في اللحظة التي تمر بها مرحلة الانتقال الديمقراطي بأهم استحقاق للثورة، وهو صياغة دستور الجمهورية الثانية، يصطدم هذا الاستحقاق للمرة الثانية بمحنتين، أولاهما حالة الاستقطاب الشديد، ومحاولة احتكار تيار معين لرسم هوية الدولة دون باقي الفئات، والأخرى تمزق المشهد السياسي بين المعارك السياسية والانتخابية، وتحول أنظار المواطنين عن أهم استحقاق للثورة.
وانطلاقا من أهمية مشاركة المواطنين في صياغة العقد الاجتماعي الذي ينظم حياتهم لعقود قادمة، عقدت "المجموعة المتحدة ..محامون ومستشارون قانونيون" ندوة استهدفت الإجابة على سؤال مشروع: ماذا يريد المصريون من الدستور؟ من خلال دراسة أعدتها المجموعة على عينة من المواطنين في شكل مجموعات بؤرية.
معايير انتخاب التأسيسية للدستور:
اجتمع المشاركون في الندوة على ضعف المعايير التي انتخب على أساسها أعضاء الجمعية التأسيسية. فقد ألمح د. أيمن نور إلى أن المعايير كانت مرتبكة إلى حد كبير في المرتين اللتين شهدتا انتخاب جمعية تأيسية لصياغة الدستور، واللتين عكستا احتكار تيار الأغلبية للتصويت على النصوص. ووصف الإعلان الدستوري الجديد بالملئ بالخطايا والألغام، وغياب المنطق، حيث أعطى نسبة 20% من الأعضاء حق وقف التصويت. وبالتالي، فنحن أمام مرحلة تحول فيها الدستور إلى قرارات إدارية، والتشريع إلى عبث، على حد قوله.
وأشار إلى أن التاريخ المصري شهد عددا قليلا من الوثائق الدستورية المحترمة مقابل الوثائق الدستورية التي كرست الاستبداد. وضرب مثالاً على ذلك بدستور 71 الذي كان رائعاً في بدايته، لكنه عانى من التعديلات، نتيجة تغير المزاج السياسي العام، والرغبة في الانقضاض على السلطة، وهو ما يخشاه على الدستور الجديد.
بينما طالبت نهاد أبو القمصان – مدير المركز المصري لحقوق المرأة – بضرورة أن تساير عملية صياغة الدستور الجديد تطور معايير وضع الدساتير في العالم، والتي لا تؤكد مبدأ ذكر الحق فقط، ولكن تمتد لتشمل ضمان الحق. وذكرت تبعات عدم التنفيذ لهذه الحقوق، وضربت مثالا على ذلك بالدستور المغربي.
ووصفت معايير التأسيسية بأنها لا تتيح تمثيل كل فئات المجتمع، خاصة المرأة، مما يدلل على أننا لا نزال في مرحلة تقسيم الغنائم، وليس الانطلاق إلى المستقبل.
وأشار باسل عادل – عضو الهيئة البرلمانية لحزب المصريين الأحرار- إلى أن من قدر مصر السيئ أن كل دساتيرها كانت بمثابة منحة من الحاكم، وتمت كتابتها في ظل محن، عادة ما كانت نضالا ضد عدو واحد (الاحتلال). لكن المحنة في المرحلة الحالية هي الأولى من نوعها، وهي حالة الاستقطاب الديني العنيف التي انقسم عليها المجتمع، وإصرار تيار بعينه على كتابة عقد اجتماعي يخصهم دون غيرهم من باقي فئات المجتمع، وهو ما يمكن تسميته عقد إذعان وليس دستورا. فكان من الضروري الاستفادة من تجارب الدولية الناجحة في وضع معايير تقنن عملية انتخاب أعضاء الجمعية، وعدم إطلاقها بما يضمن تمثيلها للنسيج الاجتماعي للمجتمع المصري. مؤكداً أن المهارة والحرفية ليست معياراً أصيلاً للانتخاب، وإنما يجب إخضاعهما لمن يعبر عن الهوية المصرية المتنوعة للمجتمع المصري.
