اكتملت دائرة الصراعات بالشرق، وبرزت بوضوح الأطراف الأصيلة والفاعلة كعوامل ديناميكية طالما أسهمت بشكل أو بآخر فى تأجيج هذه الصراعات وتهيئة أُطرها، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لم يحدث أن عادت الصراعات بمفاهيمها المتعارف عليها، مثلما نعاصرها فى وقتها الحالى، سيما مع اعتماد الصراع الإسرائيلى_الفلسطيني كإشكالية متجذرة بالمنطقة، ولعل التدخلات الأمريكية بداية القرن الحالى فى العراق وأفغانستان، مع صيحات ما عرف بالربيع العربى، جميعها عُدت عوامل وتحولات دفعت بالحالة الشرق أوسطية إلى هذا النحو وهذه الكيفية، وتبرز هنا محاولات مراكز الأبحاث مع الأكاديميين المتخصصين من أجل الاستعانة بعلوم ونظريات العلاقات الدولية فى الوقوف على فهم مسببات الصراعات مع الإمام بتداعياتها ومآلاتها، كونها النظريات التى برزت خصيصا مع بزوغ الحروب الأولى، وإن اختلفت المسببات باختلاف المتغيرات وتبعاتها سواء سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية وحتى ثقافية ومجتمعية.
لا شك فى أن محاولات فهم وقراءة سياسات الفاعلين على المسرح الدولى تأتى ضمن آليات التعاطى مع الصراعات الدائرة، وفى مقدمتها عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ومحاولاته لصياغة رؤية أمريكية جديدة، تناقض الاستراتيجيات الأمريكية المتعارف عليها، حيث وعد ترامب بتسكين الشرق وصراعاته، مع عدم الإفصاح عن الآليات المقرر انتهاجها فى ذلك الشأن،، بالتالى تعاطيه مع معظمها أبرز إخفاقا واضحا، وحينما انتهج نظرياته الخاصة بفرض السلام بالقوة مع أزمة غزة، صحيح أن طوفان الأقصى لعب دورا محوريا، فيما آلت إليه الأوضاع بالشرق، سيما مع تعدد الدوافع والمتغيرات، التى أسهمت فى تعقد الموقف، إلا أن سياسات الرئيس الأمريكي مكنت دولة الاحتلال وأعطت لها الضوء الأخضر، على خلفية تصريحات ترامب الشهيرة بإمكانية تهجير الأهالى الفلسطينيين من غزة، ومن ثم إعادة تعميرها، إلا أن الموقف العربى برعاية القاهرة جاء موحدا ورافضا لهذه التصريحات، ليتراجع الرئيس الأمريكي عن تصريحاته، ويبدو أن ترامب أراد من هذه التصريحات مستهدفات أبعد تتعلق بتغيير الخريطة الإسرائيلية والمقايضة على غزة وحدودها، غير أن استعادة الحرب على غزة من قبل قوات الاحتلال، مع محاولات إفشال المفاوضات، اعتبرت تصريحات ترامب مع الشحنات العسكرية الأخيرة التى سمحت بها إدارته لإسرائيل، فى مقدمة أسباب ودوافع استئناف الحرب، إضافة إلى الداخل الإسرائيلى المهترئ ومحاولات ترامب التنصل من قضايا الفساد والرشاوى، ما أسهم فى عودة المشهد إلى حالة كاملة من التعقيد، خصوصا أن الصراع ما بين الجانبين يعد الإشكالية الأزلية بالمنطقة، وتبرز لبنان على خط النار، فرغم اكتمال المشهد السياسي هناك فإن ضلوع حزب الله كطرف رئيسى فى المعادلة السياسية طالما أسهم فى عدم استقرار البلاد، ومع اشتعال الجهة الجنوبية وامتداد الصراعات إلى داخل الضاحية، يتعقد الموقف باستقرارإسرائيل بقواتها ناحية الخط الأممى فى تحد سافر للقرارات الأممية، وإن ظل مستوطنو الشمال غير قادرين على العودة، ولم يتمكن الكيان لا من عودتهم ولا حتى من القضاء على حزب الله، والذى يُراهن على عودته، حسبما جاء فى خطابات أمينه العام نعيم قاسم، ولا أدل أيضا من تشييع جثمان الأمين العام الأسبق حسن نصرالله، والذى شهد عودة بدت منظمة.
