تحليلات

مستقبل الصراع الروسى-الأوكرانى فى ظل محادثات التسوية بين موسكو وواشنطن

طباعة

تفاعلت موسكو مع تنصيب الرئيس دونالد ترامب والقرارات الأولية التى اتخذها بضبط النفس. فمن ناحية، أرسلت روسيا إشارات إيجابية بما فى ذلك التهانى وتصريحات الاستعداد للحوار. ومن ناحية أخرى، لفتت الانتباه إلى حالة عدم اليقين والمخاطر المرتبطة بالسياسة الخارجية للإدارة الجديدة، مؤكدة على مطالبها بتسوية الصراع فى أوكرانيا. وكان تنصيب الرئيس موضوعًا رئيسيًا فى وسائل الإعلام الروسية. وتشير روايتها إلى أنه فى حين تنظر روسيا الاتحادية إلى تغيير السلطة فى الولايات المتحدة كفرصة لاستيعاب مصالحها فيما يتعلق بكييف وأوروبا، فإنها تكافح للتنبؤ بالإجراءات التى قد يتخذها الزعيم الجديد. ويثير هذا الغموض الانزعاج والتهديدات.

أولا- الترقب الروسى:

كان رد فعل الكرملين على التصريحات والقرارات الأولى للرئيس ترامب متحفظًا. وكانت الإشارة الأكثر أهمية -الاستعداد للحوار مع الإدارة الأمريكية الجديدة- هى التى أرسلها فلاديمير بوتن خلال اجتماع خاص لمجلس الأمن الروسى فى يوم التنصيب20 يناير([1])، وقد أبرزت التصريحات التى أدلى بها الزعيم الروسى لوسائل الإعلام فى تلك المناسبة، وكذلك وزير الخارجية سيرجى لافروف، الجوانب الإيجابية لموقف موسكو تجاه ترامب وحاشيته: الاستعداد لاستعادة الاتصالات المباشرة والانخراط فى محادثات، والرغبة فى تجنب خطر الحرب العالمية الثالثة، والنية فى تلبية بعض مطالب الكرملين فيما يتعلق بأوكرانيا (مثل عدم قبول عضويتها فى حلف شمال الأطلسى).

من ناحية أخرى، أشاد بوتن بـ"شجاعة" ترامب فى مواجهة الهجمات اللفظية ومحاولة الاغتيال، وهنأه على فوزه فى الانتخابات. ومن ناحية أخرى، سلط لافروف الضوء على الصراعات الإقليمية العديدة والمعقدة، وأكد على عدم اليقين الواسع النطاق بشأن السياسة الأمريكية وتأثيرها المحتمل. كما أعلن بوتن عن إمكانية إجراء محادثات مع واشنطن بشأن أوكرانيا، وأكد على الحاجة إلى معالجة "الأسباب الجذرية للأزمة" (إشارة إلى النظام الأمنى ​​فى أوروبا والموقف العدوانى المزعوم للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى تجاه روسيا). وشدد على أن هدف أى اتفاق يجب أن يكون سلامًا دائمًا يأخذ فى الاعتبار مصالح جميع الدول فى المنطقة (بما فى ذلك الاتحاد الروسى)، حيث إن وقف إطلاق النار المؤقت مجرد أمر غير مقبول على الإطلاق.

وتبعت تصريحات أخرى صادرة عن سياسيين ومسئولين روس التوجه نفسه. فقد أعلن مستشار الرئيس للشئون الدولية يورى أوشاكوف استعداد موسكو لحوار مبدئى مع واشنطن، وأعرب عن توقعه بأن تقدم الولايات المتحدة مقترحات ملموسة يمكن أن تشكل الأساس لمحادثات القمة، مما يعنى ضمنا أن المقترحات القائمة غير كافية. وصرح نائب وزير الخارجية سيرجى ريابكوف بأن عودة ترامب إلى السلطة من شأنها أن تؤدى إلى زيادة كبيرة فى عدم القدرة على التنبؤ بالوضع الدولى والعلاقات مع الولايات المتحدة. وفى الوقت نفسه، انتقدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بشدة قرار الزعيم الأمريكى بإعادة تصنيف كوبا كدولة راعية للإرهاب، لكنها رحبت بتخليه عن الدفع الأمريكى نحو أجندة ليبرالية.