الحريات الأساسية في الدستور القادم:
تحدثت الكاتبة الصحفية، فريدة الشوباشي، عن الفزع الذي أصابها من سيادة سياسة الإقصاء من جانب تيار معين، بما يثير الشكوك حول الحريات الأساسية التي ينبغي أن يتضمنها الدستور الجديد، وأهمها حرية الرأي والتعبير. وتدلل على وجهة نظرها بقول أحد الأعضاء إن الديمقراطية وثن.
وأشارت إلى أن هناك أفراداً تبادلوا الأدوار مع الإله، وأعطوا أنفسهم حق محاسبة الناس على ضمائرهم وعقولهم ومعتقداتهم. وتستطرد أن بؤرة الفتن في المجتمع هي سياسة الإقصاء وغياب العدالة الاجتماعية، لذا فنحن في حاجة إلى دستور يراعي الهوة التي وصلنا إليها من الظلم الاجتماعي، دستور ينطوي على أفعال، وليس شعارات، يكفل أمان ومواطنة كل المصريين.
واستشهدت الكاتبة بقول كيسنجر: " إن أكبر ضمان لبقاء إسرائيل في المنطقة العربية هو تفتيت المنطقة إلى دويلات عرقية"، وهو ما حدث في العراق، والسودان، وجار تنفيذه في سوريا، ولبنان، ومصر. لذا، لا بد أن يكون الدستور إرساء لوحدة مصر، وليس لتقسيمها.
ماذا يريد المصريون من الدستور؟
قامت المجموعة المتحدة بإجراء دراسة ميدانية اعتمدت على المجموعات البؤرية، استهدفت الوقوف على تطلعات الشعب المصري نحو الدستور القادم. حيث أشار نجاد البرعي - المحامي بالنقض والباحث الرئيسى بالدراسة- إلى أن هناك تعمدا لتحويل أنظار المواطنين وإلهائهم بقضايا فرعية عن الدستور، في ظل انتخابات سوف تأتي برئيس ليس له صلاحيات محددة. وأكد عدم أهمية اسم الرئيس المنتخب، أو الجزب الحاكم، أو التيار المسيطر. ولكن من المهم عدم العبث بالحقوق الأساسية التي يحتويها الدستور.
لذا، خرجت الدراسة بمجموعة من التوصيات إلى اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، أشارت إلى أن كثيرا من المعارك السياسية التي تخوضها القوى السياسية لا معنى لها لدى المصريين، وأنها في حقيقة الأمر معارك يخوضها أفراد يريدون أن يطبقوا رؤاهم على المجتمع، بغض النظر عن رغبة المجتمع ذاته. وفي أكثر المسائل جدلاً، أثبت المشاركون في الدراسة أنهم أكثر تفهماً من الزعماء السياسيين الذين أضاعوا وقتاً ثميناً في مناقشات، لا طائل من ورائها حول هوية الدولة.
توصيات الندوة:
1. فيما يتعلق باللجنة التأسيسية للدستور: الدستور يجب أن يكون وثيقة توافقية لا يستأثر بها فصيل بعينه، مهما تكن شعبيته. ويتعين وضع ضوابط ومعايير تضمن تمثيلاً معبراً عن الشعب المصري، وأن دور البرلمان هو أن ينتخب فقط أعضاء الجمعية، لا أن يشارك فيها.
2. الاستفادة من الدساتير السابقة كمرجعية: فمصر لا تبدأ من فراغ دستوري، والتراث الدستوري المصري حافل، ويجب الاستفادة منه، كما يجب الاستعانة بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان كمرجعيات أساسية للدستور الجديد.
3. هوية الدولة: يتعين أن تظهر الهوية الجغرافية ( الدائرة الإفريقة والعربية) والحضارية ( الحضارة الإسلامية) لمصر في الدستور الجديد، كما يجب أن تبقى المادة الثانية من دستور 71 كما هي باعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسى للتشريع، وبقاؤها لا يمنع من وجود مصادر أخرى للتشريع، يحتكم إليها غير المسلمين فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية.
