يأتي انعقاد القمة العربية في بغداد في 29 آذار الحالي والمجتمع العربي يعيش معاناة شديدة الوطأة؛ نظراً إلى الأخطار التي تواجه الأمة العربية وأهمها تعقيدات الأزمة السورية والخلافات والصراعات المذهبية وبالأخص الإيديولوجيا الدينية (الإسلام السياسي)، وكذلك الحروب التي تعطل التعاون والتقدم والتنمية، وواقع أصعب يزداد امتداداً عبر مساحة زمنية تزيد على قرنين من الزمان .
فما زال الغرب يثير مزيداً من الدخان، والشرق يتآكل واسرائيل تتمدد باعتبارها وعداً إلهياً بإنشاء دولة يهودية بأيدي المستوطنين الاسرائيليين باعتبارهم دون غيرهم نسل إبراهيم، عليه السلام . وما زال حلمهم قائماً بقيام دولتهم على أنقاض شعب ما زال يقاوم حتى الرمق الأخير، الأمر الذي يستوجب من قادة الأمة العربية توحيد الصف، ورأب الصدع بإزالة كل أسباب الخلاف وإن بقي الاختلاف قائماً كسنة إلهية التي تقف حائلاً دون وحدة الكلمة، وصلابة الموقف، واستقلالية القرار .
وقد يكون من المنطقي أن نتساءل كأبناء لهذه الأمة إلى متى ستبقى الأمة العربية على هذه الصورة؟ تعيش أقطارها خلافات بينية لا تلبث أن تطفو على السطح صراعات دفينة تعمد إلى استنزاف طاقاتنا المادية والمعنوية فيما لا طائل من ورائه .
فالدول العربية ومنذ نشأة فكرة الدولة القطرية، وهي تعيش خلافات بينية، إذ يندر أن نرى بلداً عربياً تصفو علاقاته مع جواره العربيّ، وكأن قدر هذه الشعوب العربية أن تعيش في واقعٍ متخمٍ بالخلافات، وهو واقع محزن ومحبط إلى حد الاعياء..
فمسيرة القومية العربية التنموية والفكرية ما زالت تتخبط في خطاها، رغم مرور عشرات السنين عبر تراكمات متناثرة ومتباعدة في سياق الأحداث تارة بالتقدم والتطور وأخرى بالتراجع والانتكاس .
فعندما يمارس البعض وهماً طواه الزمن قد انقضى نتاج ظرف سياسي أو اجتماعي ساد في زمن تاريخي سابق، وتكالبت على امتداده قوى الفناء الكامنة في الزمن، وكأن القومية العربية لا تاريخ لها أو كأنها أركيلوجيا والأركيلوجي هو ذلك الشخص الذي يبحث عن آثار حضارة منقرضة ويلملم أجزاءها المتبعثرة؛ لكي يعيد تركيبها من جديد . أو يدرس أسلوباً جديداً معيناً كان الناس قد بلوروه في مرحلة ما أي: تجاوزها التاريخ .
وهذه هي طبيعة الأشياء فعندما تترسخ المشاريع القومية وتنجح، ويمر عليها زمن طويل تصبح وكأنها فوق الزمن، وهذا أمر محزن إلى حد التفتت . ومن يريدون أن يعيدوا الحياة والفكر إلى أزمنة سديمية، ومنعطفات غرائبية الولاء والشعور افترضت الفنائية، ما يدعو إلى الاستغراب أن يكون منشأ هذه الخلافات حدوداً رسمها الاستعمار في الزمن الغابر، عندما كان يبسط سيطرته على معظم الدول العربية .
ويبدو أن غياب التنسيق بين الدول العربية أسهم إلى حدٍ بعيد في اضمحلال المشروع القومي العربي . ولا شك أن مصالح الدول العربية هي مصالح مشتركة شاءت هذه الدول أم أبت؛ فالقومية العربية استطاعت أن تجذر فعلها السياسي، وقيمها الوطنية العربية في خطاب تلك المرحلة، عن طريق جعلها ملاذاً للأماني العربية لتلك الوجوه الشابة التي ما فتئت تفتش عن معادل موضوعي لتلك النهضة العربية .