وأشار كل من نائب رئيس مجلس الاتحاد، قسطنطين كوساتشوف، ورئيس لجنة الشئون الدولية فى مجلس الدوما، ليونيد سلوتسكى، إلى تقارب موقف ترامب مع موقف روسيا فى مجال القيم. وفى الوقت نفسه، انتقدا عدم فعالية محاولات الحوار بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسى من موقف القوة. ورد كوساتشوف على ذلك باقتراح إجراء محادثات "من موقف الفطرة السليمة"، بينما أكد سلوتسكى، ردًا على تهديدات ترامب بفرض عقوبات اقتصادية جديدة، أن روسيا لا تنوى تقديم تنازلات أو التنازل عن مصالحها الوطنية، مؤكدًا التزام موسكو بالدفاع عن مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، أشار نائب رئيس مجلس الاتحاد إلى أن إعلانات السياسة الخارجية الحازمة لترامب (المتعلقة ببنما وجرينلاند، من بين أمور أخرى) موجهة فى الواقع ضد الصين، واقترح أنه فى معالجة الصراع فى أوكرانيا، لا تحتاج الإدارة الجديدة بالضرورة إلى النظر فى موقف كييف.

ومن بين المواضيع الرئيسية التى أثارتها الدعاية الروسية العلاقة بين الرئيس الأمريكى الجديد وروسيا ومحادثات السلام المحتملة. وفى هذا السياق، قيل إن موسكو تنتظر عرضا من البيت الأبيض، مؤكدة أن المبادرة تقع على عاتق الإدارة الأمريكية. وتم التأكيد على أن ترامب وعد بتنظيم الاجتماع مع بوتن على الفور، والذى يجرى التحضير له بالفعل وفقا للجانب الأمريكى. ونقل الكرملين أنه يسعى إلى مناقشة الوضع فى أوكرانيا حصريا مع واشنطن، متجاوزا كييف والقادة الأوروبيين. وعلاوة على ذلك، قيل إن الحوار المحتمل يجب أن يركز على إعادة تشكيل الأمن الأوروبى، لأن أوكرانيا نفسها لها أهمية ثانوية بالنسبة لموسكو. كما تم تسليط الضوء على العوامل التى يُعتقد أنها تصب فى صالح روسيا فى علاقتها مع ترامب. وكان من أبرزها التقييم بأن ترامب لا يعطى الأولوية لأوكرانيا، التى ينظر إليها على أنها عبء مالى غير ضرورى، وأنه "يكره أوروبا"، التى يزعم أنه ينظر إليها على أنها "منافس رئيسي" و"مشكلة" للولايات المتحدة". وكان من المأمول أن تؤدى هذه النظرة إلى نشوب صراع بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتفكك العلاقات عبر الأطلسى، وإضعاف مؤسسات، مثل الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى، وتعزيز العودة إلى سياسات الدولة القومية ــ بما يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية لموسكو. وزعمت الدعاية أيضا أن ترويج ترامب "للقيم التقليدية" أرسى الأساس لاتفاق مع الكرملين وتشكيل تحالف من القيم المعارضة لأوروبا، والتى تدافع بقوة عن "الليبرالية".

لقد رحبت الدعاية الروسية بمطالبات ترامب ضد دول وأقاليم أخرى قبل توليه منصبه معلنة أن تحدى النظام والقانون الدوليين يفيد روسيا ويخلق الظروف لإعادة تشكيل جماعى للنظام الدولى الحالى (خاصة فى أوروبا). وأشاد الدعاة بالرئيس على وجه الخصوص لبراجماتيته ونهجه العملى فى السياسة، والذى اعتقدوا أنه سيثنيه عن الاستثمار فى "أصول خاسرة" (ضمنيًا: أوكرانيا وأوروبا) ويسهل المحادثات الموضوعية التى كانت موسكو تأمل فى إجرائها.

