عندما أتحدث عما بعد «الدقنوقراطية» في مصر فإن ما بعد هنا ليست مثل المابعدية في ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية في الفن والعمارة أو في النظرية النقدية على التوالي. بداية «الدقنوقراطية» هي حكم جماعات الذقون الطويلة، وهو مصطلح صكه شقيقي الأصغر جمال فندي في عز سنة حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر. وهنا أستعير المصطلح لتوسيع الفكرة وللحديث عن المرحلة الانتقالية في مصر ومدى خطورتها، فهي قابلة للنجاح وقابلة أيضا للانتكاسة، مع ضرورة التركيز على خروج الرئيس من الحكم بطريقة واضحة إذا ما حدث شرخ اجتماعي تحسبا للفوضى التي صاحبت عزل كل من حسني مبارك ومحمد مرسي.
بداية، «الدقنوقراطية» تختلف تماما عن الديمقراطية، وهذا ما لخبط أوباما والغرب وجعلهم يخلطون ما بين قيم «الدقنوقراطية» والديمقراطية نظرا للجناس الناقص بينهما، وليس ما هو ناقص في هذه الحالة هو الجناس، لكنه نقصان العقل والمنطق والحجة وأيضا الاقتناع بأن البشر ولدوا أحرارا ولا يمكن أن تسجن عقولهم باسم المعتقد. الديمقراطية تعلي قيمة الحرية، أما الدقنوقراطية فهي تركز على المظهر والشكل من لحية وجلباب وزبيبة، والأخيرة هي علامة على الجبهة كما الوشم يصر المصريون على أنها علامة الصلاة رغم استحالة ظهورها على جبهات المسلمين من غير المصريين. وقد زادت مظاهر التدين الكاذب في فترة حكم «الإخوان»، فربى البعض اللحى، وترى بعض الطامحين لمناصب سياسية يومها لديهم لحية قد بدأت في النمو، لكننا اليوم في حقبة اختفاء اللحى وكأن موجة 30 يونيو (حزيران) التي جاءت لإنهاء الدقنوقراطية وإعلاء قيم الديمقراطية كانت برعاية شفرات الحلاقة «جيليت». مصر تتغير ما بعد 30 يونيو، الوجوه تغيرت حرفيا، فليس في حكومة رئيس الوزراء حازم الببلاوي إلا وجوه حليقة، ولم يختلط الأمر على الببلاوي بين التكنوقراط والدقنوقراط.
وجه مصر يتغير من دون ذقن. تبتعد مصر الآن بعد موجة الثلاثين من يونيو عن السياسة والتدين كمظهر، والتركيز على الجوهر أو على الأقل نتمنى ذلك. تنتقل مصر من عالم الدقنوقراطية إلى عملية منظمة قد تأخذها إلى الديمقراطية لو تركزت العقول بشكل أكثر على أن العملية الانتقالية أمر شديد الحساسية وعرضة للانتكاسة كما هو عرضة للنجاح، وما بين النجاح والانتكاسة هو ما بين الحياة والموت في العمليات الجراحية الدقيقة. وليدرك الجميع أن حلاقة شعر الذقن ليست كافية، بل تحتاج مصر إلى جراحة جادة، وربما يتطلب الأمر بعدها نوعا من «الثيرابي» أو العلاج الكيماوي لسرطان تغلغل في جسد الدولة.
يخطئ من يظن أن ما بعد الدقنوقراطية هو وجه مصر الحليق فقط، فالانتقال من الدقنوقراطية هو تغيير في القيم الحاكمة من عالم المظاهر من اللحية والصندوق إلى عالم القيم والثقافة الديمقراطية التي تعتمد على الفرد الحر وليس على الجماعات والأهل والعشيرة. ليس كما يظن من يدّعون التفوق الديني أن الإسلام لحية طويلة وزبيبة على الجبهة، ولا الديمقراطية صندوق وطوابير فقط. الإسلام والديمقراطية ليسا مظهرين، وإنما لكل منهما منظومة قيمية حاكمة. كما الديمقراطية الفرد الحر هو الأساس ففي الإسلام أيضا، ونصا «لا تزر وازرة وزر أخرى»، أي أن المسؤولية فردية. ما بعد «الدقنوقراطية» كمرحلة انتقالية تنجح فقط لو كان التغيير قيميا وجوهريا قبل أن يكون مظهريا.
