هل ما زال خيار السلام قائما؟ وهل هناك من فرصة للوصول إلى اتفاق تسوية سياسية في ظل المعطيات والتحولات السياسية التي تشهدها ليس فقط المنطقة العربية ، بل تشهدها إسرائيل والتحول الواضح في تركيبتها السياسية؟ والسؤال بشكل محدد: كيف تفكر إسرائيل وما هي خياراتها في زمن التحولات العربية؟ وهل هي ذاهبة إلى خيارات الحرب أم خيارات السلام والتهدئة ؟ والتعايش مع الواقع السياسي الجديد لموازين القوى التي لم تعد كما كانت قبل ذلك؟
فبعد مرور أكثر من ستين عاما على قيام إسرائيل ما زال الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني خصوصا قائما ، وتتسع مع عدم حله دائرة العنف والصدام الدموي ، وتتنامى معه الإتجاهات المتشددة، وثقافة الرفض والعنف والكراهية وعدم القبول ، وكل هذا يؤكد أن القوة العسكرية لم تعد هي الخيار الذي يمكن أن يحسم هذا الصراع بعد فشل هذا الخيار عبر أكثر من حرب منذ نشوء الصراع العربي الإسرائيلي بقيام إسرائيل كدولة وعدم قدرة الفلسطينيين على اقامة دولتهم بسبب استمرار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ، واستمرار سياسة الإستيطان التي تبتلع ما تبقى من أي فرصة لحل الدولتين، وعلى الرغم من هذه القناعة المتزايدة على مستوى الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي ، إلا أن خيار السلام يبقى بعيدا ويفتقر إلى القيادات السياسية القادرة على صنع السلام .
وكان من المفترض ان تكون إسرائيل هي اكثر من تحتاج إلى البحث عن خيار السلام، لما قد يوفره لها من أسس بقاء وأمن أكثر ديمومة من الخيار العسكري .وإذا كان خيار السلام مستبعدا من وجهة نظر إسرائيل، فما هي الخيارات المتاحة أمامها؟
ويبدو من قراءة السياسة الإسرائيلية وتطورها أنها أمام مجموعة من الخيارات . وقبل البحث في آبعاد هذه الخيارات لا بد من إبداء عدد من الملاحظات : وأول هذه الملاحظات ومن خلال قراءة الخطاب السياسي الإسرائيلي والإستشهاد بكل التطورات السياسية منذ قيامها فان إسرائيل تعرف ماذا تريد، وأن خياراتها محكومة بالإطار الايديولوجي الذي تحدده الصهيونية أي إسرائيل الكبرى وإسرائيل الدولة للشعب اليهودي ، وثانيا شعور إسرائيل أنها توجد في إقليم جغرافي وحضاري مناقض لها يجعلها تعطي الأولوية لخيار القوة العسكرية ، والذي يعني الحرص على بقاء موازين القوى بينها وبين دول المنطقة والدول الإقليمية المجاورة تعمل لصالحها ، وبمعنى آخر إن أي تغيير في هذه الموازين تعتبره إسرائيل بمثابة تهديد مباشر لبقائها ووجودها. وثالث هذه الملاحظات سيطرة عقدة الجيتو على الفكر السياسي الإسرائيلي ، فإسرائيل وبحكم إدراكها أن اليهود وهم قلة سكانية ترى أن أي اندماج في المنطقة تحت سياق السلام قد يهدد هذا الوجود ، ويهدد «النقاء اليهودي» .
والملاحظة الرابعة الربط بين الخيارات الإقليمية والتحولات السياسية والعسكرية على هذا المستوى، والخيارات على مستوى العلاقات مع الفلسطينيين، وهنا يبرز دور المحدد السكاني الفلسطيني الذي بات عنصرا ثابتا ولا يمكن تغييره . والملاحظة الخامسة الربط بين بقاء إسرائيل وتحالفاتها الدولية أكثر من الإرتباط بالتحولات الإقليمية حتى لو كان خيار السلام ، وأخيرا اعتماد إسرائيل على عنصر التفوق في القوة بمعناها الشاملة؟ وبعد هذه الملاحظات ما هي انعكاسات التحولات العربية على الخيارات الإسرائيلية إقليميا وفلسطينيا؟ ولعل التأثير الأول لهذه التحولات أن البيئة السياسية العربية لم تعد قائمة بسقوط أنظمة الحكم السابقة وبروز قوة الإسلاميين، ولذلك أول تأثير استحضار نظرية التهديدات الإستباقية ونظرية الفعل على أساسها، فإسرائيل هنا تأخذ في الإعتبار إن هذه التحولات تشكل تهديدا مسبقا لأمنها. وبالتالي تقوم إسرائيل بمراجعة كاملة لكل استراتيجيتها السابقة لأن الوضع مع الإسلاميين سيختلف ، لكن مدى التهديدات حتى يتضح قد يحتاج إلى بعض الوقت ، التأثير الثاني التحول في دور الرأي العام العربي، ودور المواطن ، واستعادة القضية الفلسطينية بعضا من أهميتها المحورية لدى المواطن العربي، وهذا التأثير يعني إن أنظمة الحكم الحالية لن تتجاهل تأثيرها ، وترى إسرائيل أن التوجهات العامة لهذا التحول عدائية، وتتسم بعدم القبول، ولدعم خيارات المقاومة والتشدد، والتأثير الرابع فوز الإسلاميين بالإنتخابات التشريعية وخصوصا في مصر التي تربطها معاهدة سلام مع إسرائيل، وأن هذا الفوز قد يدفع إلى البحث عن صيغ للتعامل والحوار ، وهنا يأتي دور حركة «حماس» والتي قد أصبحت فاعلا فلسطينيا وإقليميا.
