الثلاثاء 1 مايو 2012
كشفت قضية المحامي المصري أحمد الجيزاوي، وما تلاها من قرار المملكة العربية السعودية استدعاء سفيرها للتشاور وإغلاق قنصلياتها في مصر؛ عن جوانب من "الأزمة المكتومة" في العلاقات بين مصر والمملكة بعد ثورة 25 يناير، ليس على المستوى السياسي فقط، ولكن أيضا على المستوى المجتمعي بالأساس.
تُشير تفاصيل القضية وجوانبها الفنية -التي كُشف عنها حتى الآن- إلى قدر من التضارب في الروايات. فالبعض يشير إلى اعتراف "الجيزاوي" -من دون ضغط أو إكراه- بحمل الحبوب المخدرة، وتوقيعه على بيان كتابي بذلك، على نحو ما عرضت الصحف السعودية. في المقابل فإن البعض الآخر، يؤكد القبض عليه قبل الإعلان عن حيازته هذه الحبوب أصلا، وأن اتهامه بذلك جاء ردا على رفعه قضايا تتعلق بحقوق الإنسان في المملكة.
وبغض النظر عن مدى صحة أيٍّ من تلك الراويات؛ إلا أن قضية الجيزاوي تطرح تساؤلات حول السيناريوهات المحتملة للعلاقات المصرية السعودية بعد قضية الجيزاوي، وخاصة في تحول الرأي العام المصري بعد الثورة إلى رقم مهم في معادلة تشكيل السياسة الخارجية المصرية.
أولا: أبعاد القضية
1- البعد الشخصي: لم تكن قضية الجيزاوي لتثير هذه الضجة، لولا ميراث سنوات من علاقات بلدين انطوت على قدر من الاختلال. هكذا يتصور قطاع كبير من المصريين، على الأقل. وليس محسوما ما إن كان هذا الاختلال تأسس نتيجة للتحول في موازين القوى في النظام العربي، بفعل المال النفطي، الذي عظم من شأن الخليج والمملكة إقليميا ودوليا، أم لإفراط نظام مبارك في التخلي عن دور مصر القيادي للمملكة. لكن الكثيرين في مصر -قبل الثورة وبعدها- يُلقون بمسؤولية تراجع الدور المصري عربيا إلى مبارك شخصيا. لقد عمل الرئيس السابق منذ تسلمه الحكم على استعادة علاقات مصر العربية، وفي مرحلة تالية -وإزاء المستجدات الإقليمية وحروب العراق وسقوط بغداد- ركز ثقله في مثلث "القاهرة/ الرياض/ دمشق". ومع رحيل حافظ الأسد، ركز على علاقات بلاده بالمملكة والخليج، ثم استعاض بالخليج عن علاقاته بباقي العالم العربي، وقنع بدور مصري مجاور للدور السعودي، وفي المرحلة الأخيرة، انحصرت علاقات البلدين في الرئيس والملك، وجرى الاستثمار كثيرا في العلاقات الشخصية.
ولم ينحصر الإحساس بتراجع دور مصر القيادي في تواضع مكانة الرئيس مقابل مكانة الملك، وإنما تسرب هذا الشعور إلى قطاع من الشعب المصري، الذي يمتلك مئات الآلاف من معلميه وأطبائه ومهندسيه وعماله -ممن عملوا بالمملكة والخليج- ذكريات عن حياتهم وإسهامهم في عمليات البناء والتطوير هناك، وفي بناء الشخصية الخليجية، وهو أمر يعترف به كثير من الخليجيين. هذا المسلسل من تواضع الدور المصري، يبدو أنه سيطرح مشكلات قد تتكرر في فترات تالية، وذلك إن لم يمتلك القادمون الجدد إلى سدة الحكم في مصر حساسية التعامل مع الأوضاع في دول الخليج، أو إذا عجزوا عن طرح رؤى وإرساء قواعد جديدة تسهم في إخراج العلاقات العربية كلها من مستنقع الشخصنة السياسية، أو إذا فشلوا في بناء أسس من القوة والنهضة والجاذبية لمصر تقنع أنظمة وشعوب الخليج بضرورة تجاوز حقبة مبارك.
