حولت نخب القاهرة الديمقراطية إلى أحاديث الصفقات والضمانات؛ حيث بدأ من يتأهبون للمناصب في سوقية منقطعة النظير في كتابة عريضة طلبات لكل من محمد مرسي مرشح الإخوان وأحمد شفيق المرشح المستقل. الديمقراطية ليست صفقات، الديمقراطية صوت الإنسان الحر الذي يعبر عن إرادته من خلال الصندوق في حرية كاملة، أما شحن المواطنين في باصات أو في سيارات ورشوتهم من ناحية أو تخويفهم من ناحية أخرى فهو ضد كل شيء تنادي به القيم الديمقراطية، ولكن تلك هي مفاهيم نخبة مصر عن الديمقراطية. وفي الوقت الذي تكون فيه الانتهازية هي سمة السلوك السياسي فوق عند النخبة نجد روح الثورة متمثلة تحت عند الناس العاديين. وفي أول اختبار للديمقراطية في مصر فشلت النخب المصرية في فهم الديمقراطية، بينما نجح الناس في الممارسة على الأرض، وهذا بالضبط ما كان يحدث في أول أيام الثورة حيث لم تكن الأزمة تحت في الميدان عند الناس في الشارع بل كانت الأزمة فوق عند مبارك ورجاله «اللي كانت ساعتهم مأخرة يوم».
الشعور العام داخل المجتمع هو أن نتائج الانتخابات أوقعت مصر في فخ، بين شفيق الذي ينظر إليه كمرشح النظام القديم ومرسي الذي هو مرشح الإخوان المسلمين. الناس يبحثون عن مخرج من هذا الفخ ويتحدثون عن مؤامرة أحيانا وضعتهم في هذا الفخ وأحاديث التزوير عند الشباب عالية جدا. وخارج نظرية المؤامرة، الكتلة الكبرى من المصريين هي ورطة فعلا، ورطة عاطفية وابتزاز من قبل الإخوان الذين يهددون الناس بأن من لا يؤيدهم فهو أوتوماتيكيا ضد الثورة ومن الفلول، رغم أن الحقيقة الناصعة التي يعرفها كل مصر أن الإخوان لم ينضموا إلى الثورة إلا لاحقا. ومع ذلك فمبادرة الإخوان الفخ هي عبارة «حماية الثورة»، أي أن الإخوان يلتقون بمن يسميهم أهل الإعلام في مصر بالقوى السياسية من أجل حماية الثورة من الفلول، في إشارة مشفرة يقصد بها شفيق. وفي حركة مصرية بامتياز لاختبار النوايا طرحت حملة حمدين صباحي الذي حصل على المركز الثالث أن يتنازل محمد مرسي لحمدين صباحي إذا كان هدف الإخوان هو بالفعل حماية الثورة. ورفض الإخوان العرض وفشلوا في أول اختبار يجنبهم تهمة «التكويش» على السلطة. أي أن الإخوان لا يرضون بأي شريك لهم إلا كشريك درجة تانية يكون موظفا عند الإخوان المساكين وهذا ما رضي به بعض نواب البرلمان من الليبراليين الذين طال بهم الاشتياق ليقال عن أي منهم عضو برلمان.
مصر في ورطة حقيقية لغياب أي أفكار كبرى عن الديمقراطية والتغيير أو معنى الثورة، فمعظم الأفكار المطروحة على شاشات التلفزيونات والصحف هي أفكار السبوبة أو صفقات البقالين أو الدكاكين السياسية الصغيرة. إن لم تنتقل مصر خلال الأيام المقبلة من عقلية السبوبة إلى تصور أرحب لمعنى الوطن بعد ثورة، فإن مزيدا من الدماء ستسيل على الأرض إن لم يكن اليوم فليس بعد زمن قليل، فمصر أكبر بكثير من أن تسلم مقدراتها لجماعة نصفها في الوطن ونصفها الآخر خارجه، كما أنه لا يصح أن جرار قطار الوطن يجره رجل لم يحصل حزبه على أكثر من 25 في المائة من أصوات الناخبين في مجتمع امتنع نصفه عن التصويت، أي أن الإخوان قد حصلوا على 12 في المائة من مجموع المقيدين في جداول الانتخابات أو من لهم حق التصويت. فالهدف من الانتخابات هو الوصول إلى إجماع وطني يحقق للحكم شرعية واستقرارا واستمرارا، وهذا ما لم تنتجه الانتخابات الرئاسية.
