منذ اليوم الأول للإعلان عن المجلس الوطني السوري في اسطنبول كان السؤال الأكبر والذي أعيا الجميع هو عن الآليات، أي ما هي آليات المجلس الوطني في مساعدة الثورة السورية وتمثيلها سياسيا خير تمثيل؟ هذا السؤال حصل على عدد غير محدود من الأجوبة المختلفة والمتناقضة أحيانا، من قبل قيادات وأعضاء المجلس الوطني. الأمر الذي ولد شعورا قويا عند المراقبين بأن المجلس معدوم الآليات تماما، وما هو إلا واجهة إعلامية للثورة حاله كحال أي تنسيقية في داخل سوريا، مع فارق كبير هو أن أغلب تنسيقيات الداخل هم من الثوار فعلا. وهذا ولد انطباعا آخر أكثر خطورة هو أن المجلس الوطني ولد لكي يكون غاية بحد ذاته وليس وسيلة، وهذا ما أفقده زمام المبادرة. بل أصبغوا عليه قدسية تخرج من ينتقد عمله من الملة الوطنية، إلى درجة أن وصل الأمر بأحد الأعضاء البارزين في المجلس الوطني، ليكتب على صفحته بأنه من يستمرئ خيانة المجلس الوطني يستمرئ خيانة الوطن، وهذه العقلية ستجر الويلات على الثورة السورية إن سادت في المجلس الوطني؛ لأنها تضع الوسيلة والهدف في مقام قدسي واحد. وبدلا من ممارسة سياسة الاحتواء لبقية أطراف المعارضة كان استخدام جمعة «المجلس الوطني يمثلني» التي دعمها الشعب السوري بقوة، غطاء لإسباغ الشرعية عليه، وذريعة لإقصاء الآخرين وللاعتداد بالرأي وعدم تقبل النقد.
أعتقد أن الخطأ الجسيم في المجلس الوطني كان منذ البداية هو تركيبته التي لم تعكس وطنيته. والحقيقة أنه ليس له من اسمه نصيب. بمعنى أن المجلس لم يكن وطنيا (أي لكل أبناء الوطن) منذ اللحظة الأولى لولادته، بل كان ائتلاف أحزاب وتكتلات يحاول أن يطغى بعضها على بعض، مما انعكس سلبا على آلية اتخاذ القرار حتى على مستوى تعديل النظام الداخلي للمجلس. فالعمل للثورة أصبح يمارس من خلال مصلحة الحزب أو التكتل، أي أن الثورة تأتي في المرتبة الثانية في جل الاهتمامات بعد الحزب، بل يعمد بعضهم إلى مساعدة الثورة باسم الحزب، وهذا لعمري أكبر جريمة بحق الثورة السورية والشعب السوري الحر. وبدلا من التخفيف من التكتلات داخل المجلس الوطني والرجوع إلى وطنيته، عمد بعض مؤسسي المجلس، ممن يتحملون مسؤولية تركيبته الباطلة مرحليا، إلى إنشاء أحزاب وتيارات خاصة بهم، وهذا تعارض صريح مع العرف السياسي في هذه المرحلة بالذات؛ لأن العرف السياسي لا يسمح لمن يشارك في مشروع وطني واسع، وخصوصا في هذه الظروف، بأن يدخل في مشروع سياسي خاص به؛ لأنه حتما سوف يتم تجيير المشروع الوطني لخدمة المشروع الخاص.
ودليلي على ذلك هو أن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي كان قد استقال من حزب المؤتمر عندما أصبح رئيسا للجمهورية؛ لأنه دخل في مشروع وطني كبير لكل التونسيين. والمجلس الوطني السوري هو مشروع وطني لكل السوريين، وغياب ذلك سيكون باعتقادي أهم معوقات الاعتراف به دوليا فيما لو كانت هناك إرادة دولية للاعتراف به. فنحن لسنا بصدد تشكيل حكومة متعددة المشارب والاتجاهات لقيادة وإدارة البلاد، وإنما نحن الآن بصدد تحرير الوطن. وعندما ننتقل من مرحلة التحرير إلى مرحلة القيادة والإدارة فليدل كل من الأحزاب والتجمعات بدلوه، وقرار الشعب هو الحكم.
لقد أصبح الهم الأكبر للمجلس الوطني هو مجرد ترديد ما يردده الثوار في الداخل كما هو، دون البحث عن آلية العمل، وحتى دون دراسة إمكانية ترجمته عمليا بناء على المواقف الدولية والإقليمية. وكل ذلك خوفا من سقوط المجلس شعبيا بدلا من الخوف على الثورة نفسها. والسياسي المخلص في مثل هذه الظروف يعمل للهدف وليس لكسب الشعبية.
