أشعر بمسؤولية المثقف العربي تجاه الذكرى المائة لقيام "حزب المؤتمر الوطني الأفريقي" الشهير بـ "A N C" في جنوب أفريقيا منذ عام 1912...ولابد أن رقم مائة عام يلفت الأنظار، ويثير الحمية، بقدر ما حقق هذا الحزب من نجاحات برغم ما يواجهه دائماً من انتقادات. وفكرة "المؤتمر" في حد ذاتها ليست جديدة، وتدفع لدراسات معمقة في تاريخ الحركات الديمقراطية في أنحاء مختلفة من العالم، ولكنها تميزت بشكل خاص في حالات مثل الهند وجنوب أفريقيا، بما جعلها مقابلاً متميزاً لإغراق البعض في أفكار "الجبهات" والائتلافات التي لم تثبت الكثير منها فاعليتها. ثمة حالات بارزة أخرى لأفكار المؤتمر الناجحة مثل حزب "الوفد" في مصر، أو "مؤتمر الخريجين" في السودان، ولكن قلما وجدنا مثل هذا النجاح في حالات جبهات سياسية حكمت الجزائر أو العراق أو سوريا...الخ، ولا يعني ذلك نجاح الحالة دائماً. ولكنها انتشرت على أي حال في البلاد المحيطة بالتجارب الناجحة خاصة في أفريقيا فترة النضال الوطني (روديسيا الشمالية والجنوبية – ومالاوي –وباسوتو...الخ )، بل وأن نكروما وزعماء كثر من غرب أفريقيا، أقاموا تنظيماتهم بأسماء قريبة ولنفس المعنى، ..."الميثاق"، أو"التجمع"، امتدت من غانا لنيجيريا وغينيا وسيراليون...وكانت عندما تعني الحشد الشعبي للتحرر الوطني تجد نجاحها بسهولة، ولكن بعضها مضى لبناء الدولة، وظل الأكثر نجاحاً حتى الآن هو حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بجنوب أفريقيا.
ولعل مصدر النجاح المطرد لـ"المؤتمر"، ليس هو بالطبع مجرد الاسم، ولكن لأن جوهره البحث عن جذرية الاتصال بجماهيره طوال الوقت وبقادة يدهش المرء أحياناً من قدرتهم الجامعة تلك رغم التنوع الهائل في خصائصهم من قيادات كنسية بسيطة أول القرن العشرين، إلى زعامات عملية ونقابية أواخر القرن وحتى الآن. في البدء انطلقت العناصر الأولى ممن تسيسوا في إطار حركة الكنيسة "الإثيوبية"، وهو الاتجاه الوطني لأفرقة الكنيسة إزاء استعمال الكنائس الغربية الوافدة في إطار سياسة المستوطنين والتمييز العنصري، وفي تلك الفترة كان تأثير الآسيويين كبيراً بنفوذ واسع "للغاندية"، وهي الفلسفة التي سيطرت على حزب "المؤتمر" نفسه عند قيامه عام 1912، ذلك أن فلسفة "ستيا جراها" الغاندية الوطنية بدورها كانت الأقدر على جمع كافة المضطهدين من العاملين والفلاحين، أفارقة وآسيويين وملونين، ومن مختلف العقائد والقبائل، وهكذا تبلورت في الهند حاشدة كل طوائفه في المؤتمر الهندي وفن فلسفة غاندي عن اللاعنف والمقاومة السلمية. ربما لهذا لم يدخل حزب "المؤتمر" في جنوب أفريقيا عالم الكفاح المسلح، واللجوء للعنف إلا مع موجة التحرر الوطني في الستينيات من القرن الماضي إزاء اشتداد العنف العنصري، وإنْ كان جناح الشباب فيه ومنظمته "مخونتو وى سيزوي" (رمح الأمة) كانت تقود التمرد دائماً على قيادة الحزب – منذ مطلع الخمسينيات- وحتى الآن.
وفي إطار حزب "المؤتمر" اتخذت المقاومة الوطنية أشكالها المبدعة لفترة طويلة وإنْ تحت شعار"المقاومة السلبية" والنضال السلمي". فتمت صياغة "ميثاق الحرية" عام 1955 كواحد من أشهر مواثيق التحرر الوطني الجامعة بعد الحرب الثانية، وشاهدنا "ثورة شاربفيل" في مارس 1960، التي قام العمال فيها بتمزيق تصاريح المرور إلى مدنهم وأحيائهم الوطنية، اعتراضاً على سياسة التمييز العنصري، وتبلور حزب مقاتل بجانب المؤتمر عقب ذلك (حزب الوحدة الأفريقية)، كما فجرت قوى الحركة الوطنية مشاعر "الوعي الأسود" في "سويتو" (ضاحية جوهانسبرج) 1976 بقيادة تلاميذ المدارس وأولياء الأمور، وتحرك العالم إلى جانبهم وبرز اسم "ستيف بيكو" الزعيم الطلابي الذي هز النظام العنصري. ولم تهدأ الحركة إلا بتحول البلاد إلى النظام الديمقراطي 1990/1991.
