإدارات في وزارة الخارجية في ذلك الوقت. ومن هذا الموقع، على سبيل المثال، أصبح علي اتصال مباشر مع سكرتارية المعلومات برئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي كان يتولي مسئوليتها في ذلك الوقت السيد/ سامي شرف.
وفي ضوء طول فترة عمل وبقاء السفير الدكتور/ أسامة الباز في ديوان عام وزارة الخارجية بالقاهرة، وحسن توظيفه لهذه الاستمرارية، أصبح السفير الدكتور/ أسامة الباز يمثل، وعن حق، ذاكرة مؤسسية حية لوزارة الخارجية، بل وللدولة المصرية بأسرها، في المسائل التي تتعلق بعلاقات مصر الخارجية، ودورها في العلاقات الدولية، وهي ذاكرة اتصفت لعقود بالاستمرارية والتواصل، ولم تعان الانقطاع المعتاد الذي يتعرض له الدبلوماسيون، نتيجة تنقلهم المستمر بين ديوان عام الوزارة بالقاهرة، والبعثات الدبلوماسية أو القنصلية التي يعملون فيها بالخارج. فقد كان دائما، وعلى مر العصور واختلاف الأزمنة، وتعاقب من تولوا مسئولية حقيبة وزارة الخارجية المصرية، يتم اللجوء إليه لمعرفة خلفيات قرار ما للأمم المتحدة، خاص بالقضية الفلسطينية مثلا، أو لاستحضار ما جرى، على سبيل المثال، في جلسة محادثات معينة بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات، أو الرئيس الأسبق حسني مبارك، ورئيس دولة، أو ملك، أو أمير، أو مسئول أجنبي مهم، أو للحصول علي صورة وثيقة مهمة قديمة أو حديثة، على حد سواء تكون في لحظة ما مفقودة.
أما الميزة الثانية التي تمتع بها السفير الدكتور/ أسامة الباز، نتيجة الجمع بين الكفاءة المهنية والقدرات الذاتية الفريدة والبارزة، وطول فترة البقاء في مصر، فهي التمكن من التفوق والإبداع والتميز، والتحول من مجرد منفذ لقرارات أو سياسات يتخذها غيره إلي مشارك فاعل، وفي أحيان كثيرة، بدرجة كبيرة، في صنع القرارات، وصياغة السياسات، واقتراح استراتيجيات وبدائل التحرك الخارجي، بناء على قراءته للأحداث بشكل متعمق يستطيع اكتشاف وفهم دلالات ما بين السطور، ويستوعب الخلفيات والتطورات، ويحلل التحولات، ويملك القدرة علي التفرقة بين الثوابت والمتغيرات، وتفرده بالقدرة الفائقة على تحويل الأفكار وترجمتها بشكل سريع إلي برنامج عمل محدد وقابل للتنفيذ علي أرض الواقع بشكل ملموس، وذلك كله من واقع الخبرات المتراكمة لديه، ومن واقع ذكائه المتقد، وقدراته التحليلية الرفيعة التي صقلها أيضا وعززها بواسطة الدراسة الأكاديمية، والنشاط البحثي، والكتابة في الصحافة والدوريات العامة والمتخصصة علي حد سواء، وكذلك أخذا في الحسبان قيامه علي مدي السنوات والعقود ببناء شبكات واسعة وناجحة من العلاقات الوطيدة القائمة على الثقة المتبادلة مع صناع القرار والمؤثرين فيه من إعلاميين، وسياسيين، وحزبيين، وبرلمانيين، ومثقفين، ومبدعين في الكثير من أهم دول العالم والمنطقة.
