عرض :محمد بسيوني عبد الحليم.. باحث في العلوم السياسية
منذ عقود، وحركات الإسلام السياسي تبحث عن الوجود في ساحة لطالما وصفت بأنها حكر على النظم السياسية القائمة. فبعد أن ظهرت جماعة الإخوان المسلمين على يد "حسن البنا" عام 1928، بدا أن الجماعة تشكل تيارا متمايزا في الفكر والممارسة، بصورة جعلت تيار الإسلام السياسي في العالم العربي يكتسب زخما متزايدا، ومن ثم وجدت النظم القائمة هذا الصعود تهديدا لشرعيتها التي اهتزت بفعل الأزمات الاجتماعية، وعدم قدرتها على الاستجابة لتطلعات شعوبها. ومع موجة التحول الديمقراطي المحدود التي طالت العديد من الدول العربية، والانتقال من حالة السلطوية إلى شبه السلطوية، أصبحت الانتخابات مجرد أداة شكلية. إذ إن التيارات السياسية المختلفة، بما في ذلك تيارات الإسلام السياسي، مسموح لها بالمشاركة في الانتخابات، ولكن دون أن تحصد الأغلبية، وبالتالي أصبح لزاما على تيار الإسلام السياسي أن يدخل الانتخابات رافعا شعار "مشاركة لا مغالبة".
وفي هذا الصدد، يتناول "ناثان براون" في كتابه " الحركات الإسلامية والسياسة في العالم العربي" - الذي ترجمه سعد محيو وصدر في بيروت عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012- العلاقة المعقدة التي جمعت تيار الإسلام السياسي بالنظم السياسية القائمة، ويستعرض عبر فصول الكتاب التسعة التغيرات التي طرأت على هذه العلاقة، عبر منهج مقارن لتجارب الإسلاميين في مصر، والأردن، والكويت، وفلسطين.
الإسلاميون بين الجمود والتسييس:
عندما وصف "حسن البنا" جماعة الإخوان المسلمين بأنها "فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية، فهي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية"، كان يعبر بذلك عن فكرة شاملة للجماعة التي مثلت الرافد الأساسي لتيار الإسلام السياسي. ولكن هذه الفكرة ظلت حبيسة كتابات أقطاب الجماعة، إذ إن النزول للواقع بشتي معطياته دفع الإسلاميين للتركيز على الجانب الدعوي والاجتماعي، وإغفال الجانب السياسي.
وهذه الحقيقة أوجدت حالة من الالتباس، فالإسلاميون لديهم مشروع فكري يري أن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تزاوج لا تقبل الانفصام. بيد أنهم يصطدمون بواقع تسيطر عليه نظم سلطوية، ترفض أي منازعة عليه، ومن ثم كانت تيارات الإسلام السياسي تلجأ إلى الانكفاء على ذاتها، بل وفي بعض الأحيان مهادنة النظم السلطوية، وهو ما أفضي إلى بعض الجمود الفكري داخل هذه التيارات.
وهنا، يري "براون" أن تجارب التاريخ (كما في حالة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا) تشير، بدرجة أو بأخري، إلى أن تطور المواقف السياسية للحركات الدينية رهن بالعملية السياسية. فوجود عملية سياسية تقدم مكافآت لقاء المشاركة، وفي الوقت نفسه تشهد مخاطر نظير استراتيجيات مغايرة، يدفع هذه الحركات نحو المزيد من الانفتاح، والتعايش مع قيم كانت تتبني مواقف عدائية إزاءها.
التحول من السلطوية إلى شبه السلطوية:
بدت العلاقة بين النظم الحاكمة في العالم العربي وتيار السلام السياسي علاقة معقدة، فهي علاقة تراوحت بين التصادم والمهادنة، وإن كان المتغير الأقوي في هذه العلاقة هو النظم الحاكمة التي كانت توصف بأنها نظم سلطوية، تمنع أي فرصة للمعارضة في الفوز في الانتخابات، وتكبت الحريات، وبالتالي كانت مساحة التحرك لتيار الإسلام السياسي مقيدة وموسومة بالقمع السلطوي. وتعد تجربة الإخوان المسلمين خلال الحقبة الناصرية واحدة من التجارب الرئيسية في هذا السياق.
