هناك سبل كثيرة للنظر إلى الضربة الأميركية المتوقعة ضد النظام السوري على خلفية استخدامه السلاح الكيماوي ضد مواطنيه. هناك من هو مشغول بحجم هذه الضربة، وهناك من يتركز اهتمامه على توقيتها. وثالث يتساءل عن إمكان فبركة واشنطن والأمم المتحدة - وفي شكل عام الغرب - للدليل على استخدام الكيماوي من قبل النظام السوري. ورابع يرى ضرورة الاهتمام بتداعيات هذه الضربة، وهل ستؤدي إلى حرب إقليمية؟ وخامس يتمنى، وسادس يخشى أن تؤدي الضربة إلى سقوط النظام السوري. أنا أكتب ظهر أمس السبت، وبالتالي فربما أن الضربة حصلت قبيل ساعات من طباعة هذا المقال، وفي ظني أن الضربة لن تحصل قبل يوم غد الإثنين، ولا بعد الخميس المقبل.
كل ما سبق زوايا نظر مهمة لموضوع مهم، لكن هناك زاويا أخرى لا تقل أهمية، بل ربما أنها أكثر خطورة حتى من الضربة ذاتها. لهذه الزوايا ميزة تفرقها عن غيرها، وهي التي تضفي عليها أهمية وخطورة أكثر من غيرها، وهي أنها زوايا عربية قبل أي شيء آخر. أهم هذه الزوايا العربية تتمثل في السؤال الآتي: كيف ينبغي أن ننظر الى الضربة الأميركية؟ هل هي لخدمة المصالح الأميركية؟ أم لأجل تحقيق مصالح الشعب السوري؟ ماذا ينبغي أن يكون عليه موقفنا من هذه الضربة؟ هل نحن معها أم ضدها؟ أم ينبغي لنا أن نكون في موقف بين الموقفين؟ والغريب أن هذه الأسئلة - وللدقة هذه الارتباكات - تتجاور تماماً مع شبه إجماع عربي رسمي وغير رسمي على دموية النظام السوري، وعلى أنه نظام قاتل، وأنه السبب الأول والأهم في كل المآسي التي مرّ ويمر بها الشعب السوري منذ ما قبل الثورة وبعدها، وبالتالي فإن سقوطه أو تغييره أو استبداله سيكون في مصلحة هذا الشعب. لكن بعد كل ذلك، ليس هناك اتفاق على أي شيء تقريباً. سيقال إن هذه الأسئلة وحال الخلاف والشقاق حولها تعبر عن عجز متمكن، وعن ارتباك متفشّ بين الجميع أمام حدث كبير غامض في مصادره وأهدافه ومآلاته، وأن مرد ذلك العجز والارتباك الى حال انقسام مزمن بين العرب على كل شيء، وعلى كل مستوى تقريباً. هذا صحيح، ولكن هناك ما هو أقرب الى الحقيقة، وأكثر تعبيراً عن هذا الواقع، وهو أن إشكال الضربة ينبع من حقيقة أنها ستأتي من الولايات المتحدة ومن خلفها الغرب ضد نظام عربي. هنا يبرز السؤال: هل كون النظام عربياً يجيز التغاضي عن جرائمه؟ سيقول الجميع من غير أتباع وأنصار النظام: لا.
الجريمة تبقى كذلك مهما كانت هويتها، لكن أن يأتي عقاب جريمة طرف عربي من طرف غير عربي، ومن الغرب تحديداً يجعل منه أمراً محل شبهة يقتضي رفضه، أو على الأقل حرمانه من مشروعية الموافقة العربية عليه. الضربة الأميركية تهدف الى خدمة مصالح أميركية وهي غير معنية بمصالح الشعب السوري ولا بمصالح العرب. وهذا صحيح تماماً، لكن مأزق هذا الرأي أنه يتوقف عند هذا الحد، حدّ الرفض ولا يتجاوزه، ويستند في جوهره إلى تبرير أخلاقي هشّ، بل وزائف أمام حال سياسية تفرض نفسها على الجميع. هل هناك فرق من الناحية الأخلاقية أو القانونية بين أن يُقتل العربي بيد عربي آخر، وأن يُقتل على يد طرف غير عربي؟ ينطوي السؤال على عنصرية باذخة. قتل الإنسان محرّم لأنه إنسان قبل أي شيء آخر، فما بالك عندما يتم تدمير بلد بكامله لأجل أن يبقى الرئيس في سدة الحكم. سورية تدمر وشعبها يُقتل في شكل يومي، ويتحول إلى لاجئين في المنافي في شكل يومي أيضاً. والعرب عاجزون أو لا يريدون أن يفعلوا شيئاً. من حقك أن ترفض التدخل الأجنبي في الأزمة، لكن ليس من حقك أن ترفضه من دون أن تقدم بديلاً منه. أنت بهذا الموقف تمنح رخصة مجانية للنظام لمواصلة التدمير والقتل، أما الحديث عن المصلحة فهو نوع من اللغو. من الطبيعي أن يعمل الغرب لأجل مصالحه، وهذا يحسب له لا عليه. هل هناك من يعمل لمصالح غيره؟ لماذا لا يعمل العرب لأجل مصالحهم؟ هل الأتراك أو الإيرانيون أو غيرهم يعملون لمصالح العرب؟ هذا نوع من الهذيان. ثم إن السوريين من غير قيادة النظام وأتباعها هم أصحاب القول الفصل في تقرير الموقف من كل ما يتعلق بالمأزق الذي يعيشونه، ويدفعون ثمنه يومياً.