محور اتصال مؤسسي فارق:
ولكن كان للسفير الدكتور/ أسامة الباز خصوصية أخري لم يضاهه فيها أي دبلوماسي آخر، وهي الجمع، ومنذ عام 1977 بين العمل في مؤسسة رئاسة الجمهورية من جهة، والعمل في مؤسسة وزارة الخارجية من جهة أخري، وتحديدا بين منصب المستشار السياسي لنائب رئيس الجمهورية، ثم لرئيس الجمهورية منذ أكتوبر 1981 ومنصب وكيل أول وزارة الخارجية، وهو ما أفاده كثيرا في التعرف علي المدخلات ووجهات النظر والرؤى من مؤسستين من مؤسسات الدولة الأساسية في صنع القرار السياسي، خاصة ما يتعلق بقرار السياسة الخارجية. كما أن ذلك الوجود المستمر في المؤسستين سهل دائما من مهمة التفاعل الإيجابي والبناء بين المؤسستين، حيث مثل السفير الدكتور/ أسامة الباز على مدى سنوات، بل وعقود، العنصر المشترك الجامع بينهما، وذلك في ظل وحدة الهدف النهائي بين المؤسستين، وهو خدمة المصالح الوطنية العليا لمصر، وتلبية متطلبات أمنها القومي على أفضل وجه.
وجاءت استمرارية السفير الدكتور/ أسامة الباز بداية بعمله بإدارة المعلومات، كما ذكرنا من قبل في هذا المقال، مرورا بتولي منصب مدير مكتب وزير الخارجية الراحل/ إسماعيل فهمي، خلال فترة مهمة للغاية في تاريخ مصر المعاصر ما بعد حرب السادس من أكتوبر 1973 العاشر من رمضان 1393هـ المجيدة مباشرة، وحتي استقالة الوزير الراحل/ إسماعيل فهمي، عقب زيارة الرئيس المصري الراحل السادات للقدس في نوفمبر 1977، حيث انتقل بعدها السفير الدكتور/ أسامة الباز للعمل في موقع آخر، حيث أصبح مديرا لمكتب السيد/ محمد حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية، في ذلك الوقت، للشئون السياسية، وأصبح مدير مكتب رئيس الجمهورية للشئون السياسية، ومستشاره الرئيسي عقب اغتيال الرئيس الراحل / محمد أنور السادات، وتولى الرئيس الأسبق/ مبارك الحكم في أكتوبر1981.
الحضور القومي في سنوات التكوين:
ولكننا نحتاج للتوقف هنا، والعودة قليلا إلى الوراء لنتابع مسيرة الشاب، ثم طالب الدراسات العليا أسامة الباز، حيث إنه كان قد ارتبط في مرحلة مبكرة من مراحل تكوينه الفكري والسياسي - مثله في ذلك مثل الكثيرين من الشباب النشط سياسيا، والفاعل وطنيا، والواعي قوميا من أبناء جيله - بمنظمة الشباب العربي الاشتراكي، والتي شكلت الإطار التنظيمي الجامع الوحيد المتاح لقطاعات واسعة من الشباب المصري، منذ مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين، والتي كانت بدورها تتبع الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي والشعبي الوحيد في مصر في ذلك الوقت. وقد برز الدكتور أسامة الباز، رحمه الله، ضمن أقرانه في تلك الفترة، وظهرت مبكرا ملكاته الفكرية والسياسية المتميزة، مما جعله محط الأنظار، وموضع الإعجاب من زملائه ورؤسائه علي حد سواء، ومكنه هذا التميز بوضوح من الصعود سريعا في الفترات اللاحقة في حياته العملية والوظيفية.
وقد تم قبول أسامة الباز، رحمه الله، كطالب دراسات عليا بجامعة هارفارد الأمريكية، واحدة من كبرى وأهم الجامعات، ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، بل على مستوي العالم ككل. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتفرغ أسامة الباز للدراسة فقط، بل دفعه حسه الوطني والقومي العربي، وحاسته السياسية إلى الانضمام والاندماج سريعا في جهود وأنشطة الطلاب العرب لبناء كيان موحد وقوي لهم، يمثلهم ويجعل لهم صوتا داخل المجتمع الأمريكي، ويساعدهم في تعريف الرأي العام الأمريكي بوجهات النظر العربية تجاه مختلف القضايا، ويسهم في تعبئة قدر أفضل من التفهم، وربما الدعم، ولو الجزئي، للمسائل التي تهم العرب، وفي مقدمتها بالطبع في ذلك الوقت القضية الفلسطينية. وتزامن مع ذلك وارتبط به بدء ظهور كتابات قيمة للدكتور/ أسامة الباز في عدد من الصحف والدوريات التي كانت تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء ما كانت تصدره رابطة الطلبة العرب من مطبوعات هناك، أو ما كان يخرج عن بعض المنظمات التي تمثل الجاليات العربية، أو حتى دوريات وصحف معنية بالشئون العربية، وشئون الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن منتشرا بعد في الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة.
