بعد أن تكشف ما عرف باسم "اقتصاد الفقاعة في اليابان" منذ العام 1993، بدأت بلاد الشمس المشرقة تعاني مشكلات حادة طوال العقدين الماضيين. لكن العام 2011 حمل إلى اليابان المزيد من التراجع الاقتصادي، الناجم عن ثلاثة عناصر أساسية:
الأول؛ الوضع الاقتصادي المستمر في الانحدار، مع نسبة نمو ضعيفة قياساً إلى الصين، وسلبية في بعض السنوات. فتراجعت اليابان عن المرتبة الثانية التي حافظت عليها لسنوات طويلة، إلى المرتبة الثالثة في الاقتصاد العالمي. وحلت الصين مكانها كقوة آسيوية اقتصادية عملاقة، تنافس على المرتبة الأولى عالمياً. وترسخت صدقية المقولة التي بشرت بها نخب اقتصادية عالمية منذ سنوات عدة، بأن القرن الحادي والعشرين سيكون آسيوياً بامتياز.
فهناك اليوم دولتان آسيويتان تحتلان المرتبتين الثانية والثالثة في الاقتصاد العالمي، وتساندهما دول آسيوية أخرى كالهند ودول النمور الآسيوية التي تلعب دوراً متزايداً كقوى اقتصادية عالمية صاعدة. في المقابل، تشهد دول أوروبية عدة أزمات حادة تصل إلى حد الإفلاس الشامل، كما في حالات اليونان، والبرتغال، وإسبانيا، ودول أوروبية أخرى.
الثاني؛ الزلزال الكبير الذي ضرب اليابان في 11 آذار (مارس) 2011، وما صاحبه من أمواج عاتية وتسرب للإشعاعات النووية. وقد ترك حالة من الذعر الاجتماعي على مستوى عموم اليابان والدول النووية الأخرى من جهة، وأزمة اقتصادية حادة بعد أن بلغت خسائر اليابان المباشرة والناجمة عن إعادة الإعمار، ثلاثمائة مليار دولار من جهة أخرى. وبرزت تساؤلات كبيرة حول قدرة الاقتصاد الياباني على تجاوز الأزمة الراهنة، في ظروف دولية شديدة التعقيد، بعد تفجر الأزمة العامة للرأسمالية في خريف 2008، والتي ما زالت نتائجها السلبية مستمرة بوتيرة متصاعدة حتى الآن.
ولعل أبرز تجلياتها: ارتفاع نسب البطالة، والفقر، والجوع، وغياب فرص العمل، وتراجع الخدمات الصحية والاجتماعية على المستوى الكوني. يكفي التذكير بأن نسبة البطالة بين خريجي الجامعات اليابانية، تجاوزت 9% العام 2011، وهو رقم قياسي لم تشهد اليابان مثيلاً له منذ الحرب العالمية الأولى، لكنه ما زال دون ما وصلت إليه دول أوروبية كإسبانيا، حيث بلغت نسبة البطالة في صفوف خريجي الجامعات قرابة الأربعين في المائة في العام نفسه.
الثالث؛ فساد الطبقة السياسية اليابانية وانقساماتها، وعجزها عن التضامن لإيجاد صيغة وطنية جامعة تنقذ اليابان من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. واللافت للنظر أن القوى السياسية المتناحرة في اليابان، تحاول استغلال تلك الأزمات لجني مكاسب سياسية شخصية، وتجاهل مصلحة اليابان العليا التي تتطلب الكثير من التضامن ونبذ الخلافات لإخراجها من المأزق الراهن.
نخلص إلى القول إن اليابان تعاني من أزمات حادة، ناجمة عن الفساد السياسي المزمن أولًا، والأزمة العالمية المستجدة ثانياً، والكارثة الطبيعية التي حلت بها عام 2011 ثالثاً. ومع أن الشعب الياباني أدمن الصمت حين كانت بلاده تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي حتى العام 2011، وواجه الزلزال الكبير بشجاعة قل نظيرها بين جميع شعوب العالم، إلا أنه بدأ يتململ من فساد الطبقة السياسية الحاكمة، الذي أدى إلى تراجع اليابان عن المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، دون أن تشعر تلك الطبقة بخطورة هذا التراجع على الدولة والمجتمع في اليابان. ولم تتخذ تدابير عملية فاعلة لمعالجة ارتفاع معدلات البطالة بين اليابانيين، وانتشار روح التشاؤم لدى أوساط واسعة من الشباب الياباني المحبط، والذي لم يعد يستطيع رسم ملامح مستقبل اليابان في السنوات العشر المقبلة. وذلك لأسباب عدة، لعل أبرزها:
أ- استمرار الانقسام السياسي الحاد وافتقار اليابان إلى القيادة السياسية القوية، والتراجع الاقتصادي المستمر بسبب الكلفة الاقتصادية العالية لإعادة إعمار ما هدمه الزلزال المدمر.