المخالفون والمعارضون لعزل مرسي يدّعون عودة دولة مبارك، والحقيقة يمكن أن تكون غير ذلك، لكن الاستسهال في إدارة المرحلة الانتقالية قد يدفع بالبعض ليس إلى دولة مبارك وإنما إلى ما يمكن تسميته بـ«رجالات دولة مبارك»، أي أن من يقومون على عملية التغيير لا يوسعون دائرة الرؤية ليكون هناك تمثيل عمري شبابي أو مناطقي إقليمي أو حتى عقدي ديني، لكي يحس الناس بأن تغييرا فعليا قد حدث. نموذج محمد مرسي و«الإخوان» اعتمد على الأهل والعشيرة، ويجب ألا نعتمد نموذج دولة مرسي في هذه الفترة الحساسة ونعتمد على الشلة أو على من نعرف ممن حولنا من أهل وأقارب. ما بعد الدقنوقراطية يجب أن تكون مرحلة تنقل مصر من عالم المكافأة إلى عالم الكفاءة، أي نختار الإنسان المناسب للوظيفة المناسبة بغض النظر عن علاقات الصداقة أو القرابة أو الشللية.
تحدي مرحلة ما بعد الدقنوقراطية هو أن يعي من يديرون البلاد أننا نحتاج إلى عملية سياسية منظمة تنقلنا من عالم فوضى الدقنوقراطية إلى انتظام اجتماعي وسياسي للتأسيس لبناء ديمقراطي. نجاح بنية العملية الانتقالية يعني الالتزام بخارطة المستقبل التي رسمها الجيش بشفافية عالية، وأولى خطواتها الرسم الهندسي للبناء الجديد المعروف بالدستور الذي لا يقوم بناء من دونه. وأول ما يجب أن يكون في هذا الدستور هو التحسب لظاهرتي مبارك ومرسي، أي عزل الرئيس إذا انحرف عن المسار أو أسهم في خلق شقاق في المجتمع. أول بند في الدستور يجب أن يرسم وبوضوح ليس طريقة دخول الرئيس إلى القصر وإنما خروجه منه.
حالتا مبارك ومرسي ستتكرران أكثر من مرة خلال السنوات الـ20 المقبلة، لذا يجب أن يجري التحسب لذلك، وهنا أقترح أنه في حالة وجود انقسام وطني أن يصوت مجلس الشعب بـ50 في المائة زائد واحد لإجراء انتخابات مبكرة. أقول هنا نصف أعضاء مجلس الشعب مضافا إليهم واحد فقط وليس ثلثي الأعضاء لأن الهدف من الحكم هو الوفاق الوطني والاستقرار، وأنه في حالة عدم رضا نصف المجتمع أو من يمثله عن الرئيس لا بد من انتخابات مبكرة لأن انقسام المجتمع خطر أهم بكثير من موضوع تغيير الرئيس. ولست دوغماتيا أو متشددا في الفكرة، لكنني أطرحها كبداية لحوار جاد عن ضرورة وجود ميكانيزم أو آلية خروج صارمة للرئيس قبل أن يحدث ما حدث مع مبارك أو مع مرسي، فالمجتمعات لا تحتمل كل هذه التقلبات، وهذا يلزمنا بالاحتكام إلى الديمقراطية كنظام سياسي جوهري وليس مظهريا، فعندما تتحول الديمقراطية إلى مظهر لا جوهر فنحن نتحدث عن دقنوقراطية لا ديمقراطية.
منذ أكثر من خمسة أعوام كتبت في هذه الصحيفة وفي السياق العراقي عن ديمقراطية المنع، أي أن يتحسب العرب لظهور أحزاب فاشية مثل حزب البعث أو حزب الإخوان، وهذا يتطلب أن تكون هناك آليات تسمح بتمثيل هذه الأحزاب، ولكن لا يجب أن تمثل في البرلمان بأكثر من خمسة في المائة. المقال طويل ولمن أراد المزيد أن يعيد قراءته، لكن الأساس في المرحلة المقبلة في مصر ليس تغيير وجه مصر على طريقة أن يكون الوجه حليقا، بل تغيير مصر إلى عالم الديمقراطية بشكل جوهري، والدخول بجدية ومن حيث القيم والمفاهيم الحاكمة إلى عالم ما بعد الدقنوقراطية.
-------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الإثنين 26/8/2013.