يضاف إلي ذلك أن ما كان موجودا من صور الصحافة، وأشكال النشر، ووسائل الإعلام المعنية بشئون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية، في ذلك الوقت، كان في معظمه، وبشكل أو بآخر، تحت سيطرة أو تأثير جماعات الضغط الموالية لإسرائيل، وقليل من هذه الوسائط هي التي كانت تسمح للصوت العربي بالتعبير عن رؤيته ومواقفه. وكانت كتابات الدكتور/ أسامة الباز تمثل علامة بارزة ضمن الكتابات العربية في تلك الفترة، من حيث منطقها في شرح والدفاع عن المواقف العربية، ولكن بشكل مفهوم للمجتمع الأمريكي، في ضوء فهم الدكتور/ أسامة الباز، منذ مرحلة مبكرة، للعقلية ومنهج التفكير لدى المواطن الأمريكي، وديناميات عملية اتخاذ القرار وصنع السياسات في واشنطن، ودور جماعات الضغط، ووسائل الإعلام، ودوائر المال والتجارة، ورجال الأعمال، والمجمع الصناعي -العسكري في الواقع السياسي الأمريكي.
ويرتبط ذلك الدور بدور آخر تولاه في القاهرة السفير الدكتور/ أسامة الباز، رحمه الله، في فترة لاحقة، وهو المسئولية عن والإشراف علي البرنامج التدريبي للملاحق الدبلوماسيين المنضمين حديثا لوزارة الخارجية المصرية في معهد الدراسات الدبلوماسية، وكرس الكثير من الوقت والجهد لسنوات، وبكل الصدق والتفاني، وبإحساس من هو ممتلئ بالقناعة بأنه يؤدي مهمة شديدة الأهمية، وذات طابع مقدس، ويراها جزءا لا يتجزأ من واجبه تجاه وطنه، لإعداد دبلوماسيين ودبلوماسيات علي مستوى مهني مناسب، وجديرين بتمثيل مصر علي أفضل صورة، ويتسمون بالالتزام الوطني والحس القومي، ويغمرهم الشعور بالولاء للوطن، ويفخرون بالانتماء لمصر، مؤمنين بمركزيتها، ومحورية دورها. وسعى دائما لنقل عصارة خبراته وتجاربه لهم، من منطلق وضوح الرؤية لديه بأهمية مفهوم تطوير الموارد البشرية، عبر صقلها من خلال الدراسة النظرية والتدريب العملي، وما يرتبط بذلك من بناء القدرات.
"مهندس" التسوية السلمية:
وإذا كنا قد ذكرنا، في فقرة سابقة، أن السفير الدكتور/ أسامة الباز، رحمه الله، كان يشكل ذاكرة مؤسسية للسياسة الخارجية المصرية، فإنه أيضا، وعلي وجه التحديد، كان يمثل ذاكرة مؤسسية حية لكل ما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي، وما ارتبط به من عملية السلام التي انطلقت عقب زيارة الرئيس المصري الراحل السادات للقدس في نوفمبر .1977 وقد تعرض السفير الدكتور/ أسامة الباز خلال حياته، وعلي مدى سنوات طويلة، للاتهام، سواء من البعض داخل مصر أو من خارجها، خاصة من بعض الدوائر في الوطن العربي، بأنه كان بمثابة "مهندس" مسيرة التسوية السلمية للصراع العربي - الإسرائيلي التي بدأت منذ نوفمبر 1977، والتي عدّها منتقدوها في ذلك الوقت تكريسا لمسار التسوية المنفردة بين مصر وإسرائيل، ومقدمة لإخراج مصر من حلبة المواجهة العربية-الإسرائيلية، ومن ثم لعزلة مصر العربية، التي جاءت نتيجة قرارات القمة العربية التي عُقدت في بغداد في نوفمبر 1978، وذلك عقب شهرين من توقيع مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إطار كامب ديفيد بمكونيه لتسوية الصراع بين مصر وإسرائيل من جانب، ولتسوية القضية الفلسطينية من جانب آخر.