2- البعد النفسي: أتت الأزمة أيضا على خلفية تشبه "عقدة نفسية" شعبية على الجانب المصري تحديدا، تولدت بفعل سنوات تعرض فيها الرصيد الإيجابي لعلاقات البلدين لقدر من التآكل؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة وقائع لأطباء وعاملين مصريين اتهموا بقضايا مشابهة في المملكة، وحكم على بعضهم بالجلد مئات الجلدات، وعلى الرغم من أن أغلب المحكوم عليهم جرى الإفراج عنهم بقرارات ملكية وقبل إكمال العقوبة؛ إلا أن أحاسيس المصريين بالتفريط في كرامتهم لم تتبدد. وزاد الأمور سوءا، حين أقدمت وزيرة القوى العاملة السابقة عائشة عبد الهادي في 2007 على توقيع مذكرة تفاهم مع رئيس اللجنة الوطنية للاستقدام في المملكة تسمح باستقدام مصريات كعاملات منازل، وذلك لأول مرة بالنسبة للمصريين الذين يعملون في الخليج، وهو ما أثار ضجة في مصر. وكل ذلك ترك انطباعات شعبية سلبية.
وترافقت هذه الأزمات مع تفجر الثورة الإعلامية وأدوات التواصل الاجتماعي على الساحة المصرية، والتي ركزت على شكاوى ساخطة على أوضاع العمالة المصرية بالسعودية؛ حيث جرت نقاشات، بعضها موضوعي تعلق بوقائع مصرية محددة تعرضت للظلم، وبعضها غير موضوعي، اندفع لنقد أنظمة وقوانين العمل بالمملكة، والتي هي مطبقة على الأجانب مصريين وغير مصريين، مثل انتقاد نظام الكفيل، وطرحت بعض الفضائيات مشكلات المصريين مع كفلائهم وكأنها مشكلة تخص المصريين فقط، وحمل بعض المصريين عبء النضال ضد أوضاع العمالة بالخليج نيابة عن كل الجنسيات المقيمة هناك.
3- البعد السياسي: أتت القضية أيضا، على خلفية الثورة المصرية، وإحساس قطاع من المصريين بأن المملكة كانت تريد بقاء نظام مبارك، وتقف موقفا معارضا للإجراءات الراهنة ضده، أو أنها تقف موقفا مضادا للثورة، بالتراخي عن دعم مصر ماليا، أو تدعم السلفية ومرشحي رئاسة على صلة بالنظام السابق. وأتت في ظل رغبة المصريين بعد الثورة في الخروج على كل القواعد والأسس التي أرساها مبارك في الداخل والخارج أيضا، في ظل اقتناع بأن مصر الثورة ينبغي أن تكون مختلفة، وأن يتعامل الأشقاء معها وفق هذه الحقيقة، وفي ظل فاعل جديد في صنع القرار والسياسة في مصر هو الرأي العام، فإذا كانت هناك لافتات تطرح شعارات ضد المشير والمجلس العسكري في قلب الميدان، فإنه لا حرمة لملك أو رئيس عربي في مصر، وعلى الأشقاء عدم انتظار أن يورط صناع القرار القادمون أنفسهم في مواجهة مع الرأي العام لأنه أصبح أحد أسس الشرعية، وهو متغير جديد على السياسة المصرية.
على الجانب الآخر؛ تُجاهد المملكة من أجل فهم أدوات التعامل مع مصر الجديدة، إن لم يكن الإبقاء على القواعد السابقة التي تمثل "كنزها الاستراتيجي"، فعلى الأقل عدم السماح بأن يتأسس عرف جديد للتعريض بـ"الذات الملكية" أمام السفارة أو في الميدان وعلى الفضائيات، وهو أمر يصعب قبوله على الجانب السعودي، ليس لما لذلك من تأثير على صورة الملك في مصر، وإنما على الأوضاع هناك، وهي -بالمناسبة- ليست في أفضل أحوالها.
سيناريوهات الأزمة:
المؤكد أن الأزمة سوف يتم تجاوزها، فالعلاقات بين البلدين استراتيجية ولا تقبل القطيعة أو الانهيار، وكما كان لها أهمية في السابق، فإن الأوضاع الراهنة توفر أسسا جديدة لبقاء العلاقات عند المستوى ذاته، أخذا في الاعتبار أن هناك حقائق على الأرض لا مجال للعبث بها، تخص مليونا ونصف المليون مصري يعملون في السعودية، وما يقرب من نصف مليون سعودي في مصر، وعائدات عمالة مصرية، وحجم استثمارات سعودية، وتبادل تجاري بمليارات الدولارات، فضلا عن علاقات عاطفية ومصلحية بين شعبين يعتبران التواصل بينهما يوميا أمرا طبيعيا، وهي علاقات تجعل من اختيار أسرة شيخ الأزهر السابق الشيخ سيد طنطاوي رقاده الأخير في البقيع بالسعودية أمرا عاديا، وتجعل مفكرا سعوديا بحجم د. عائض القرني يلقي قصائد شعر مسكونة بحب أرض الكنانة .