4. النظام السياسي: أشارت نتائج الدراسة إلى أن النظام المختلط هو النظام المفضل لدى المصريين بأن تقسم السلطة بين البرلمان والرئيس. فعلى الرئيس أن يهتم بالشئون الخارجية، والدفاع، والأمن القومي، مقابل أن يترك للبرلمان السلطة التنفيذية فيما عدا ذاك، مع تقييد سلطات الرئيس في حل البرلمان، وخضوع الحكومة بالكامل لرقابة البرلمان.
5. النظام الاقتصادي: رأت المجموعات البؤرية أن وضع محددات وضوابط اقتصادية تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية، دون النص على ظام اقتصادي معين، ربما يكون أكثر مناسبة، على أنه من المهم وضع كوابح للفساد، وحدود واضحة للعلاقة ما بين القطاع والخاص، وبناء علاقة صحية تكاملية بينهما، ومراعاة صغار المستثمرين.
6. المقومات الاجتماعية والاقتصادية: يتعين أن ينص الدستور على كفالة محددات تضمن حياة كريمة للمواطن المصري، من ضمان تحديد حد أدني وأقصى للأجور، وإعانة البطالة، وضمان وصولها لمستحقيها، ووضع ضوابط لتملك غير المصريين للأراضي المصرية، على أن تضمن مشاركة المصريين في الإدارة بنسبة 51% في الاستثمارات الأجنبية، وضمان توظيف العمالة المصرية في هذه المشروعات. كما ينبغي أن ينص الدستور على الحقوق الطبيعية للمواطنين في التعليم والصحة وغيرهما، على أن يضمن الدستور نوعيتها وجودتها، وليس كفالتها فقط.
7. الحقوق والحريات: ضرورة أن ينص الدستور الجديد على ضمان الإعمال والتنفيذ الفوري للحقوق والحريات، في طل سيادة القانون، وعدم سن قوانين، من شأنها تقييد هذه الحريات، مما ينبغي الالتزام بالمواثيق الدولية، واعتبار ما جاء بها جزءاً لا يتجزأ عن الدستور، ولا يجوز إصدار أية تشريعات تخالف هذه الاتفاقيات.
8. رئيس الجمهورية ونائبه: تضمنت التوصيات أيضاً عددا من المطالب فيما يتعلق بضوابط الترشح للانتخابات الرئاسية، على أن ينتخب الرئيس لفترة رئاسية واحدة يمكن أن تجدد لمدة واحدة فقط. ويتعين تعيين نائب لرئيس الجمهورية، على أن ينص الدستور على صلاحيات ومهمات محددة للنائب، وضرورة تسمية كل مرشح رئاسي لنائب قبل خوض الانتحابات.
9. ويجب ألا يخلق الدستور الجديد فراعنة جددا، لذا لابد من تقييد سلطات الرئيس لكيلا يستأثر بأي قرار منفرداً، دون أخذ رأي البرلمان أولاً. وذهب المشاركون إلى ضرورة تخلي الرئيس عن رئاسة بعض الأجهزة، كالشرطة والقضاء، لضمان عدم تغول السلطة التنفيذية.
كما أكد المشاركون عددا من المطالب الأخرى في الدستور فيما يتعلق بالفصل بين السلطات، والنظام الانتخابي، والمحليات، ومبدأ المواطنة، واستقلال المؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة.
وشهدت الندوة في نهايتها إلقاء أبيات من الشعر للشاعر عبد الرحمن يوسف، الذي أكد أن مصر تقف الآن أمام شرعيتين: شرعية ثورة يوليو، التي انقض على مميزاتها القائمون على السلطة، وشرعية ثورة يناير التي أصبحت مهددة.
كما خرجت الندوة بعدد من النصوص الدستورية المقترحة فيما يتعلق بالحق في تكوين الجمعيات اِلأهلية، وحرية التنظيم، والحق في الوصول إلى المعلومات، والمادتين 1 و2 من الدستور الجديد.