كان من الممكن أن يكون عنوان هذا المقال: "المجتمع المدني في المنطقة العربية: ما له وما عليه". فطبقاً لكل من نظريات علم السياسة على اختلاف توجهاتها وكذلك خبرات التاريخ وممارسات المجتمعات، فإن وجود مجتمع مدني قوي لا غنى عنه لإقامة نظام حكم ديموقراطي صحي ومتوازن. ففي مواجهة سلطة الحكومة بأجهزتها المختلفة ومحاولة السيطرة على المجتمع، تقوم جماعات المجتمع المدني بتكوين جبهة للتخفيف من غلواء الحكم وردعه من أن يتحول إلى تحكم مطلق ودون شفافية تُذكر. والأكثر من ذلك تحاول هذه الجماعات أن تساعد الحكومة للتواصل مع مجتمعها، التعرف على احتياجاته وتلبية طلباته، أي تدفع بالسياسات الحكومية لتكون إنعكاساً سليماً لما يبغيه المجتمع.
وفي الواقع فإن الحكومة - أية حكومة - يجب أن تستغل الفرصة التي يقدمها المجتمع المدني للتواصل مع جماعاته، أليس هذه أفضل الفرص وأكثرها نجاحاً لكي تزيد الحكومة من أسس شرعيتها؟
ولكن في منطقتنا العربية فإن "ما يجب أن يكون" يختلف عما هو "كائن فعلاً". من الناحية النظرية، تعرب كل الحكومات - عربية وغير عربية - عن تقديرها لمجتمعها المدني وجماعاته، بل وسعادتها في التواصل معه لحل مشكلات مثل الصحة، التعليم، التوظيف، الإسكان وخلافه - بل إن خريطة تكوين المجتمعات المدنية العربية تثبت تطوراً ملحوظاً في زيادة عدد منظمات هذا المجتمع حيث وصلت في عام 2007 إلى أكثر من 163 ألف منظمة غير حكومية. فيوجد في بلاد مثل مصر حوالى 25 ألف منظمة، والمغرب حوالى 26 ألف، والجزائر أكثر من 70 ألف منظمة. ولكننا نعرف أيضاً أنه بالرغم من عدد هذه المنظمات، فالفجوة بين الحكومات ومجتمعاتها لا تزال كبيرة كما تبين المظاهرات والاحتجاجات التي تجتاح شوارع كل من المغرب والجزائر، والتي أدت في النهاية إلى تنحي مبارك في مصر، أين المشكلة إذن؟
أحد أوجه المشكلة أن الحكومات - مهما كان نوعها- تحاول كبح جماح هذا المجتمع المدني والسيطرة على جماعاته، لكي تحصل على أقصى قسط من الحرية في سياستها، بل إن بعض الحكومات المعترف به، كديموقراطية شامخة لا تتورع عن الإطاحة ببعض جماعات المجتمع المدني عندما تشعر أن هذه الجماعات تتعارض مع مصالحها، أو قد تشكل خطراً على سياساتها.
أهم الأمثلة على ذلك هو تعقب الولايات المتحدة لكثير من الجماعات الإسلامية - في الداخل والخارج - بعد الهجوم الذي تعرضت له كل من نيويورك وواشنطن على يدي منظمة "القاعدة" - قامت الولايات المتحدة بالتنسيق وحتى الضغط على كثير من الدول الإسلامية والعربية لمطاردة بعض هذه الجماعات، وحتى غلق أبوابها بحجة أنها "إرهابية" أو تقوم بتمويل "أعمال إرهابية".
ولكن اللوم لا يجب أن يقتصر على الحكومات، وبعض سياساتها فقط، لأن بعض منظمات المجتمع المدني تعاني من كثير من النقص والعيوب، التي تتهم بها حكوماتها. فبالرغم من الأهداف النبيلة التي تعلنها مثل هذه المنظمات وتصر عليها، فإنها لا تقوم بتحقيقها.
فالكثير من هذه المنظمات تعاني من ضعف إداري وتنظيمي مزمن، بل والتقاعس في مواجهة مثل هذا الضعف بحيث إن بعض هذه المنظمات أصبح شبه شركة أو "بوتيك عائلي" يبغي المظهر والأبهة أكثر من الفعالية في حل مشاكل العباد - وما أكثرها. كما أن الكثير من هذه المنظمات ينقصها الحد الأدنى من الشفافية في مواردها وعدد أعضائها وسبل تعاملها، كما لا يوجد بها الحد الأدنى أيضاً من تداول السلطة داخلها أو في مجالس إداراتها، وتصبح بعض قياداتها شبه أبدية - كما هو الحال في بعض الحكومات التي تقوم بانتقادها.
ثم إن هناك بعض هذه المنظمات، التي لا يعيش إلا على الأموال القادمة من الخارج، بل قد يصبح استيراد هذه الأموال أهم أهدافها، وذلك بدلاً من الاعتماد على مصادر تمويل من الداخل، وبالطبع مثل هذا الاعتماد على الخارج قد يؤثر على أجندة أعمالها.
بالرغم من أن منظمات المجتمع المدني ضرورية لقيام حكم ديموقراطي ويجب مساعدتها في مواجهة السيطرة الحكومية، فإنها يجب عليها أيضاً أن تُصلح من نفسها حتى لا تساعد الجهات الحكومية من السيطرة عليه أو التقليل من مصداقيتها وشرعية عملها.
----------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأربعاء 22/2/2012.