إلا أن قراءة أخرى لذلك الدور قد تؤدي بنا إلى استنتاج مختلف، حيث إن المسار الذي اختاره الرئيس الراحل السادات، بدءا من نوفمبر 1977 كان بمحض قراره واختياره، وإنما يمكن النظر إلي دور السفير الدكتور/ أسامة الباز، رحمه الله، وتفسيره علي أنه ربما عمل قدر الإمكان - من خلال بقائه واستمراره في الدائرة الضيقة الموجودة في السلطة، والمحيطة مباشرة بعملية اتخاذ القرار - من أجل تحسين شروط التسوية السلمية وظروفها، وذلك عبر محاولة العمل على تعظيم العائد، وزيادة المكاسب مقابل تحجيم أو احتواء أي خسارة قد تعود علي مصر والقضية الفلسطينية، جراء هذا المسار، وكذلك لضمان أن يؤدي هذا المسار إلي الحل النهائي والدائم والشامل للقضية الفلسطينية، بجانب تلبية المطالب الوطنية المصرية، بالطبع، على أسس وركائز تلبي على الأقل الحد الأدني من المطالب الوطنية المشروعة لأصحاب القضية، أي الشعب الفلسطيني، وهو ما تدعمه جهود قام بها في عقد الثمانينيات من القرن العشرين لإدماج الجانب الفلسطيني في عملية التسوية، والسعي للحصول على اعتراف أمريكي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي مرحلة لاحقة اعتراف إسرائيلي بالمنظمة، كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وقد قام بجهوده حتي فيما بين الفصائل الفلسطينية على مدى أكثر من دورة من دورات المجلس الوطني الفلسطيني، منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، بهدف مزدوج: ضمان توحيد الصف الفلسطيني خلف قيادته، بما يعزز من الموقف السياسي والتفاوضي للقيادة الفلسطينية آنذاك من جهة، ولضمان الدعم لخيار التسوية السلمية من جهة أخرى.
حضور ثقافي وفكري متميز:
ونعود هنا مرة أخرى إلى دور السفير الدكتور/ أسامة الباز كمفكر له العديد من الخصائص البحثية الرفيعة، وله أيضا رؤية تحليلية ثاقبة. وهذه المرة، نجد له العديد من المقالات المهمة أو فصولا في كتب شكلت علامات بارزة، منها ما تنبأ فيها، على أسس علمية، بقرب انتهاء الحرب الباردة، عبر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وانهيار المنظومة الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا، ومنها ما فند فيها أطروحة صدام الحضارات التي دفع بها إلى الواجهة عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون، بدءا من عام 1996 وما تحدث فيها عن المرحلة الانتقالية نحو نظام دولي جديد، وتأثيرات ذلك المتوقعة في مصر، والوطن العربي، والشرق الأوسط.
وبصفة المثقف والمفكر أيضا، دعي السفير الدكتور/ أسامة الباز في العديد من المناسبات ليحاضر في الكثير من المنتديات والمحافل الفكرية الشهيرة داخل الوطن العربي وخارجه، من مهرجان أصيلة الثقافي في المملكة المغربية، إلي مهرجان الجنادرية الفكري والثقافي في المملكة العربية السعودية، وغيرهما كثير. وقد لاقت محاضراته حضورا مكثفا، واهتماما كبيرا، وإعجابا بالغا بما يطرحه من رؤي بشأن الأوضاع العربية، وما يقدمه من تحليل للقضايا الإقليمية والدولية، وذلك من جانب النخبة السياسية والثقافية والمواطن العادي على حد سواء.
