تصاعد نمط دبلوماسية الصحة أو الإغاثة الإنسانية في السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية، خلال الأعوام الماضية، وهو ما برز جليا في السياسة التي تبعتها مصر تجاه إغاثة قطاع غزة في الحرب الأخيرة (2023-2025) والتي اشتركت فيها، عدة مؤسسات بحيث تشمل وزارة الخارجية بالتعاون مع القوات المسلحة وهيئات أخرى محلية ودولية، وهو ما تكرر في حالات جغرافية أخرى لتقديم مساعدات لعدد من الدول الصديقة والمجتمعات المتضررة من أمراض وبائية وكوارث طبيعية وأزمات مفاجئة، بما يحقق أهداف متعددة ترتبط في أحد أبعادها بطابع "الأنسنة" في العلاقات الدولية والتفاعلات الإقليمية، وعلى نحو يحد من التأثيرات المختلفة على المصالح الوطنية.
منذ تزايد التصعيد بين إسرائيل من جهة وحركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية المسلحة من جهة أخرى بعد عملية "طوفان" الأقصى في مرحلة ما بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023، وحتى بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، 19 يناير 2025، لم تتوقف الجهود التي قامت بها مصر لتخفيف معاناة سكان القطاع في ظل حرب إبادة تمارسها إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين، سواء المسلحين أو المدنيين، والعمل على إغاثة المتضررين، وبعث أملا في وسط الركام.
وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال كلمته في المؤتمر الدولي للاستجابة الإنسانية الطارئة لغزة في يونيو 2024 بالقول "إن مسئولية ما يعيشه قطاع غزة من أزمة إنسانية غير مسبوقة، تقع مباشرة على الجانب الإسرائيلي، وهي نتاج متعمد لحرب انتقامية تدميرية ضد القطاع وأبنائه وبنيته التحتية، ومنظومته الطبية، يتم فيها استخدام سلاح التجويع والحصار، لجعل القطاع غير قابل للحياة، وتهجير سكانه قسريًا من أراضيهم دون أدنى اكتراث أو احترام للمواثيق الدولية أو المعايير الإنسانية الأخلاقية".
إذ قدمت مصر ما يقارب من 70 % من إجمالي المساعدات الإنسانية التي وجهت للقطاع. فمن خلال معبر رفح، تعبر مئات الشاحنات والمركبات المحملة بالمساعدات الإنسانية، إلى داخل قطاع غزة تباعا، محملة بالمواد الغذائية، والمستلزمات الطبية، والخيام، وأطنان من الوقود، وتقديم جميع الخدمات اللوجيستية العائلات المنكوبة من جراء العدوان الإسرائيلي، في سباق مع الزمن للتخفيف من فداحة الأزمة الإنسانية التي يواجهها القطاع، بشرا وحجرا.
وفي هذا السياق، قال محافظ شمال سيناء اللواء خالد مجاور في تصريحات صحفية مختلفة، إن "مصر قدمت ولا تزال تقدم الدعم الأكبر لسكان قطاع غزة"، وأوضح أن الجهود المصرية "لا تقتصر فقط على نقل المساعدات، بل تشمل تنظيم العملية اللوجستية بشكل كامل، حيث تم إنشاء سبعة مخازن لوجستية لتخزين المساعدات منذ إغلاق معبر رفح في مايو الماضي، وذلك استعدادًا لإعادة فتح المعبر وإدخال المساعدات بشكل منظم يضمن وصولها إلى مستحقيها".
كما قال د. خالد زايد رئيس مجلس إدارة الهلال الأحمر المصري بشمال سيناء في تصريحات صحفية بتاريخ 17 فبراير 2025، إن "هناك 1200 متطوع يعملون في خدمة عمليات نقل المساعدات، معظمهم من أبناء شمال سيناء، إلى جانب متطوعين من محافظات أخرى، وأغلبهم من الفتيات." مضيفا أن "إجمالي ساعات التطوع التي قدمها المتطوعون منذ بداية الأزمة في 7 أكتوبر 2023 بلغ 500 ألف ساعة".
وعلى الصعيد الطبي، تم استقبال الجرحى الفلسطينيين في المستشفيات المصرية وفق خطة علاجية متكاملة تتضمن ثلاث مراحل رئيسية. إذ شملت المرحلة الأولى مستشفيات شمال سيناء التي تم تعزيزها بأعداد إضافية من الأطباء ورفع كفاءتها لاستقبال الحالات الطارئة. في حين شملت المرحلة الثانية مستشفيات الإسماعيلية والمحافظات المتاخمة لشمال سيناء، والتي تم تجهيزها لاستقبال الحالات التي تحتاج إلى رعاية طبية إضافية. فيما تضم المرحلة الثالثة مستشفيات القاهرة الكبرى، المجهزة لاستقبال الحالات الحرجة وإجراء العمليات الجراحية المتقدمة، وهو ما يعكس المنظومة الكاملة التي تعمل.
كما قاد التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي أكبر قافلة لتقديم المساعدات الإنسانية لأهالي قطاع غزة، وخيام، وملابس، وألحفة فضلا عن إرسال قوافل طبية لتقديم الرعاية الصحية وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية وعربات إسعاف، وتوزيع المساعدات الغذائية لتأمين احتياجات الأسر من المواد التموينية الأساسية، وتوفير مواد الإيواء للعائلات التي فقدت منازلها، وتنظيم حملات تبرّع بالدم لتوفير احتياجات الأشقاء في فلسطين من الدم ومشتقاته. هذا فضلا عن تدشين صندوق "تحيا مصر" العديد من قوافل المساعدات المتوجهة لقطاع غزة.
