يبدو من الصعب متابعة اللهاث وراء تصريحات قادة حركة "حماس" التي تتأرجح ما بين الإعلان والنفي، والتوضيح، والاستدراك، لتبيّن حقيقة موقف الحركة القاطع والمانع من السلطات السورية، ومعرفة إن كان الطلاق بين الجانبين أصبح بائناً، أم مازال ثمة إمكانية لوصل ما انقطع من الصلات التي دفعت العديد من المثقفين المتفائلين إلى الإعلان والتصريح والتنظير بأن سليلة "الإخوان المسلمين" في فلسطين تقدّم، عبر علاقتها المميزة السابقة بسوريا، نموذجاً عملياً على إمكانية الوحدة بين الإسلام السياسي والعروبة، ذلك أن عملية مغادرة "حماس" مربع التحالف مع دمشق لم تترجم فقط عبر التصريحات النارية التي جرت على ألسنة العديد من قادة الحركة ضد النظام في سوريا، بمن فيهم إسماعيل هنية وصلاح البردوبل وغيرهما، وإنما كذلك، ووفق مصادر "حماس"، من خلال إغلاق المكاتب التي تملكها الحركة داخل دمشق، وإلغاء كل العقود الخاصة بالمكاتب المستأجرة، وإقرار إقامة رئيس الحركة خالد مشعل والقياديين عزت الرشق وسامي خاطر في العاصمة القطرية الدوحة، وإقامة نائب رئيس المكتب السياسي موسى أبو مرزوق في العاصمة المصرية القاهرة، والقياديين محمد نزال ومحمد نصر في العاصمة الأردنية عمان شرط عدم القيام بأية نشاطات .
ومع أن ثمة تبايناً جلياً في المواقف حيال حقيقة ومشروعية العناوين التي طرحتها "حماس" لفصل عرى ما كان يعدّه البعض "زواجاً كاثوليكياً" مع النظام السياسي في سوريا، سواء ما تعلق منها بالجانب "المبدئي"، من نمط الوقوف إلى جانب "الشعب الساعي إلى الحرية والديمقراطية"، كما جاء على لسان القيادي محمود الزهار، أو "الأخلاقي"، على غرار القول إن الحركة الإسلامية "لا يمكنها العمل في سوريا وهي تشاهد حمّام الدم، وتشعر بغزارة الدماء التي تسيل، ولا تستطيع فعل شيء"، وفق ما نقل عن القيادي صلاح البردويل، إلا أن هناك شبه اتفاق على أن "حماس" التي قررت العودة إلى جذورها الأيديولوجية والتنظيمية، والانضواء تحت راية التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذين تحتل فروعهم المحلية صدارة المشهد السياسي في العديد من الدول العربية، وضعت نفسها أمام رزمة من التحديات المفتوحة على احتمالات شتى، يرى البعض أن أبرزها يكمن في التوجه الجاد نحو وضع الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام فوق كل اعتبار بعد "تحرر" الحركة من الخضوع لاعتبارات الإقامة ومراعاة السياسة السورية، فيما يرى بعض آخر أن الاحتمال الأكثر واقعية هو اضطرار الحركة التي وزعت قياداتها الأساسية بين عواصم العرب، إلى تدوير زوايا برامجها وشعاراتها المتعلقة بالمقاومة المسلحة بما يتناسب وأجندات تلك العواصم وتحالفاتها العربية والدولية .
في موازاة ذلك، ثمة فيض من الأسئلة والقضايا الإشكالية التي باتت تفرض نفسها على "حماس" التي تراوح تصريحات قادتها ما بين التأكيد أنها ليست طرفاً في أي محور عربي أو إقليمي، وفق ما جاء على لسان القيادي محمود الزهار، وبين الجزم بأن "تحرير فلسطين لن يتم إلا من خلال مصر"، لعل أهمها كيفية ردم الهوة المتعلقة بأولويات الثورات والانتفاضات العربية التي حملت "الإخوان المسلمين" إلى صدارة المشهد، سواء ما تعلق منها بالديمقراطية وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية، والتخلص من إرث الأنظمة السابقة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قبل أن تبرز إلى السطح مسألة المطالبة باعتماد الشريعة الإسلامية في الأنظمة السياسية الوليدة، وبأولويات الفلسطينيين المتمحورة على إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي والمجتمعي الداخلي بأفق ديمقراطي، والتصدي لعمليات التهويد والاستيطان، ودحر الاحتلال، واستعادة ما أمكن من الحقوق الوطنية المشروعة . أي، بكلام آخر، كيف يمكن ل "حماس" التي لم تعد تخفي مراهنتها على أشقائها من فروع "الإخوان المسلمين" للوصول إلى أهدافها الفئوية والوطنية، المواءمة بين هذه الأولويات في ظل ترجيح عدم المس باتفاقيات "كامب ديفيد" من قبل أية حكومة مقبلة في مصر؟
وعلى الموجة نفسها يتواصل ترداد الأسئلة التي ترشح من ثنايا الإشكالية المركزية المتصلة بمحورية القضية الفلسطينية، وهل مازالت تشكل مركز الاستقطاب للعرب وثوراتهم وانتفاضاتهم: أية بدائل لسوريا في توفير المناخ السياسي والأمني لقادة "حماس" وكوادرها التي يلاحق جهاز الموساد الإسرائيلي العديد منهم؟ ثم ماذا عن مسألة تسليح المقاومين الفلسطينيين في قطاع غزة التي يعلم الجميع دور سوريا وإيران، وربما "حزب الله"، فيها؟ أم أن الحركة الإسلامية قررت الإقلاع عن المقاومة المسلحة، واعتماد "المقاومة الشعبية" وفقاً لما جاء في "اتفاق الدوحة" الذي أظهر اعتدالاً غير مسبوق من قبل "حماس"؟ وأخيراً، لماذا لم تقم قيادة الحركة بالعودة إلى أرض فلسطين، وتحديداً إلى قطاع غزة، وهي المنطقة الفلسطينية الوحيدة التي تعدّها "حماس" محررة وتتمتع باستقلالية القرار؟
ولأن التجربة التاريخية للفلسطينيين تفيد أن قضيتهم ما كان لها أن تضيع في يم المحاور العربية والدولية، لولا تسليم مفاتيحها في العام ،1948 وبعد النكبة، إلى القادة العرب الذين استخدموها في تلميع صورهم، واكتساب مشروعية شعبية وقومية لأنظمتهم، فإن ثمة ضرورة إلى التحذير من عدم المجازفة في "تجريب المجرب"، وإعادة إنتاج ذات الأخطاء التاريخية، ولو كان ذلك من باب الإخوان المسلمين الذين يرجح أن تكون تجربتهم في الحكم، ولا سيما في المرحلة الانتقالية التي ربما تمتد إلى أمد يصعب تحديده، متخمة بالصعاب والعقبات والإشكاليات والعقد التي من شأنها، في حال حسنت النوايا والظنون، إحالة القضية الفلسطينية مرة أخرى، ومن جديد، إلى ذيل الاهتمامات الجديرة بالنظر في خريطة المشروع الإسلامي الكبير .
----------------
* نقلا عن دار الخليج الإثنين12/2/2012.