الطرف الأول الذي فرض المأزق على الجميع هو النظام السوري، والدول العربية فرضت بعجزها عن فعل أي شيء في هذه الحال أيضاً. هناك دول عربية تعلن رفضها للضربة بطريقة مرتبكة لا تجعل لرفضها مترتبات سياسية معينة، وتكتفي بأن تكون شاهد زور على ما سيحدث. نموذج ذلك مصر في عهد الانقلاب العسكري. الأردن نموذج آخر لدولة عربية لا تعلن رفضاً ولا قبولاً للضربة، ولكن تؤكد أنها لن تكون منطلقاً لهذه الضربة. على الناحية الأخرى، هناك دول عربية تقبل ضمناً بالضربة لكنها تلوذ بالصمت ولا تعلن موقفاً، وقائمة هذه الدول طويلة من الخليج العربي إلى المغرب العربي. لبنان الأكثر تأثراً بالحرب الأهلية السورية منقسم في موقفه من الضربة بين شعار «المقاومة» وشعار «النأي بالنفس»، أما العراق الذي يعاني حرباً أهلية ونفوذاً إيرانياً ترتفع أكلافه يوماً بعد آخر، فيحذر من مخاطر الضربة ولكن من دون أن يعلن رفضاً قاطعاً لها. الجزء الحاكم من النظام العراقي منقسم بين ارتباط مع طهران على أساس مذهبي، وارتباط مع واشنطن على أساس سياسي، وانطلاقاً من ذلك سيذهب رئيس الحكومة نوري المالكي إلى العاصمة الأميركية لتوقيع اتفاق دفاع مشترك مع أميركا صاحبة الضربة.
الدولتان الوحيدتان في المنطقة اللتان أعلنتا موقفاً واضحاً من الضربة هما تركيا وإيران. تركيا لا تؤيد الضربة وحسب، بل ومستعدة للمشاركة فيها. إيران ترفض الضربة وتطلق تصريحات رنانة، ولكنها مبهمة عن رد فعلها في حال حصلت. لن تفعل إيران شيئاً بعد انسحاب روسيا، وإذا كانت الضربة محدودة وقصيرة الأمد. موقف هاتين الدولتين لافت لجهة أنه يؤكد المؤكد، وهو أن الدول العربية المعنية أكثر من غيرها بحرب أهلية في بلد عربي، والأكثر تأثراً بتداعياتها وتداعيات الضربة الأميركية المتوقعة، هي الوحيدة التي لا تملك موقفاً سياسياً واضحاً ومتماسكاً. الأيديولوجيا العربية هي العائق الكبير أمام الدول العربية لإعلان موقف واضح من حدث يؤمن بعضها بضرورته، ويؤمن البعض الآخر بحتميته، وهذا ليس جديداً على أية حال. كنا في الموقع نفسه تقريباً في كل الأزمات التي عرفها العرب، أقله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعندما يكون الموقف العربي على هذا النحو، إما مرتبكاً بصمت أو رافضاً بصمت أو قابلاً بصمت أيضاً، فإنه يعبر عن ضعف سياسي وعجز عسكري، ومن ثم عن غياب للرؤية. والدولة من دون موقف متماسك ومعلن - وبخاصة في اللحظات الحرجة - ليست دولة تماماً. في هذه الحال يعبر ارتباك الرأي العام العربي وتناقض مواقفه ما بين سذاجة أخلاقية أو انتهازية سياسية، عن طبيعة الدولة التي ينتمي إليها، والخطاب السياسي الذي تعتاش عليه من أزمة إلى أخرى، ومن مأزق إلى آخر.
----------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد 1/9/2013.