ولا خلاف أن التاريخ السياسي العربي ينطوي على نهوض قومي سياسي؛ فالوحدة العربية لم تكن فقط الرفيق المواكب دائماً للقومية العربية؛ بل كانت أيضاً محورها وعنوانها، ولا عجب في ذلك فمشكلات العالم العربي متداخلة ومتشابكة، ولا يمكن حلها إلا بالعمل الجماعي والتعاون العربي ضمن إطار وحدوي يتكامل مرحلياً.
ولا جدال أن الحركة القومية العربية منذ انبعاثها في النصف الأول من القرن التاسع عشر تعكس طبيعة الأمة العربية وسلوكياتها ومشاعرها، وأسس حياتها الاجتماعية السياسية والثقافية المستندة إلى الإسلام ديناً ونظاماً؛ ولذلك فإن ما يميز القومية العربية ذات الجوهر الإسلامي هو أصالتها الإنسانية التي تعبر طريقها بثمار الروح والفكر من هنا وهناك إلى الخير المطلق لكافة الشعوب المؤمنة بحب أوطانها التي لا تتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة، ولكن تقوى على المضي في وجه المحن، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر .
ومع ذلك وبنظرة خاطفة من الخليج إلى المحيط، نستطيع أن نرى الواقع المتجانس للدول العربية، ومع ذلك لم يستطع بلد عربي أن يحقق التنمية الكاملة حتى الآن، رغم توافر الإمكانات المادية والبشرية في بعض البلدان العربية . ولم تزل المؤسسات القومية ك”جامعة الدول العربية” خاضعة لموازين دقيقة تفرضها السياسات العربية، ما يجعلها عاجزة عن القيام بدورها العتيد في المساهمة في رأب الصدع، وسدّ الهوة التي تستفحل بين الدول العربية، ومن ثم قيادة الأمة العربية إلى الوحدة التي ينشدها كل عربي حرّ .
وربما يعود سبب عجز “جامعة الدول العربية” إلى أنها لا تمثل قطب الرحى في النظام الإقليمي العربي، وربما لو توافرت لها الإمكانات المطلوبة لاستطاعت أن تحقق الهدف المُرتجى من وجودها، ويجب ألاّ يغرب عن البال أن الواقع العالمي الجديد يفرض على الدول العربية أن تتكامل في ما بينها؛ لأن ثمة مشاريع تستهدف النظام القومي العربي من أساسه كمشروع السوق الشرق أوسطية الذي يروّج له الجانب الاسرائيلي وحلفاؤه في الغرب، وإذا ما قام هذا المشروع فإنه يعني نسف الهوية العربية ودخول التاريخ من بوابة العولمة على الطريقة الإسرائيلية.
إن الخلافات العربية التي تنشب بين فترة وأخرى؛ لأسباب داخلية وإقليمية ودولية، تطرح من جديد ضرورة تثبيت قواعد جديدة تنظم العلاقات البينية للدول العربية، لأن غياب هذه القواعد الحاكمة لهذه العلاقات، يدفع بأي خلاف عربي مهما كان بسيطاً إلى مغنمٍ يتصيده أعداء الأمة الذين يسعون إلى تحجيمها، وإلغاء دورها الحضاري بين الأمم الأخرى .
وما من شك في أن هذه الخلافات العربية العربية كان لها الدور الأكبر في استنزاف القدرة الاقتصادية للعالم العربي، وإهدار طاقاتنا المختلفة؛ الأمر الذي أدى إلى اضمحلال المشروع العربي في وجه المشروع الاسرائيلي الغربي الذي أصبح يتعملق، ساعياً إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة .
إن التطورات الدولية والإقليمية المتسارعة تفرض على البلدان العربية الوصول إلى تسويات داخلية لمشكلاتها؛ من أجل تعميق الإجماع الوطني والقومي، لأنه السبيل الوحيد إلى تعزيز مكانة العرب ومَنَعَتهم في وجه الأخطار الداهمة.
-------------------
* نقلا عن القدس الإثنين، 26/3/2012.