في إطار حزب "المؤتمر" والتجربة الرائدة يمكن دراسة أنماط العمل السياسي والممارسة الديمقراطية طوال الوقت، كما يمكن تأمل معنى تعبئة كافة عناصر الأمة وإنْ بمناهج مختلفة. وقد ظل حزب "المؤتمر" قادراً على رفع شعارات جذرية ماضياً في تنفيذها رغم اتهامه بالترهل أحياناً، أو المبالغة الإعلامية دون القتالية، أو الاعتماد على شهرة زعماء مثل مانديلا أكثر من تكوين كوادر قيادية أوسع ...الخ. لكن قراءة بعض تجاربه المستمرة ما زالت تلفت النظر، بل استطاع طوال الوقت أن يتحاور مع سياسات الدول المجاورة، ومنظمة الوحدة الأفريقية، ويغازل الدول الكبرى شرقاً وغرباً بنجاح ملفت. فهو ضمن النفاذ من حدود حوالى أربع دول مجاورة لتهريب كادره المدرب إلى الداخل رغم رقابة النظام العنصري، وذلك لتغذية الكفاح المسلح المعلن من عام 1967 بديلاً للمقاومة السلبية، وهو يتساهل مع "كاوندا" زعيم زامبيا الذي يعلن إمكانيات "الوفاق" مع النظام العنصري من أجل"التغيير التدريجي".
وبحصار النظام العنصري عام 1990/1991، أضطر "ديكليرك" رئيس النظام أن يفاوض "مانديلا" في سجنه ليخرج من جزيرة "روبن" معلناً أنه لن يوقف العنف إلا بعد "الاتفاق الشامل"، وبدأ المؤتمر بتعبئة كل القوى الداخلية معه "صيغة كوديسا" إلى حد مقاطعة محادثات التحول الديمقراطي، حتى تتم أكبر صفقة مع النظام العنصري، بتوازن القوى بين الأفريقيين والبيض ويصبح "ديكليرك" نائباً للرئيس مانديلا! وبذلك ضمن البيض السلطة الاقتصادية (الرأسمال) كما سعد الأفارقة بالنفوذ السياسي في تطور "سلمي" ملفت.
لم يتوقف الحزب عن ممارسة حالة "المؤتمر" التي بدأها منذ أوائل القرن، تلك "الحالة"التي جعلته يبدأ في بناء دولة غير عنصرية، دولة لكل سكانها كواحدة من أقوى التجارب الديمقراطية في القارة الأفريقية الآن، منافسة أو مشاركة تجربة الهند في آسيا والبرازيل في أميركا اللاتينية، وليس صدفة أنهم في تحالف قوى على جبهة كتلة الجنوب متعددة الاتجاهات، ماضياً في حشد دول أخرى مهمة مثل المكسيك وإندونيسيا دون وجود أو قدرة على مشاركة أي طرف عربي!
ليست نموذجية جنوب أفريقيا في قوتها الاقتصادية الرأسمالية وحدها، وهي في تقديري قدرة ناشئة من استمرار آليات الرأسمالية البيضاء وليس انطلاق البرجوازية السوداء كما يتخيل البعض...لكن ما دمنا في إطار بحث جوهر دور"المؤتمر الوطني الأفريقي" وتحيته فلنتأمل بعض الجوانب "المؤتمرية "، التي يتوارثها أو يتناقلها أبناء هذه البلاد خلال المائة عام. فـ"المؤتمر" قرر ألا ينفرد بمكاسب "التحول الديمقراطي" الذي حدث عام 1991، ولكنه أبقى على تحالف متين للحكم هو "ثلاثية" ملفتة في طبيعتها من "حزب المؤتمر الوطني" والحزب الشيوعي، واتحاد نقابات العمال (كوساتو) – وتتشكل الوزارات من هذه الأركان الثلاثة، منذ الاستقلال!
وهو درس في"المشاركة"لا"المغالبة"على نحو تحتاج إليه كثيراً بعض دول "الربيع العربي"! وهو بهذا التحالف الثلاثي "المؤتمري" لم يتجاوز في انتخابات أربعة (بين 1994/2009) نسبة بين 69 في المئة- 65 في المئة وخاصة الانتخابات الأخيرة التي تصاعدت فيها رغبته في المغالبة النسبية ليستطيع تعديل الدستور فخذلته– أو رفضت– جماهيره تلك المناورة!
وفي السنوات العشر الأولى من استقلال البلاد تعلي القيادة من قيمة لجنة "الحقيقة والمصالحة" لتحاسب العنصرية القديمة على الجرائم الجنائية دون السياسية حيث يطبق على الأخيرة مبدأ "نعفو ولكن لا ننسى"...ولا ينسى قضاء البلاد أن يدين "حزب المؤتمر" نفسه ببعض اتهامات العنف وجرائم القتل، كما لا ينسى "مانديلا" وهو يقدم حفل تقرير اللجنة أن يذكر بعض ملاحظات أدهشته ولا يتمنى استمرارها، وهو وجود"طرف ثالث" في البلاد رتب أعمال العنف قبل الاستقلال، ولا يزال يمارسها بعد التحول خارج الإطار القانوني المعروف... ملمحاً إلى استمرار القوى المعادية للديمقراطية في بلاده، رغم كل التحولات الديمقراطية التي تجري في البلاد.
كثير ، يمكن قوله عن تجربة حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، إيجاباً وسلباً، لكن حيث يتوجب التوقف، أشعر أن ما كتب هو مجرد عناوين ليدرسها الشباب العربي في بلادنا.
----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 8/5/2012.