أيا كان الفائز فى الانتخابات الرئاسية التى كنا نتطلع إلى أن تكون نهاية للمرحلة الانتقالية وبداية لحكم مدنى حقيقى بعد ستين سنة على ثورة يوليو 1952 التى وضعت العسكريين على قمة الدولة فى مصر، فإن فوزه سيكون مفجرا لصراع نتمنى من صميم القلب أن يظل سلميا، ولكن سلمية هذا الصراع المقبل هى واحد فقط من احتمالات تطوره، فليست المسألة مجرد اعتلاء شخص سدة الحكم فى البلاد، أيا كان نصيبه من السلطة الفعلية، ولكن يرى البعض فى فوز أحد المرشحين نهاية ثورة يناير بما حملته من آمال، وفى فوز الثانى مقدمة لتحول مصر إلى دولة يحكمها الدين، أيا كانت احتجاجات البعض على وصف مشروع الإخوان المسلمين والسلفيين بأنه إقامة دولة دينية فى مصر.
تجنب هذه الأزمة أمر صعب للغاية، لأن المطالب التى يرفعها أنصار الدكتور محمد مرسى أيا كان رأينا فى عدالتها تقتضى تراجعا كاملا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن القرارات التى اتخذها فى الآونة الأخيرة والتى تضمن له فرض وصاية صارمة على رئيس مصر المنتخب أيا كان، وليس فى سجل المجلس منذ تولى السلطة فى البلاد مايشير إلى استعداده للتنازل عن أى موقف يتخذه، حتى بعد أن يلوح له العقلاء فى البلاد بخطورة ما يفعله، ولنا فى إصراره على خريطة الطريق التى حددتها التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011 خير دليل على ذلك، وهى التعديلات التى أودت بنا إلى بعض التخبط الذى لا نعرف منه مخرجا الآن. وليس سبب التمسك بهذه المواقف هو فقط الهيبة التى يحرص عليها أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولكنه هو دور أعضائه فى حكم البلاد، ورفض مبدأ خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية المنتخبة، وهو مبدأ بدونه لا يقوم نظام ديمقراطى ولا تتأكد سيادة الشعب. ولكن إلى جانب ذلك يعنى تراجع المجلس عن مساندة قرار المحكمة الدستورية العليا الذى قضى بحل مجلس الشعب، أيا كان رأينا أيضا فى حكمة توقيته، تهاوى حكم القانون فى مصر، فستكون تلك هى المرة الأولى التى يتم فيها العدول عن تنفيذ حكم للمحكمة الدستورية العليا التى تحتل قمة السلطة القضائية فى البلاد، وذلك رضوخا لضغوط سياسية، وفضلا على ذلك تطالب جماهير التحرير بتسليم السلطة للدكتور محمد مرسى الذى أعلن حزب الحرية والعدالة فوزه استنادا إلى حسابات حملته، واستباقا لقرار اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، ولذلك فإن إعلان اللجنة عن نتيجة مخالفة، عن حق أو عن غير حق، سيكون مقدمة لتحول احتجاجات التحرير إلى غضب عارم يعم البلاد، لا يعرف أحد كيف يمكن أن تخرج منه.
ولكن الأزمة ستظل قائمة حتى ولو كان قرار لجنة الانتخابات الرئاسية هو فوز الدكتور مرسى، فالشكوك عميقة لدى الإخوان وغيرهم أنه ليس المرشح المفضل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتتحول الشكوك إلى قناعات مؤكدة بالنظر إلى تاريخ الخلافات بين المجلس الأعلى وحركة الإخوان المسلمين منذ طرح وثيقة السلمى واحتجاج الإخوان المسلمين المدوى عليها فى جمعة 18 نوفمبر2011، والتى تراكمت بعد ذلك وخصوصا حول مصير حكومة الدكتور الجنزورى وتشكيل اللجنة التأسيسية، وسوف يكون الموضوع الأساسى للنزاع بين الإخوان والمجلس الأعلى سلطات الدكتور مرسى رئيسا للجمهورية والتى حرمها منه مقدما المجلس العسكرى.
هل ثمة مخرج؟
ليس من المتوقع أن تنحسر هذه الأزمة سريعا فى الأيام المقبلة أيا كان الفائز فى هذه الانتخابات. إعلان فوز مرسى لن يضع حدا لهذه الأزمة، فسيكون على المجلس الأعلى للقوات المسلحة إما أن يتكيف مع هذا الانتصار ويعدل مواقفه بالنسبة لكل قضايا الخلاف مع حركة الإخوان المسلمين من حل مجلس الشعب، وتشكيل الجمعية التأسيسية واستمرار العمل بالإعلان الدستورى المكمل أو يتمسك بمواقفه ومن ثم لا يكون هناك تعايش سلمى على قمة السلطة بين الرئيس المنتخب وقادة القوات المسلحة الذين يريدون الحفاظ على دور أساسى فى إدارة البلاد مع ادعاء فارغ المضمون بتسليم السلطة فى الموعد المحدد لذلك. أما فى حالة إعلان فوز شفيق، فإن ذلك قد يكون نذيرا بدخول البلاد فى حرب أهلية بين حركة الإخوان المسلمين والسلفيين وسائر القوى الإسلامية وبعض قوى الشباب ذات التوجهات اليسارية والليبرالية من ناحية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وأنصار شفيق من ناحية أخرى، وقد تكون لهذا الصدام أبعاد خطيرة عندما ينخرط فيه مواطنون ساندوا مرشحا دون آخر.