ويمكن تصور ثلاثة احتمالات لمستقبل الأزمة الراهنة:
1- الاحتواء:وهو الاحتمال الأساسي، ليس فقط لأنه العرف الذي ساد في العلاقات المصرية السعودية، وإنما أيضا على خلفية إدراك الجانب السعودي لوضعية مصر الراهنة، وإدراكه حجمَ الضغوط على جهاز صنع القرار بعد الثورة، وأيضا إدراكه للرصيد السياسي والروحي للمملكة في مصر، خصوصا وأن المجلسَ الأعلى للقوات المسلحة، وقطاعا كبيرا من الأحزاب والقوى السياسية، فضلا عن مختلف المصريين العاملين في المملكة؛ قد استنكروا ذلك، وأدانوه، وحذروا من المساس بالسعودية تحديدا.
وبالتأكيد فإن أي صانع قرار سعودي ستكون عينه في مصر الجديدة على القطاع الأكبر من الرأي العام المصري، وإذا كان الرأي العام فاعلا رئيسيا في مصر الجديدة؛ فإن أي بلد يمكنه أن يحرز مكاسب مهمة على صعيد الرأي العام بمبادرات تقلص حجم الانتقادات له في الداخل.ولكن سيناريو الاحتواء لا يعني أن الأزمة ستمر من دون التأثر بها، والاستفادة منها على الجانبين، مما يعني أنها قد تكون أساسا لتحولات في الفهم تنعكس على تفسيرهما، وتعاملهما مع مواقف تالية.
2- الفتور المرحلي:لا يمنع من وجود اعتبارات مرحلية -على الأقل في الشهر الجاري الذي تُجرى فيه انتخابات الرئاسة في مصر- تبرر استمرار إدارة الأزمة بالشكل الراهن لفترة تظل فيها عند مستوى "الأزمة الباردة"، بهدف استشراف قواعد التصرف عند كل طرف، ليس ذلك فقط لحقيقة التعارض بين الرغبة المصرية في التغيير والخروج على قواعد وأسس حقبة مبارك، وعدم استيعاب ذلك على الجانب السعودي، وإنما أيضا أن هناك قوى ذات مصلحة تشكل "لوبيات" مستفيدة من الوضع الراهن، سياسية وإعلامية و"فلول".
وتدعم ذلك حقائق المشهدين المصري والسعودي، فعلى الجانب المصري، يدعو للتساؤل حدوث هذه الأزمة بعد أيام من إعلان رئيس الوزراء د. الجنزوري عن تمويل السعودية لمصر بـ2.7 مليار دولار، ويوفر مشهد الأزمة مع مصر في السعودية مجالا للالتفاف الوطني حول شأن خارجي، وهو ما يجب على صانع القرار المصري الحذر منه، والابتعاد عن تلك الدائرة.
3- تكرار الأزمات الصغرى:إن تكرار الأزمات الصغرى في العلاقات المصرية السعودية هو احتمال وراد، وخصوصا في ظل متغيرات داخلية لدى كل طرف تبرر ذلك. فعلى الجانب المصري ليس هناك من ضمان لعدم تكرار ذات المواقف أمام السفارة وفي الميدان، وعلى الفضائيات، وهي أمور لا يمكن لأي صانع قرار مقبل في مصر أن يقدم وعودا بالتصدي لها وإنهائها، كما لا يمكن لصانع القرار السعودي أن يقبل بها كمشهد مستمر، وعلى الجانب السعودي أيضا ليس هناك من ضمان بعدم تكرار مشكلات تخص العمالة وقضايا مماثلة. وتكرار الأزمات بالطبع هو خروج على النمط المعتاد، ولكن ربما يؤسس لنهج مؤسسي جديد في علاقات البلدين، ولقواعد جديدة تخرج بها عن النمط الذي اعتاد عبورها بـ"أحاديث الود" و"سحابات الصيف" و"مصافحات الزعماء".
ومهما كان الاحتمال، فمن المهم ألا يتعامل أي جانب مع الأزمة الراهنة بالتهوين منها، وإنما الانتباه إلى نوعية الخطأ الذي وقع فيه والاستفادة منه، وخلق جو من الرشادة السياسية والمجتمعية يحول دون إيجاد وقائع على الأرض تكرس من الرصيد السلبي للآخر في بلاده.