ويشير "براون" إلى أن التحول من السلطوية إلى شبه السلطوية أدى إلى تراخي قبضة الاستبداد. وعطفا على هذا، بات من المقبول مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية، وخوض الانتخابات، ولكن في الوقت ذاته لا يسمح لهم بالفوز.
ومع هذا التحول في النظم الحاكمة، كان على التيار الإسلامي اغتنام هذه الفرصة، فيما وجد نفسه مرتبكا بين سمتين، بحسب "براون". فهو من ناحية، لديه من المرونة التي تجعله يتكيف مع مختلف الظروف، ولكنه في الوقت ذاته يتفاعل ويتحرك بحذر، ومن ثم إهدار بعض الفرص السانحة، وهي سمة اكتسبها التيار بفعل التركيز الشديد على التنظيم الداخلي، والحفاظ على تماسكه.
تأثير التحول في الإسلاميين:
وفي هذا الصدد، يشير "براون" إلى أن هذا التحول في شكل النظم القائمة كان له مردود على الإسلاميين من خلال المؤشرات التالية:-
أولا- التعاطي الإيجابي مع العملية السياسية. فبمرور الوقت، بدأ تيار الإسلام السياسي يتنازل عن بعض مواقفه، وأصبح يشارك بصفة شبه دورية في الانتخابات. فجماعة الإخوان المسلمين في مصر شاركت في الانتخابات البرلمانية منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وتمكنت خلال انتخابات 2005 من حصد 88 مقعدا من مقاعد البرلمان. وعقب ثورة يناير 2011? تمكنت - عبر ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة - من حصد أكثرية مريحة في البرلمان. وتشابهت تجربة الإخوان في الأردن مع التجربة المصرية، حيث تأسست الجماعة عام 1945 وكانت أول مشاركة في الانتخابات عام .1989
وفي سياق متصل، كانت الحركة الإسلامية في الكويت تتبني نهجا مقاربا، حيث رفضت العملية السياسية برمتها. ولكن هذا الموقف راوح مكانه، وبدأ الاهتمام بالمشاركة يستحوذ على فكر الحركة بعد تأسيس الحركة الدستورية الإسلامية "حدس". فيما تطرح حركة حماس تجربة أخري، بدأت بالمقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، وانتهت بالمشاركة في الانتخابات عام 2006? والتي هي نتاج تسويات أوسلو المرفوضة أساسا من الحركة.
ثانيا- أفضت المشاركة السياسية للتيار الإسلامي إلى إشكاليتين رئيسيتين. إذ إنه من ناحية، يدرك أن النظم القائمة صاحبة اليد الطولي، ومن ثم يلجأ إلى مهادنتها، وفي بعض الأحيان التوافق معها، حفاظا على البقاء. ومن ناحية أخري، واجه التيار الإسلامي أزمات داخلية، وصلت في بعض التجارب إلى الانشقاقات الداخلية، وبروز تياري الصقور والحمائم.
ثالثا- مع نكوص الأنظمة السياسية عن تعهداتها، وقمع الإسلاميين في حالة أشبه ما تكون بالانتقال العكسي اللحظي من شبه السلطوية إلى السلطوية، بدا تيار الإسلام السياسي وكأنه "حركات أنبوبية"، عندما تتعرض للضغوط، تبحث عن فضاءات أخري. فالمنع من دخول البرلمان يدفع نحو العمل في النقابات المهنية والجامعات.
رابعا- تشكيل الأحزاب السياسية، وهو ما سعي التيار من خلاله لإيجاد قدر من الاستقلالية للتحركات السياسية والمناورات، بعيدا عن مواقف الحركة الأم. وفي هذا السياق، تحمل تجربة الإخوان المسلمين في مصر دلالات واضحة. ففي عام 2010 أعرب "سعد الكتاتني" عن اعتقاده بأن تقديم طلب للحصول على ترخيص للحزب سيكون بمثابة شهادة وفاة للجماعة. ولكن بعد ثورة 25 يناير، سارعت الجماعة إلى تشكيل "حزب الحرية والعدالة" ليحصد أكثرية في البرلمان، مما جعل البعض يعتقد أن شعار "مشاركة لا مغالبة" قد جاوزه الزمن.