أصبح لتيار "الإخوان المسلمين" حزب سياسي في ليبيا (العدالة والبناء) بعد 63 عاماً على أول ظهور علني له هناك عام 1949. فكانت ليبيا ضمن الموجة الأولى لانتشار هذا التيار في العالم العربي انطلاقاً من موطنه الأصلي في مصر. غير أنه لم يُعرف عن "الإخوان" الليبيين أنهم أسسوا جماعة لهم إلا في منتصف الستينيات. وتعاونت هذه الجماعة مع القذافي عقب انقلابه العسكري "ثورة الفاتح من سبتمبر" 1969، وشارك بعض أعضائها في سلطته كأفراد قبل أن يصطدم الطرفان عام 1973 وتصبح العلاقة بينهما صراعية. وقد أُعيد بناء هذه الجماعة مرتين على الأقل بعد ضربات قاصمة، لكنها ظلت مطاردة حتى إسقاط نظام القذافي الذي التحقت بالاحتجاجات ضده بعد اندلاعها.
وفى أول مؤتمر لها بعد تحرير ليبيا من هذا النظام، والذي عُقد في بنغازي في نوفمبر الماضي، قررت جماعة "الإخوان" تأسيس حزب سياسي لتكون هذه هي الحالة الثالثة على الصعيد العربي بعد الأردن (حزب جبهة العمل الإسلامي) ومصر (حزب الحرية والعدالة).
ورغم إعلان الحزب استقلاله عن الجماعة، فليس هناك ما يشير إلى إمكان اختلاف تجربة "الإخوان" الليبيين في هذا المجال عن نظرائهم الأردنيين والمصريين. فقد أكد مؤتمر "إخوان" ليبيا في نوفمبر الماضي أن حزبهم سيكون مستقلاً في إدارته وقيادته وسياسته. لكن ما أن أُعلن تأسيس هذا الحزب في الثاني من مارس الماضي حتى تبين أنه ليس سوى ذراعاً سياسية للجماعة، كما هي الحال في مصر والأردن. وتم انتخاب رئيس مجلس شورى جماعة "الإخوان" الليبية محمد صوان رئيساً لـ"حزب العدالة والبناء".
وضم هذا الحزب إسلاميين مستقلين بمنأى عن حركات الإسلام السياسي الأخري. ولذلك تبدو العلاقة مع هذه الحركات هي المعضلة الكبرى الأولى التي ستواجه "الإخوان" وحزبهم. وهي معضلة أيضاً لهذه الحركات، حيث صار مرجحاً أن يشتد الصراع بين الإسلاميين الليبيين، سواء من يعبرون عن أوجه مختلفة للإسلام السياسي أو غيرهم وفي مقدمتهم الجمعيات الصوفية.
ولا يزال صعباً تقدير الأوزان النسبية للتيارات الإسلامية المختلفة في ليبيا، أو التأكد من سلامة التقدير الذي يذهب إلى أن الجمعيات الصوفية هي الأكثر تغلغلاً في المجتمع حتى اليوم.
وفي كل الأحوال، بات واضحاً أن ليبيا ستشهد صراعاً بين قوى الإسلام السياسي التي تبحث عن مواقع لها والجمعيات الصوفية ذات الجذور العميقة في المجتمع. وربما يكون الصراع أشد بين حركات الإسلام السياسي نفسها، بعد أن رفض "الإخوان" التحالف مع هذه الحركات في حزب واحد على أساس مؤسسي وفقاً لرواية عبد الحكيم بلحاج أحد أبرز زعماء "الجماعة الإسلامية من أجل التغيير" التي نبذت العنف وأجرت مراجعات فكرية جذرية نشرتها عام 2010 في دراسة حملت عنوان "دراسة تصحيحية في فهم الجهاد والحسبة والحكم على الناس"، وأسقطت كلمة "المقاتلة" من اسمها وأحلت محلها من "أجل التغيير". فقد أصر "الإخوان"، وفق رواية بلحاج وقادة جماعات إسلامية سعت إلى التعاون معهم، على أن ينضم أعضاء هذه الجماعات إلى حزبهم الجديد (العدالة والبناء) أفراداً بعد حل تنظيماتهم. ولم يسمحوا إلا لإسلاميين مستقلين بالانضمام إليه.
