تفيد مؤشرات الدورة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية أن الرئيس فرانسوا هولاند قد يحصل على أغلبية برلمانية تتيح له تشكيل حكومة يسارية دون صعوبات تذكر، وبالتالي تنفيذ الوعود الانتخابية التي قطعها على نفسه، غير أن التقديرات المتصلة باتجاهات التصويت في الدورة الثانية قد لا تصب الماء في طاحونته .
والواضح أن دورة الإعادة قد تفضي إلى ثلاثة احتمالات تتدرج في أهميتها وصلاحيتها بالنسبة إلى الحكومة الفرنسية المقبلة: الاحتمال الأول والأفضل للرئيس هو أن يحصل الحزب الاشتراكي منفرداً على أكثرية مريحة من أعضاء مجلس النواب على أن تغطي هذه الأغلبية الحكومة المقبلة، وبالتالي يكون الرئيس في هذه الحالة أقل تعرضاً للضغوط من طرف حلفائه ويلتزم حصراً تطبيق برنامجه الانتخابي، والظن الغالب أن الاشتراكيين ليسوا بعيدين عن هذا الاحتمال الذي يبقى رهناً بتعبئة انتخابية حاشدة وحماسية .
والاحتمال الثاني ينطوي على فشل الحزب الاشتراكي بالحصول على أغلبية مطلقة أو بحصوله على أغلبية ضعيفة . في هذه الحالة سيكون بحاجة إلى أصوات حلفائه اليساريين أو حركة الخضر، والراجح أنه سيفضل التحالف مع أنصار البيئة لأنه وقّع معهم على ميثاق يحترم وعود الرئيس الانتخابية ولربما يحصلون على نصيب أكبر في الحقائب وعلى مطالب خاصة لا تؤثر جوهرياً في الأداء الحكومي . أما الاحتمال الثالث فينطوي على فشل الحزب الاشتراكي بالحصول منفرداً على أغلبية مقاعد البرلمان، وفي هذه الحالة سيكون بأمس الحاجة إلى الحصول على أصوات حلفائه جميعاً أي جبهة اليسار وحركة الخضر والحزب الشيوعي الفرنسي وهنا سيكون على الرئيس هولاند أن يشكل حكومة تعايش يسارية، وأن يذهب أكثر باتجاه اليسار الراديكالي لكسب رضى حلفائه، وهذا يستدعي الموافقة على إجراءات راديكالية قد تنفر تيار الوسط وتقربه أكثر نحو اليمين وبالتالي يصبح اليسار أقلوياً لدى الرأي العام وعرضة للفشل في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة .
يبقى الاحتمال الأخير وهو ينطوي على فشل اليسار في الحصول على الأغلبية البرلمانية، وبالتالي اضطرار فرانسوا هولاند إلى تشكيل حكومة تعايش مع اليمين، وهذا الاحتمال يرده البعض إلى فشل استطلاعات الرأي بإجراء قياس دقيق لاتجاهات الاقتراع، كما هي الحال عندما فشلت الاستطلاعات نفسها في قياس حجم الاقتراع للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في الرئاسيات الماضية .
أما المنحى الكارثي لهذا الاحتمال فهو يكمن في اضطرار الرئيس وحكومته اليمينية إلى التعايش الهادئ، أي أن يتمنع كل طرف عن تطبيق برنامجه والإخلاص لمعتقداته، وأن يقتصر الحكم على تسيير أعمال الدولة بطريقة بيروقراطية، الأمر الذي سيضعف الدور الفرنسي في أوروبا وفي العالم . وقد مرت فرنسا بتجربتين من هذا النوع في عهدي فرانسوا ميتران وجاك شيراك وكانت حصيلة التجربة في غاية السلبية .
والثابت أن السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط قد لا تتأثر في ضوء الاحتمالات السابقة إلا في حالة واحدة فقط، وهي حاجة الرئيس هولاند إلى أصوات جبهة اليسار بزعامة ميلونشون، فهذه الجبهة تعتمد مبادئ في السياسة الخارجية مناقضة تماماً لمختلف التشكيلات السياسية الفرنسية من بينها أن مؤسس الجبهة يرى أن بلاده ليست دولة غربية، وإنما دولة معولمة وإنسانية تحتفظ بشرعة حقوق الإنسان والمواطن وبشعارات العدالة والمساواة التي تبناها العالم بأسره .
بخلاف هذا الاحتمال وهو ضعيف للغاية، لن نلحظ تغيراً يذكر في السياسة الخارجية الفرنسية إلا لجهة الاحتفاظ بهامش أكبر للمناورة على الساحة الدولية وبالتالي انتزاع السياسة الخارجية الفرنسية من تحت السقف الألماني في أوروبا، والأمريكي في العالم، و”الإسرائيلي” في الشرق الأوسط، كما كانت عليه خلال العهد السابق بزعامة نيكولا ساركوزي . ولعل الملف الوحيد الذي لن يخضع للتغيير في كل سيناريوهات الحكومة المقبلة هو الملف السوري، ذلك أن باريس المجبرة على الوفاء بوعود رئيسها والانسحاب من أفغانستان ستكون مجبرة على مسايرة الأمريكيين المستائين من هذا الانسحاب المفاجئ والتعويض عنه في الملف السوري، وقد بدأ التشدد الفرنسي في هذا الملف منذ أسابيع وبلغ الذروة خلال محادثات بوتين هولاند الأخيرة .
ولعل ملفاً آخر يستأثر أيضاً بالإجماع وهو الملف الفلسطيني، حيث من المنتظر أن تدعم فرنسا دون هوادة المساعي التي تبذلها السلطة الفلسطينية من أجل انتزاع اعتراف من الأمم المتحدة بدولة فلسطينية غير كاملة العضوية ومن المنتظر أيضاً ألا تتهاون فرنسا مع الليكود في مشاريعه المعلنة في زيادة الاستيطان والتعرض للمسجد الأقصى .
يفصح ما سبق عن احتمال رسم سياسة خارجية فرنسية مختلفة إلى حد كبير عن سياسة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي تقوم على اكتساب هامش أكبر للمناورة والانتقال تدريجياً من تحت السقوف الأمريكية والألمانية والليكودية، الأمر الذي يتناسب تماماً مع نظرة الفرنسيين إلى بلادهم ومع مصالح أطراف عديدة في الشرق الأوسط في طليعتهم السلطة الفلسطينية التي وجدت دائماً ضالتها في فرنسا حين تبرز الحاجة إلى المعونة .
------------------
* نقلا عن دار الخليج، 13/6/2012.