وهناك عاملان آخران يضاعفان من احتمالات الصدام، أولهما ميراث الشكوك وعدم الثقة الذى أصبح يميز العلاقات بين كل القوى السياسية، وخصوصا بين القوى التى تعلن انتماءها لمعسكر الثورة فى مواجهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبعض المؤسسات القضائية مثل النائب العام ولجنة الانتخابات الرئاسية والمحكمة الدستورية العليا. والعامل الثانى هو غياب هؤلاء الفاعلين الذين يتمتعون بالمصداقية والذين يمكن أن يقوموا بدور الوساطة الفاعلة بين أطراف النزاع.
وقد ارتفعت أصوات قليلة تدعو إلى التزام الاعتدال فى التعبير عن المواقف والحذر من أن يتحول الاحتجاج عن مسلكه السلمى، ويضم كاتب هذه السطور نفسه لأصحاب هذه الأصوات، ومعظمهم فى الحقيقة من الأكاديميين والخبراء النشطين فى التعليق على الشأن العام، ولكن لا يكفى فى هذا الموقف مجرد الدعوة للاعتدال، ولكن يقتضى الأمر أن تكون هناك نصائح محددة يطرحها الجميع على المرشحين فى الجولة الثانية وأنصارهما، ويضغط من خلالها الرأى العام على كل منهما.
فى مقدمة هذه النصائح وربما يكون أصعبها هو أن يمد كل فريق فائز يده إلى الفريق الآخر بالدعوة إلى التعاون لصالح الوطن. وأيا كان رأى أنصار الدكتور محمد مرسى فى الفريق أحمد شفيق، فقد أيده اثنا عشر مليونا من المواطنين، وهو عدد يقترب باعتراف حملة الدكتور محمد مرسى من الذين صوتوا لمرشحهم، ولا يمكن وصف كل هذه الملايين بأنها من الفلول أو أنصارهم. إن الذى دفعهم لمناصرة شفيق هو خشيتهم من المشروع الإسلامى الذى يحمل مرسى رايته، وسوف تكون ممارسة العنف ضدهم من جانب بعض المتحمسين للدكتور مرسى هى الدليل على صحة أسوأ توقعات هؤلاء المواطنين من هذا المشروع. وهم يضمون قطاعات واسعة من المواطنين المصريين من كل الطبقات، وفى محافظات كبرى فى الوجه البحرى. وتقتضى الحصافة السياسية أن يسعى مرسى لكسبهم مستقبلا إلى جانبه، لا أن يروعهم أنصاره بدافع الانتقام. وينطبق ذلك بكل تأكيد على الفريق شفيق فى حالة إعلان فوزه فى الجولة الثانية. وقد يكون مما يؤكد على هذه الرغبة فى التعاون أن يضم فريق المستشارين للرئيس الفائز بعض ذوى الخبرة الذين شاع عنهم تأييدهم لمنافسه.
لا أعرف كيف سيكون رد فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى حالة إعلان فوز الدكتور مرسى، خصوصا وقد جاء بيانه مساء الجمعة حافلا بالتهديد، أو على الأقل هذا ما فهمته قطاعات واسعة من المواطنين وليسوا جميعا من أنصار مرسى. أمام المجلس فرصة هائلة ليثبت أنه يضع مصالح البلاد فوق كل اعتبار، وذلك بتجميد السلطات التى منحها لنفسه بموجب الإعلان الدستورى المكمل. لا يجب على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يصدر أى قوانين، ويترك لرئيس الجمهورية المنتخب حقه الثابت فى اقتراح القوانين والتى يمكن طرحها على مجلس الشورى فى غياب مجلس الشعب للاستئناس برأى أعضائه فيها قبل أن يصدرها رئيس الجمهورية. ولا يجب أن يعترض المجلس الأعلى على مطالب رئيس الدولة أو حكومته بتخصيص موارد فى ميزانية الدولة لتنفيذ برنامجه الانتخابى، وليس له أن يفرض عليه أشخاصا بعينهم يعاونونه فى ديوان رئيس الجمهورية، ولا أن يشترط عليه أن يكونوا بالضرورة من العسكريين. أعرف أن هناك دعاوى بحل مجلس الشورى بدوره، وقد انتخب أعضاؤه على أساس نفس القواعد التى استندت إليها المحكمة الدستورية فى حكمها الخاص ببطلان قانون انتخابات مجلس الشعب. إن تأجيل إصدار حكم ببطلان انتخاب مجلس الشورى بدوره سوف يبقى على مؤسسة منتخبة تعاون رئيس الجمهورية فى هذا الظرف الدقيق، وربما كان قضاة المحكمة الدستورية أكثر توفيقا لو كانوا تمهلوا فى إصدار حكمهم الخاص بمجلس الشعب مثلما فعلوا فى سنة 1990 عندما أصدروا حكما مماثلا على مجلس الشعب بعد أن وصلتهم دعوى البطلان بثلاث سنوات. ولعلهم يدركون الآن النتائج السياسية الخطيرة التى ترتبت على حكمهم الأخير، وبوسعهم أن يجنبوا مصرنتائج غياب مجلس الشورى بدوره فى هذا الظرف العصيب.
هذه الاقتراحات المتواضعة لا تفقد أيا من الأطراف المتنازعة على حكم مصر ماء وجهه، ولكنها يمكن لو أخذوا بها أن تنقذ البلاد من آثار عاصفة تنهى ربيعها الواعد بليل خريف مكفهر طويل.
----------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الإثنين 25/6/2012.