لذلك ستكون العلاقة بين جماعات وحركات عدة، إسلامية وصوفية، هي المعضلة الأولى أمام الإسلاميين الذين سيواجهون منافسة قوية من أحزاب وقوى ليبرالية أو يسارية أو مدنية على وجه العموم. فقد لا يكون لهذه التيارات الأخرى وجود قوي في الأمد القصير، لكن بعضها بدأ في بناء نفسه على نحو ينبئ بأنه لن يمضي وقت طويل قبل أن تشهد الساحة السياسية الليبية الآخذة في التشكل الآن تعدداً وتنوعاً في الاتجاهات رغم حدة التجريف السياسي والثقافي الذي لم يحدث مثله في أي بلد عربي خلال العقود الأربعة الأخيرة.
وقد بدأت تحركات لإطلاق أحزاب تعبر عن تيارات مختلفة بالتزامن مع تأسيس حزب "الإخوان"، مثل "حزب التيار الوطني الوسطي" الذي يقوده وزير النفط والمال السابق علي الترهوني ويدعمه رئيس الوزراء السابق محمود جبريل، و"حزب القمة" الذي أسسته مجموعة من الثوار بقيادة عبد الله ناكر رئيس "اتحاد كتائب الثوار"، وغيرهما.
ويواجه حزب "الإخوان" وجماعتهم، والإسلاميون في ليبيا عموماً، معضلة لا تقل أهمية إن لم تزد بسبب افتقادهم مشروعاً أو رؤية واضحة ومحددة لمستقبل ليبيا. فقد فاجأهم التغيير بعد أن وجدوا أنفسهم طلقاء بلا قيد ولا ملاحقة، ولكن بلا مشروع أيضاً.
وظهر هذا واضحاً في "أزمة الفيدرالية" التي كان ممكناً توقعها لأنها نتجت عن تراكمات معروفة. لكنها فاجأت "الإخوان" الليبيين بينما كانوا قد فرغوا لتوهم من تأسيس حزبهم، حيث انفجرت بعد ثلاثة أيام على إعلانه عندما قرر زعماء قبليون في الشرق أن تكون ليبيا دولة فيدرالية واعتبروا برقة إقليماً يتمتع بحكم ذاتي دون حوار أو توافق مع غيرهم.
وكان هذا الإعلان صادماً لـ "المجلس الوطني الانتقالي" الذي رد عليه بالتهديد والوعيد على نحو حمل في طياته خطر صدام داخلي في غياب حوار سياسي وفي ظل افتقاد مختلف الأطراف النضج اللازم للتعامل مع مثل هذه الأزمات. ولم يختلف "الإخوان"، جماعة وحزباً، والإسلاميون عموماً، عن غيرهم في هذا كله. فقد سايروا النغمة السائدة في الدوائر الإعلامية والسياسية التي تعتبر الفيدرالية انفصالاً، وأصدر "العدالة والبناء" بياناً حمل فيه على النظام الفيدرالي وقال إن "تطبيقه يمكن أن يكون خطوة في اتجاه التمزيق الكامل للتراب الليبي كما حدث في السودان".
وقد أخطأ هذا البيان ثلاث مرات: الأولى عندما خلط بين الفيدرالية التي تعني حكماً ذاتياً وبين الانفصال، والثانية حين ضرب مثلاً بالسودان الذي لا تستقيم المقارنة معه، فضلاً عن أن هذه الذهنية الأحادية (الأبيض والأسود) كانت هي أهم أسباب تقسيمه. أما الخطأ الثالث فهو في إغفال أن النظام الفيدرالي ليس جديداً على ليبيا التي أخذت به في دستور 1951 وحتى عام 1963، حين كانت هناك ثلاثة أقاليم هي برقة وطرابلس وفزان.
وهكذا ظهر أن "الإخوان" وحزبهم في ليبيا ليسوا مستعدين بعد لملء شيء من الفراغ الذي لا يستطيع التحرك فيه بفاعلية إلا من يمتلكون مشروعاً ويستطيعون العمل لمد الجسور وبناء التوافق الوطني ووضع خطط عمل واقعية للحد من الفوضى التي تسود البلاد. فأشد ما تحتاجه ليبيا الآن هو مشروع لبناء دولتها الجديدة وخطط لوضع الأساس اللازم لذلك.
----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس 29/3/2012.