ومن التأثيرات التي قد تفرض نفسها على خيارات إسرائيل تراجع هامش المناورة على الرد على أي عملية عسكرية أو هجوم او حتى صواريخ قد تتعرض لها ، وأخيرا تراجع النفوذ الغربي والاميركي في المنطقة ، وهو ما قد يدفع نحو زيادة إعتماد إسرائيل على قدراتها العسكرية الذاتية وتستبق اي تهديد قد ترى انه يعرضها للخطر.
في ضوء هذه التأثيرات والتحولات قد يبرز أكثر من خيار امام إسرائيل على المستوى الإقليمي حيث يبرز خيار الحرب الإستباقية لضرب قدرات إيران النووية لتعيد اسرائيل قدرا من التوازن للقوى الذي يضمن لها التصرف بحرية أكبر لعدد من السنوات . وعلى نفس المستوى وخصوصا العلاقات مع مصر يبرز خيار دعم المناطق الحدودية بأحزمة أمنية حتى تحول دون التغلغل إلى داخلها ، والتأكيد هنا أن دور المؤسسة العسكرية يلعب دور الموازن لفوز الإسلاميين، والأخذ في الإعتبار حجم المشاكل التي تواجه الإسلاميين، ولذلك قد يكون من صالح إسرائيل بقاء الوضع في مصر في حالة من الفوضى الشاملة التي قد تدفع في النهاية لسقوط حكم الإسلاميين وتقوية حكم العسكر.
وأما على مستوى علاقاتها مع الاردن فقد ترى إسرائيل أن هناك مصلحة في بقاء النظام الأردني ، مع التلويح دائما بخيار الوطن البديل المرفوض فلسطينيا واردنيا ، والحفاظ على معاهدة السلام مع الأردن ، مع الأخذ في الإعتبار أن الأردن قد يتعرض لنفس التحولات العربية ، وهنا تتمسك إسرائيل بالإعتبارات الأمنية والفصل بين غور الأردن والضفة الشرقية . وعلى المستوى الفلسطيني قد تبرز خيارات كثيرة منها خيار استمرار الإحتلال ، وخيار فرض الدولة او السلطة الفلسطينية في إطار الجدار الذي أقامته على الاراضي الفلسطينية ليكون بمثابة حدود سياسية ، وخيار حل الدولتين لكن في إطار المفاهيم الأمنية الإسرائيلية ، وخيار بقاء حالة الإنقسام السياسي بين الضفة وغزة ، مع تفعيل خيار التهدئة مع حركة حماس لفترة زمنية طويلة مقابل رفع الحصار الإقتصادي، وبالتالي خيار التهدئة مع غزة ، وخيار سلطة ضعيفة في الضفة مع توسيع الخيار الأردني . وتبقى أمام إسرائيل الخيارات الخاصة بالفلسطينيين الذين يعيشون في داخلها ويحملون المواطنة الإسرائيلية ، وهنا تبرز خيارات التكامل، وخيارات التقليص السكاني في عملية تبادل سكاني كما هو الحال في تبادل الاراضي .
كل هذه الخيارات يحكمها اسرائيليا عنصران أساسيان الأول الحفاظ على العنصر اليهودي ، والحفاظ على الأرض، وكلا العنصرين قد يكشفان كيف أن خيار السلام ما زال بعيدا في ظل هذه التحولات لأن نموذج السلام الذي قد ساد منذ اوسلو لم يعد قائما مع سقوط نظام الحكم في مصر الذي شكل عمقا للسلطة الفلسطينية والرئيس عباس لهذا قد تبرز مواقف أكثر تشددا، وحتى القيادات العربية الجديدة لن يكون لديها نفس الإستعداد لتبني المبادرة العربية والدخول في علاقات عادية مع إسرائيل، ومع ذلك هل تدرك إسرائيل أنه إذا لم يتحقق خيار السلام فلن يتحقق في المنظور القريب ولا حتى البعيد ، وقد تدخل إسرائيل ومعها دول المنطقة في دوامة جديدة من العنف والمواجهة المسلحة، وهذه المرة ستكون مدمرة وكارثية على المستقبل السياسي لكل دول المنطقة وفي مقدمتها إسرائيل.
-----------------
* نقلا عن القدس الخميس 29/3/2012.