وعلى هذه الخلفية الجامعة، كان السفير الدكتور/ أسامة الباز، رحمه الله، أيضا ضمن قائمة هيئة مستشاري مجلة "السياسة الدولية" منذ سنوات.هكذا، كان السفير الدكتور/ أسامة الباز، رحمه الله، صاحب تركيبة شخصية فريدة من مواهب متنوعة مكنته من لعب أدوار متعددة، ومن القيام بإسهامات بارزة، ومن ترك علامات باقية في كل مجال طرقه، وفي كل موقع شغله، علي مدي حياة مليئة بالأحداث الجسيمة لمصر، وللوطن العربي، ولمنطقة الشرق الأوسط، بل وللعالم بأسره. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن كافة الأدوار، أو كل الإسهامات، ولكن الأمل يبقي في التمكن في يوم ما في القادم من الأيام، إن شاء الله، من جمع تراث الراحل الكريم من كتابات وأوراق، وهو الأمر الذي من شأنه بالتأكيد أن يساعد على التعرف علي الكثير من الأوجه الخافية من أحداث لحقت بمصر والمنطقة، خاصة منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973 وحتى سنوات قليلة قبل ثورة 25 يناير 2011 في مصر، كما سوف يساعد علي فهم وتفسير بعض الخلفيات التي تبدو غامضة، والتي تتعلق بهذه الأحداث.
أسامة الباز يتوقع في "السياسة الدولية" تطورات عقد كامل
في عددها لشهر يناير 2002 نشرت مجلة السياسة الدولية حلقة نقاشية عقدتها، بمشاركة عدد من الرموز السياسية والأكاديمية المصرية، لمناقشة تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 علي مستقبل النظام الدولي. وحيث كان الدكتور أسامة الباز أحد هؤلاء الحضور، فقد قمنا، في مناسبة تأبين هذا الراحل العظيم، بإعادة قراءة مداخلاته خلال تلك الحلقة، ليتكشف لنا بجلاء ما تميز به الدكتور أسامة الباز من قدرة تحليلية واستشرافية فذة أتاحت له القراءة في كتاب المستقبل، ليحدد بمنتهى الدقة العديد من التطورات التي شهدها العقد الماضي، وما انتهى إليه وضع النظام الدولي في اللحظة الراهنة. ونحن نعيد نشر هذا الجزء من مداخلاته، لكي يستعيد قراء "السياسة الدولية" اكتشاف عبقرية هذا الراحل العظيم، لعلنا نوفيه بعض حقه عن الأدوار المهمة التي قام بها طوال فترة عمله في الفضاءات الدبلوماسية، والسياسية، والفكرية في مصر طوال نحو أربعة عقود.
أنا أختلف مع افتراض أن قوة الولايات المتحدة ودورها وتأثيرها دوليا ستظل مقبولة وقائمة على المدى الطويل بالقدر نفسه حاليا، أو ما يقاربه نسبيا. فأنا أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية بلغت قمة قوتها، وحققت أقصى هيمنة وتأثير في النظام الدولي، منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. فقد عُدَّ سقوط الامبراطورية الروسية، ممثلة في الاتحاد السوفيتي، انتصارا للولايات المتحدة، قبل أن يكون انتصارا للغرب عامة، لأن الولايات المتحدة هي التي كانت تسعي لإسقاط امبراطورية "الشر"، كما ذكر ريجان في النصف الأول من الثمانينيات، بينما لم يكن الغرب كله سوى مجرد منافس لم يسع بالضرورة لإسقاط الاتحاد السوفيتي. أيا ما كان، فقد بلغت الولايات المتحدة، عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، غاية قوتها العسكرية، والتكنولوجية، والاقتصادية، وكذلك غاية هيمنتها وتأثيرها في النظام الدولي.
واليوم، تواجه الولايات المتحدة خطر تراجع قوتها ليس بالمعنى المطلق، أي أنها ستضمحل، ولكن نسبيا، إذ إن تلك القوة إما أنها بلغت غاية حدود نموها، أو صارت الحدود ضئيلة للغاية. وعلى ذلك، فالولايات المتحدة عرضة لنوعين من التهديدات قد يؤديان إلى تراجع نسبي في قوتها ومكانتها الدوليتين.
