عرض: مي درويش
مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
Dario Battistella,Un Monde Unidimensionnel ,Paris: Presses de Sciences Po, 2011
يقدم " داريو باتيستيلا " في كتابه " عالم أحادي الأبعاد" أفكارا نظرية ومنهجية في علم العلاقات الدولية، مناهضة لسيل الكتابات النظرية الأمريكية -التي تتحدث عن "حتمية الصراع"، وزيادة المخاطر والتهديدات التي تحيط بالأمن والسلم الدوليين- بل ويذهب إلى أبعد من ذلك ليخلص إلى أن هذا النظام الدولي أحادي القطبية أدى إلى ظهور مجتمع دولي "توحدي Unitive"، أي قائم على عملية مستمرة، مناطها توحيد الثقافات المختلفة تحت القيم والمبادئ الليبرالية الديمقراطية الغربية، واستبعاد كل ما عاداها.
ويقدم الكاتب رؤية نظرية، مفادها أن هذه الأحادية هي مرادفة للهيمنة المادية للولايات المتحدة الأمريكية التي تنعم بشرعية سياسية، وكذلك مرادفة للهيمنة القيمية للمبادئ الليبرالية الغربية التي تنعم بشرعية أيديولوجية.ومن ثم، فإن هذا العالم أحادي الأبعاد، من شأنه أن ينعم بالسلام والاستقرار، ولا يوجد فعليا من يهدد أو يعادي هذه الهيمنة من الدول الأخري، وبالتالي ينعدم أي احتمال لنشوب حرب عالمية في المدي القريب، بخلاف المسارات التي رسمها منظرو العلاقات الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية.
استعرض الكاتب المسارات والسيناريوهات التي رسمها منظرو العلاقات الدولية في الولايات المتحدة لعالم ما بعد الحرب الباردة، وركز في هذا الصدد على كتابات "فرانسيس فوكوياما"، و"تشارلز كراوثامر"، و"صمويل هنتنجتون"، و"هنري كسنجر" التي لم تتحقق بعد مرور عقدين عليها .
ولذا يتساءل الكاتب: أين يقف العالم الآن وكيف يمكن أن نفهم العلاقات الدولية في الوقت الراهن؟. ولذا، يقدم الكاتب نقدا معرفيا لهذه التنبؤات، قائما على البراهين والحجج المنطقية بالرجوع إلى نظريات وتاريخ العلاقات الدولية، ثم قدم تحليله الخاص ورؤيته الخاصة للنظام العالمي في فترة ما بعد الحرب البادرة.
استقرار وديمومة الأحادية القطبية:
ناقش الجزء الأول من الكتاب بدراسة الهيكل الأحادي للنظام الدولي المعاصر، ويبرهن فيه على أن الأحادية القطبية الحالية مستقرة ودائمة، أو بمعني آخر تضمن استمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، ما دام لا توجد قوي ثانوية تستطيع أو تريد تحقيق التوازن في مواجهة القوة الأمريكية سواء كان ذلك بانتهاج سياسة توازن داخلي (من خلال زيادة الموارد العسكرية للدولة)، أو توازن خارجي (من خلال إنشاء تحالفات مع دول أخري في مواجهة القوة المهيمنة).
ويمكن إرجاع غياب الرغبة لدي القوي الأخري في تحقيق هذا التوازن إلى عدة أسباب موضوعية تتعلق بالأساس بالموارد المتاحة لديها، وما قد تتكبده من خسائر، جراء انتهاجها لسياسة توازن في مواجهة القوة العظمي.
ويمكن إرجاعه أيضا إلى أسباب ذاتية تتعلق بالانتماء إلى المنظومة القيمية التي تتقاسمها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو حال الدول الأوروبية. وهذه المنظومة القيمية تبرر بروز مجتمع دولي موحد ينعم بالشرعية الدولية.وأخيرا، قد يرجع غياب هذه الرغبة لدي كثير من الدول إلى مصالحها الخاصة التي صارت مرتبطة ببقاء الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمي وقطب أوحد.
ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة قد نجحت في جعل دول العالم في حاجة إليها في مناطق بعينها من العالم، ومثال ذلك إسرائيل، أو دول الخليج في مواجهة تهديدات العراق (في عهد صدام حسين)، وإيران (منذ قيام الثورة الإيرانية 1979). ومن ثم، يخلص الكاتب إلى أن هذه الأحادية القطبية هي مرادفة لهيمنة توافقية تتمتع بالشرعية من قبل القوي الثانوية في هذا النظام.
بروز مجتمع دولي توحدي:
وفي الجزء الثاني، يري الكاتب أن هذه الأحادية القطبية التي سادت النظام الدولي أدت إلى ظهور مجتمع دولي توحيدي وموحد للقيم والمعايير. فالمبادئ الديمقراطية الليبرالية التي تحملها الولايات المتحدة الأمريكية لا يوجد لها بديل، وهي تسود النظام الدولي بحكم الأمر الواقع، فتشمل الدول التي تقبل قواعد اللعبة، وتستبعد تلك الدول المارقة. فمنذ معاهدات وستفاليا عام 1648، فإن المجتمع الدولي هو مجتمع تعددي قائم على المساواة بين الدول على أساس مبدأ السيادة.
غير أن الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب الباردة تروج لمجتمع دولي تضامني قائم على الهوية الليبرالية الديمقراطية. فالولايات المتحدة قامت بإعادة رسم هذا المجتمع الدولي، بحيث يكون قائما على الحرية أكثر منه على المساواة، وعلى حق الدفاع الشرعي أكثر منه على مبدأ حظر اللجوء إلى القوة، حتي اقتصرت الليبرالية على كونها أداة للتلويح ضد الأنظمة الديكتاتورية المعادية.
وأعلن هذا المجتمع الحصري نفسه مجتمعا دوليا يملي المعايير والقواعد لممارسة اللعبة الدولية. وصارت تلك المعايير هي الأداة التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية لإضفاء الشرعية على إقصاء الدول المعادية لها من هذا المجتمع.
ورأي الكاتب أن هذه السياسة تشبه السياسات التي انتهجتها الإمبراطوريات الأوروبية خارج أوروبا، وفقا لمبدأ No Peace beyond The Line، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي الداعم والراعي للقيم الليبرالية الديمقراطية. أما من تقصيهم من هذا المجتمع، فيحق لها أن تتصرف بشأنهم، بعيدا عن تلك المعايير. ومن ثم، يستخلص الكاتب أن تحديد ما هو "صحيح" و"عادل" في العلاقات الدولية هو من شأن اللعبة السياسية التي تضع قواعدها القوة والهيمنة.
وفي النهاية، يخلص الكاتب إلى أنه في ظل هذا النظام الدولي أحادي القطبية من ناحية، ومن ناحية أخري في ظل هذا المجتمع الدولي التوحدي Unitive، فإن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم أحادي الأبعاد لا يشمل إلا من ينتمي إلى القيم الليبرالية الديمقراطية.
ومن ثم، تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه مناهضا لهذا الاتجاه السائد في علم العلاقات الدولية، ويسعي إلى النظر إلى حقيقة النظام الدولي من منظور مختلف، ويسعي إلى فهم طبيعة الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، فخلفا للإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والنمساوية، ثم الفرنسية والبريطانية، فإن العالم اليوم هو عالم أحادي الأبعاد، مرادف للهيمنة المادية للولايات المتحدة، والهيمنة الثقافية لليبرالية الديمقراطية.