الانتخابات الرئاسية كشفت الحجم الطبيعي لجماعة الإخوان في المجتمع عندما تكون مصر دائرة انتخابية واحدة، فما حصل علية الإخوان هو آخر سقف الإخوان. إذن هناك ثلاثة تيارات رئيسية أخرى لا بد من الاعتراف بها إن أراد الإخوان أو الفريق شفيق مصالحة وطنية حقيقية تهدف إلى الاستقرار. فهناك تيار الدولة المصرية التقليدي المتمثل في بيروقراطيتها وأسر الضباط والجنود في الجيش والشرطة والتي ذهبت إلى أحمد شفيق وتصل نسبتها إلى 25 في المائة من الأصوات، وهناك تيار الثورة أو التيار المدني الذي مثله حمدين صباحي وعمرو موسى وآخرون والذي يصل إلى نحو 30 في المائة وهناك تيار رافض لكل من ترشحوا وهو تيار لا يقل عن 20 في المائة من الناس. بداية الحل تبدأ بالاعتراف بالتيارات الأخرى والحديث إليها حديثا لائقا وليس حديث الصفقات وأحاديث السوقة من أصحاب عقلية السبوبة والصفقات.
مصر بلد متنوع جغرافيا وسياسيا وليس كما يظن البعض أنه مجتمع متشابه وهذا ما كشفته الانتخابات. الانتخابات كشفت وطنا غير الوطن، كشفت أن الإسكندرية هي معقل مدنية الثورة وكشفت أن تيار الدولة أو ما يسمى بالفلول تيار كبير لا يستهان به. من يستهن بقوة خمسة ملايين مواطن وأكثر لا بد له أن يعرف أن خراب الأوطان لا يحتاج إلى كل هذه الملايين، خمسة ملايين مواطن يستطيعون حرق خمسة أوطان وليس وطنا واحدا، لذا يجب أن نأخذ في الاعتبار أن إغضاب هذا التيار فيه خطر كبير ونفس القصة تنطبق على التيارات الأخرى إذا ما دفع المصريون بعضهم بعضا إلى حافة الهاوية، وهي قريبة وقريبة جدا في جو الغرور وجو الصفقات السوقية التي لا تنظر إلا تحت أقدامها.
فشلت النخبة في اختبار الديمقراطية ونجح البسطاء في ممارستها، آمن الناس بالممارسة الشريفة للديمقراطية وبالمساواة التي نادت بها الثورة، ولكن النخبة لم تؤمن بالثورة بعد. النخبة ما زالت تعيش في خيالات الماضي التي أساسها الصفقات والسبوبة لا المساواة والديمقراطية والكرامة الإنسانية.
مصر في خطر شديد قبل الإعادة الرئاسية، ولكن بكل أسف ومن خلال وجودي في القاهرة لفترة طويلة لم أقابل الكثيرين ممن يفكرون في مصر، قابلت الكثيرين ممن قتلتهم النرجسية لدرجة أن تكون مع الفرد شحما ولحما ولا يكفيه أنك تسمعه بل يعاتبك على أنك «فاتك عندما لم تشاهده في التلفزيون لتسمع ما قال». «مش كفاية انك بتسمعه شحما ولحما، لأ دا يفتح الآي باد بتاعه وتتفرج أنت وهو على برنامجه في التلفزيون». أمراض نفسية لم أر مثلها في حياتي. في حالة النرجسية العالية هذه، ستذهب مصر ولمدة عشر سنوات مقبلة إلى حيث لم يشته المصريون ولم تشته الثورة، ساعتها يفوق البعض من سكرة الثورة ومراهقتها إلى رشد الدولة، إن بقيت هناك دولة يمكن الحديث عنها. أفيقوا يرحمكم الله.
---------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الإثنين، 28/5/2012