الديناميات الحقيقية تبرز فى سوريا، وهى التي تشهد تحولات سريعة جدا فى مشهدها، وأحداث الساحل الأخيرة ألقت بظلالها على مجمل الأوضاع، ومخاطر تجذر لطائفية يصعب على سوريا التخلص منها، تلك الطبيعة الطائفية والتى أضفت صبغتها على المجتمع السورى، وترسخت إبان نظام الأسد، وإن لا تزال محل اعتماد وبرزت فى المعطيات الأخيرة، وعليه لا تزال سوريا فى مفترق طرق، حتى الوعود الأوروبية والتحركات من أجل رفع العقوبات، لا تزال مرهونة بالسلوكيات المرتقبة، ومدى قدرة النظام على إحداث حالة من التوافق الوطنى مع دمج مختلف الأطياف السورية فى معادلة وطنية واحدة تستهدف المصالح السورية بالأساس، والأهم تفعيل الدستور السورى، ومنه فإن سوريا بحاجة إلى دعم عربي ورؤية عربية من شأنها الدفع بخارطة الطريق السورية والأهم إتمام استقرار البلاد، مع مراعاة الأقليات ووجوب التعامل معهم من منطلق مفاهيم العدالة الانتقالية.
الإشكالية اليمنية تنطلق من التوجهات الحوثية، والتى تقوض تماما استقرار الداخل اليمنى، حيث تتصرف الجماعة بمعزل عن النظام السياسي والحاكم للبلاد، وربما بمعزل عن المستهدفات العربية بشكل عام، وهو ما تم التخوف منه بشكل عام، جراء تعدد جبهات الصراع بالمنطقة، كونه يحفز نشاط الجهاديين على اختلاف تنويعاتهم ومستهدفاتهم، ما ينذر بانفلات السيطرة تجاه توجيه هذه الجماعات وقناعاتها، وفى ضوء الضربات القاسية والتى يوجهها الغرب إلى الحوثيين، فى اتجاه يقتضى أول ما يقتضيه القضاء على إيران وأذرعها، إكمالا للقناعات الغربية والإسرائيلية، وفى ضوء أيضا التوجهات الحوثية والتى تتطلب الانفراد والتعبير عن الذات والمصالح الضيقة، دون الاكتراث بالقضايا العربية، بل التذرع بها ما برز فى تعاملات الجماعة العسكرية بالبحر الأحمر.
تعانى السودان من القبلية بشكل واضح، والتى امتدت إلى قواتها العسكرية وصفوف جيشها، فما بين القوات الوطنية وصفوف الدعم السريع، تبرز الصراعات على أشدها، وهو ما يصعب التعافى منه حال عدم وضع فى الاعتبار عدة عوامل أثرت ولا تزال تؤثر فى المشهد السودانى أهمها غياب الفاعلين السياسيين، مع عدم وضوح دور يذكر للأحزاب والقوى السياسية والمدنية، إلى جانب بروز الجماعات المسلحة فى كافة صورها غير المنظمة، ما أسهم فى حالات كاملة من الإبادة الجماعية لمقاطعات سودانية أصيلة أهمها إقليم غرب دارفور، وعلى هذا المنوال تجذرت الطائفية والتعددية الإثنية بمجتمعاتنا العربية ولم يفلت منها إلا ما ندر، وكان من المفترض أن تستغل هذه الاختلافات لإحداث حالة من التنوع الفريد والتحولات الكفيلة بالتخديم على رفعة هذه الشعوب والارتقاء بها عقب فترات طالت من الاستعمار والحروب، خصوصا أن اقتصادات معظم هذه الدول تأثرت بوضوح جراء هذه الصراعات، ليصبح نصيب الفرد من الدخل أقل بنحو 10%، إلى جانب انخفاض نصيب الفرد نفسه من الناتج المحلى بالنسبة ذاتها، ووفقًا لأحدث تقارير البنك الدولى فهناك توقع لعودة اقتصادات الشرق إلى معدل نمو منخفض تقترب من معدلات فترة جائحة الكورونا، مع ارتفاع نسب الديون لدول الشرق، إلى جانب تراجع الإيرادات فى مقابل الزيادة فى الإنفاق لدعم التدابير، وطبقا لصندوق النقد فإن تأثيرات صراعات الشرق جاءت واضحة فى ارتفاع أسعار السلع الأساسية سيما النفط والحبوب، على إثر ارتفاعات تكلفة الشحن وتأمين السفن جراء الضربات الحوثية على الملاحة فى البحر الأحمر.
ختاما، يمكن الجزم بأن عودة الاستقرار بالمنطقة، تظل مهمة الأنظمة السياسية المستقرة، على غرار الموقف المصرى مع القضية الفلسطينية وحجم التدويل والحراك السياسي والدبلوماسي الذى أحدثته القاهرة، أو عبر التواصل مع مكونات الأنظمة السياسية بالداخل الوطنى للبلاد غير المستقرة، التى تعانى حالات من الفوضى وعدم الاستقرار، من أجل إحداث التوافقات وصياغة المعادلات، مثلما فعلت مصر مع فلسطين، وليبيا، والسودان وغيرها باستضافة الفصائل المُشكلة لنظام الحكم، مع رعاية من الأشقاء العرب أيضا.