وتواز مع ذلك المشاركة المصرية المحورية في الملتقيات الدولية الداعمة لإغاثة الفلسطينيين في غزة، وكان أبرزها في المؤتمر الدولي للاستجابة الإنسانية الطارئة لغزة، الذي عقد في يونيو 2024 بدعوة مشتركة من الرئيس السيسي والعاهل الأردني وسكرتير عام الأمم المتحدة، واستضافته المملكة الأردنية بالبحر الميت، وهدف إلى حشد دعم المجتمع الدولي لجهود الإغاثة الإنسانية في قطاع غزة، وذلك بمشاركة عدد من رؤساء الدول والحكومات والمنظمات الإنسانية والإغاثية الدولية.
وعلى صعيد متصل، تعد الإمارات أيضا في مقدمة الدول التي قدمت مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة إذ أطلق رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، عملية "الفارس الشهم 3" الإنسانية لدعم الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وهي الحملة التي كان لها الأثر البالغ في مساعدة سكان القطاع وصمود إرادتهم على أرضهم. حيثوجهت قيادة الإمارات بتنفيذ العملية من قبل كل من قيادة العمليات المشتركة في وزارة الدفاع بالتعاون والتنسيق الشامل مع كل من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية ومؤسسة زايد بن سلطان للأعمال الخيرية والإنسانية وباقي المؤسسات الإنسانية والخيرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، بالتحرك العاجل، لإغاثة سكان قطاع غزة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الإمارات أنشأت مستشفى ميداني في غزة، وأرسلت مستشفى عائماً إلى ميناء العريش في مصر، بعد تجهيزه بالإمكانيات كافة لاستقبال الجرحى والمصابين الفلسطينيين وتقديم الرعاية الصحية وإجراء العمليات الجراحية النوعية لهم، فضلا عن تقديم مبادرة الأطراف الصناعية لتلبية احتياجات مبتوري الأطراف جراء الحرب في قطاع غزة. وتهدف المبادرة إلى توفير أطراف صناعية متطورة لهذه الحالات، ما يسهم في تحسين حياة المتضررين وتمكينهم من استعادة بعض من قدرتهم على الحركة والاعتماد على أنفسهم. وتشمل المبادرة أيضا توفير الدعم النفسي والتأهيل الطبي، ما يساعد المستفيدين على التأقلم مع وضعهم الجديد.كما أطلقت مبادرة لإجلاء 1000 طفل و1000 من مصابي السرطان من قطاع غزة وعلاجهم في مستشفيات دولة الإمارات.
كما أطلقت دولة الإمارات حملة التطعيم ضد شلل الأطفال الفلسطينيين، خصوصاً الأطفال، استجابة للأوضاع الإنسانية الصعبة التي يمر بها القطاع. ووفرت الحملة التي تنفذ بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، واليونيسيف والأونروا، جرعتين من لقاح شلل الأطفال لأكثر من 640 ألف طفل في غزة دون سن 10 سنوات، لوقف انتشار الفيروس ومنع تفشي المرض في القطاع.
علاوة على ذلك، قامت دولة الإمارات بتقديم المساعدات الطارئة للبلديات والهيئات المحلية في قطاع غزة، حيث قدمت مجموعة من صهاريج نقل المياه وأخرى للصرف الصحي، ومعدات أساسية لمصلحة مياه بلديات الساحل. فضلا عنتنفيذ مشاريع إصلاح خطوط المياه والآبار المتضررة والشبكات المدمرة في محافظتي خان يونس وشمال غزة، لتسهيل حصول السكان على المياه في مناطق سكنهم، وتحسين ظروفهم المعيشية.
خلاصة القول، ستظل مصر البوابة الرئيسية لجهود تخفيف معاناة سكان القطاع، ويساعدها في ذلك دول شقيقة وبصفة خاصة الإمارات بعد حرب استمرت خمسة عشر شهرا، سادت خلالها مشاهد الدمار، والقتل، والنزوح، ولا توجد موانع من منع أو تكرار العدوان الإسرائيلي على غزة في ظل جهود مضنية تبذلها القاهرة للحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار وبدء تنفيذ خطة إعمار غزة التي وافقت عليها الدول العربية في القمة الطارئة بالقاهرة، والتي قدمت تصورا شاملا للتعافي المبكر وإعادة تأهيل البنية التحتية ومواجهة الأضرار والخسائر التي طالت قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والكهرباء بتكلفة إجمالية تصل إلى 53 مليار دولار.
ويتحقق ذلك عبر مراحل متدرجة تشمل إزالة الركام والذخائر غير المتفجرة (نحو 8 آلاف طن)، وبناء 200 ألف وحدة سكنية جديدة، واستصلاح 20 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وإنشاء شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي، وإنشاء منطقة صناعية على مساحة 600 فدان، وميناء للصيادين، وميناء تجاري، ومطار غزة، إلى جانب تطوير الطريق الساحلي (الكورنيش) بطول 10 كيلومترات، وردم 14 كم² من بحر غزة. غير أن هناك عائق يواجه كل ذلك وهو السلوك الإسرائيلي العدواني والدعم الأمريكي غير المسبوق له.