المجلس الوطني يجب أن يتبنى أهداف الثورة، وهذه شرعيته بلا شك، بل شرعية كل معارض سوري الآن. لكن هو من يملك آلية وإمكانية تحقيقها ووسائل الوصول إليها، فالثوار يمثلون الجناح الميداني للثورة، والمجلس الوطني يفترض أن يمثل الجناح السياسي الملازم دوما، وفقدان التلازم يعني مضاعفة العبء على الجناح الميداني ووضعه في خطر كبير.
لقد كان أكبر أخطاء المعارضة السورية بكل أطيافها هو أنها تريد أن تحكم سوريا قبل إسقاط النظام، من خلال تأمين النفوذ الكبير لها في المجالس والهيئات التي أسست لتمثيل المعارضة تمهيدا للإمساك بالحكم. وهذا خطأ سياسي كبير يدل على التسرع، وربما عدم الإخلاص، ولربما على عدم الفهم بطبيعة المرحلة الراهنة بأنها مرحلة انتقالية لنزع الشرعية عن النظام القائم وتلبسها، تمهيدا لإسقاط النظام والأخذ بالبلاد إلى بر الأمان بعد إتمام مهمة إسقاط النظام، وينتهي عمل المجلس بإنشاء حكومة انتقالية من الخبراء لإدارة شؤون البلاد نحو دستور جديد وانتخابات جديدة. فالآيديولوجيات لا مكان لها في هذه المرحلة، والزج بها لا بد أن يربك أو يعطل المهمة.
ما هو الحل؟
أولا: يجب الانطلاق من حقيقة أن المجلس الوطني هو حق وملك للثورة السورية والشعب السوري، وبناء عليه لا تجوز أبدا الدعوة إلى إسقاطه، وإنما إعادة تشكيله من القواعد على أسس جديدة قوامها الخبرة وليس الآيديولوجيا أو التنوع الطائفي أو العرقي، فهو بشكله الحالي غير قابل للإصلاح. وأن يكون اسمه المجلس الوطني السوري للإنقاذ، وألا يزيد عدد الأعضاء عن 35 ممن بلغ به أو بها العمر أربعين سنة فأكثر.
ثانيا: يجب الانطلاق من حقيقة أن المجلس الوطني هو لخدمة الثورة السورية، وبناء عليه لا مكان لمن يتخلف عن مبادئ الثورة المتمثلة بعدم الحوار مع النظام، وأيضا عن أهدافها المتمثلة بإسقاط النظام بكل أركانه مهما طال عمر الثورة، ومهما بلغت تكلفتها، مؤمنين بأن الثورة لا تعبأ بالتكلفة أبدا بقدر ما تعبأ بتحقيق النتائج والأهداف المنشودة. ولنا عبرة في شعوب كثيرة استغرقت ثورتها سنوات لكنها انتصرت. وأيضا لا داعي لوجود ما يسمى بممثلي الحراك الثوري في المجلس، الذين تم إيجادهم أصلا للتهليل للمجلس وصد السهام عن بعض قيادته.
ثالثا: يجب الانطلاق من حقيقة عدم توازن المعارضة السورية، وبالتالي فإن الدعوة إلى توسيع أكبر للتكتلات المشاركة في المجلس الوطني لن يحل المشكلة، بل سيزيدها تعقيدا. إضافة إلى وجود عدد غير محدود من التكتلات والتيارات الراغبة في الانضمام إلى المجلس والمشاركة في قيادته.
رابعا: المجلس الوطني السوري للإنقاذ يجب أن يكون أعضاؤه من أصحاب الخبرة في السياسة والقانون والشؤون العسكرية والإغاثة والإعلام، لذلك تجب الاستفادة من سياسيين وعسكريين ودبلوماسيين سابقين انضموا إلى ركب الثورة. ولنا في السيد مصطفى عبد الجليل والسيد عبد الرحمن شلقم في ليبيا عبرة.
خامسا: التأكيد على أن المجلس الوطني السوري للإنقاذ هو وسيلة وليس غاية، ولمرحلة انتقالية فقط، وهو مجلس إنقاذ وليس مجلس حكم على غرار النموذج العراقي. وعندما ندرك ماهية وظيفة الإنقاذ فلن نهتم كثيرا بشخصيات وهويات الطاقم. والجناح الميداني للثورة لن يهتم بهوية من ينقذه، بل بالقادر على إنقاذه (ونبقى طبعا في الإطار الوطني والثوري). ولا يمكن لأي تشكيلة أن تعكس حقيقة التنوع السوري المعقد، لذلك فإنني أدعو كل طوائف وأطياف النسيج السوري إلى أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة بمرونة متناهية، مؤمنين بصعوبة تمثيل المجتمع السوري تمثيلا دقيقا، وقبل كل شيء متفهمين لطبيعة المرحلة الانتقالية.
------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية الإثنين 27/2/2012.