ب- المنافسة الحادة لليابان على المستوى الدولي، خاصة بعد صعود الصين إلى المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، على حساب تراجع اليابان اقتصادياً ومالياً وإنتاجياً.
ج- تراجع الثقة في برنامج اليابان النووي الذي جعلها سابقاً في طليعة الدول العالمية في مجال توليد الطاقة من المفاعلات النووية، فبدأ التفكير جدياً في التوقف عن إنتاج الطاقة من المفاعلات النووية، داخل اليابان وعلى المستوى الكوني، والبحث الجدي عن مصادر بديلة للطاقة المتجددة، مما يحمل اليابان أعباء إضافية في المرحلة الراهنة.
د- التهديد المستمر الذي تمارسه كوريا الديمقراطية (الشمالية) لأمن اليابان، والذي ألزمها أخيراً بنشر درع صاروخية لحماية أراضيها من الصواريخ الكورية. فرتب على الاقتصاد الياباني أعباء مالية كبيرة. وهناك مؤشرات جدية تؤكد وجود نزوع متزايد لدى القيادة السياسية اليابانية للدخول في مجال التسلح وتجارة الأسلحة، تحت ستار حماية أرضها وشعبها من مخاطر التهديد النووي لكوريا الديمقراطية.
بقي أن نشير إلى أن استمرار سياسة التوظيف الدائم حتى سن التعاقد، وميل الشركات إلى عدم توظيف الشباب الذين لم يمتلكوا خبرة كافية، وغياب المؤسسات الحاضنة للأعداد المتزايدة من الشباب في سوق العمل، باتت تهدد بأزمة حادة في صفوف الشباب.
وذلك نظراً لغياب ذهنية الهجرة لدى اليابانيين بحثاً عن عمل في الخارج، والكلفة المتزايدة للصحة والتعليم وإعالة المسنين، وتراجع حجم الطبقة الوسطى في اليابان، والأعباء الكبيرة الملقاة على جيل الشباب الذي يطالب بحوار بناء بين ذهنية الجيل القديم المشبعة بتقاليد وطقوس اليابان بصفتها إمبراطورية الشعائر المقدسة، وذهنية الجيل الجديد الذي يبحث عن حلول عقلانية وعملية لمشكلات العلم والعمل والزواج وإنجاب الأولاد، ومعالجة سلبيات المجتمع الياباني الهرم.
ختاماً، إن انعدام ثقة اليابانيين بالقوى السياسية المسيطرة بعد أن باتت تعد ولا تفي بوعودها، تؤسس لولادة قوى سياسية شابة تبحث عن تجديد النظام السياسي الياباني، بحيث ينال ثقة الشباب بالدرجة الأولى. فقد تحولت القوى الشبابية على المستوى الكوني إلى طاقة فاعلة في الإصلاح السياسي، والتغيير الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية، علماً أن السياسة التقليدية المعتمدة حتى الآن في اليابان، لم تحل مشكلة المسنين ودور الرعاية الاجتماعية والصحية.
وقد ازدادت تفاقماً بعد وصول الحزب الديمقراطي الياباني إلى السلطة عام 2009، حاملاً شعارات العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والإصلاح السياسي والإداري، ومحاربة الفساد. لكن تلك الشعارات لم تنفذ لأسباب ذاتية وموضوعية، فتراجعت فرص العمل أمام الشباب، وباتت أكثر حدة في صفوف الفتيات والنساء. وتراجع سن الزواج، وكثرت حالات الطلاق، وتعمقت مشكلات المجتمع الياباني الهرم، وتعثر الحوار بين الجيل القديم والجيل الجديد. ويتوقع اليابانيون بروز حركات احتجاج كبيرة في أوساط الشباب، تؤسس لربيع ياباني قادم.
----------------
* نقلا عن آراء وأفكار، الأربعاء 11/4/2012.