1- المشكلات الداخلية من قبيل المشكلات العرقية التي قد تتصاعد لتصبح قنابل موقوتة، ونلاحظ مؤشرات لذلك في العلاقة بين العنصر الأبيض (الأنجلوساكسون)، والعناصر الأخري، سواء من السود، أو اللاتين (الهيسبانك)، إذ إن أعداد العناصر الأخيرة أخذة في التزايد، في غير مصلحة العناصر غير البيضاء. بل إن بعض مؤشرات التشدد والتعصب أخذت تبرز، إذ تصر الجماعات ذات الأصول الإسبانية مثلا علي ذهاب أبنائهم إلى مدارس تدرس اللغة الإسبانية Spanish Speaking. هذا أحد نماذج المشكلات الداخلية.
كذلك، فإن محدودية فرص النمو ستؤدى إلى انكماش اقتصادي. نلاحظ ذلك، علي سبيل المثال، في مجال التكنولوجيا، إذ تراجعت أسعار أسهم كثير من الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا في الفترة الأخيرة من دولارين للسهم إلي نحو 35 سنتا للسهم، ومرد ذلك إلى حالة التشبع التي وصلت إليها السوق.
2- احتمال نهوض قوي أخرى، وتصاعد دور بعض الدول المرشحة للعب دور عالمي. إذ إنه في حالة ثبات قوة الولايات المتحدة، وتصاعد قوة أطراف، فإن ذلك يعني تراجع قوتها ومكانتها النسبيتين، وهو احتمال قائم بقوة. فما الذي سيجبر تلك الدول على الاستمرار في وضع المشاهد، وعدم المشاركة لفترة طويلة من الزمن. فالصين رغم رفضها تسمية "دولة عظمي"، لأنها ترتبط في كيان الجماهير بمفهوم الاستعمار، وتفضيل قياداتها رؤية أنفسهم جزءا من العالم الثالث أو الجنوب، ودولة نامية حققت شوطا كبيرا على طريق التنمية والتقدم، فلا يمكن إغفال أن قوتها آخذة في الازدياد شيئا فشيئا، مما قد يحفزها للعب دور قيادي في أي وقت في المستقبل، ربما القريب، وليس البعيد بالضرورة. أما روسيا، فقد بدأت تسترد عافيتها، واتخذت مواقف معقولة في عديد من القضايا، وأعتقد أنها تستطيع لعب دور كبير خلال عقد واحد من الآن. والاتحاد الأوروبي بدوره يبرز داخله اتجاه استقلالي عن الولايات المتحدة، تقوده فرنسا، وتشاركها فيه إسبانيا، وبدرجة أقل إيطاليا ودول الشمال. أما المرتبط بالولايات المتحدة تماما، فهما إنجلترا وألمانيا، ويبدو ذلك في أغلب القضايا تقريبا من النزاع في الشرق الأوسط إلى المواجهة من الأمم المتحدة، وغير ذلك كثير.
أنا أعتقد أن دورة انتعاش وانكماش الحضارات يمكن أن تتم في العصر الحاضر في فترة زمنية تقل كثيرا عما كانت عليه في الماضي، فلن تحتاج إلي قرنين أو ثلاثة، كما كان عليه الحال مع الحضارات في العصور السابقة. ثم إن الولايات المتحدة لم تبرز اليوم، بل إن مرحلة الصعود في دورتها بدأت منذ زمن طويل، لكنها بلغت اليوم قمة منحني صعودها. ولا يلزم أن تنهار تلك القوة، بل يكفي صعود قوة أخرى من ثبات قوة الولايات المتحدة ليحدث تراجع نسبي في قوتها، وتحجيم لدورها على الصعيد الدولي، والتوصل إلي توازن ما في النظام الدولي، لأن أي نظام دولي لا تتوافر له درجة معينة من التوازن ينهار، وفقا لما توضحه الخبرة التاريخية.