كما سلطت وسائل الإعلام التابعة للكرملين الضوء على المخاطر المرتبطة بعودة ترامب إلى البيت الأبيض. وأكدت على أنه شريك تفاوضى صعب ومؤمن صادق بـ "المهمة التى أوكلها الله إليه لجعل أمريكا عظيمة"، مما يجعله عرضة لتبنى موقف تفاوضى صارم واتخاذ قرارات مفاجئة وغير متوقعة وغير مواتية لروسيا. وتذكرت أنه هو الذى بادر فى الماضى بتسليم أسلحة "فتاكة" إلى أوكرانيا - وعلى الرغم من أنه ليس كارهًا لروسيا - إلا أنه يمكن التأثير عليه بسهولة من قبل عناصر من دائرته الداخلية المعادية لموسكو من أجل ممارسة الضغط على الكرملين.

وأخيرا، أعتقد البعض أن "الدولة العميقة" فى الولايات المتحدة، التى زعم البعض أن ترامب يحاول اقتلاعها، ستحاول التخلص منه، وأن حياته معرضة للخطر. واعتبر بعض المعلقين أن السياسات الأمريكية ضد روسيا، وخاصة فى مجال الدفاع (على سبيل المثال، صناعة الأسلحة والبرامج العسكرية والاستراتيجية النووية)، طويلة الأمد، ورأوا فى ترامب رجلا لن يتمكن، حتى لو كانت لديه مثل هذه الطموحات، من قلب مثل هذه السياسات ضد روسيا. ونتيجة لذلك، هدد بعض الدعاة، بما فى ذلك فلاديمير سولوفيوف، بتصعيد الحرب وتوقعوا هجوما من جانب الاتحاد الروسى على أوروبا، وخاصة إذا تم نشر بعثة لحفظ السلام فى منطقة العمل العسكرى. وهدأ آخرون من عواطفهم، مشيرين إلى أنه سيكون من الضرورى الانتظار عدة أشهر قبل أن يتخذ الرئيس الجديد خطوات ملموسة، وأن أى تنبؤ مستحيل حاليا.

ثانيا- موسكو ترفع الرهانات من أجل السلام فى أوكرانيا:

إن ردود الفعل على تنصيب ترامب تشكل جزءا من تطور المواقف الروسية تجاه واشنطن بعد الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر/تشرين الثانى، وخاصة فى سياق محادثات السلام المحتملة. وينبغى لنا أن ننظر إلى زيادة الحزم، التى تتألف من خطاب أكثر حدة وخطوات موسكو العدوانية الواضحة، باعتبارها السمة المميزة لهذا الموقف.

على سبيل المثال، فى 19 نوفمبر/تشرين الثانى، نُشر النص المنقح للوثيقة "أساسيات السياسة الحكومية للاتحاد الروسى بشأن الردع النووى([2]).وقد تضمنت أحكامًا بشأن الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية ردًا على العدوان على بيلاروسيا أو هجوم تقليدى ضخم ضد روسيا. وصرح المتحدث باسم الكرملين دميترى بيسكوف بأن السلطات تعتبر استخدام أوكرانيا للصواريخ ذات الحمولات التقليدية التى توفرها القوى النووية الغربية لضرب الأراضى الروسية بمثابة عمل يلبى شروط استخدام مثل هذه الأسلحة([3]). فى الشهر نفسه، هاجمت روسيا أوكرانيا بأسلحة باليستية جديدة وهددت بضربات انتقامية ضد المنشآت العسكرية فى دول الناتو الفردية([4]).

فى 19 ديسمبر/كانون الأول، أعلن بوتن خلال مؤتمره الهاتفى السنوى استعداده لإجراء محادثات سلام مع ترامب "دون شروط مسبقة" و"التنازل" بشأن أوكرانيا([5]). ومع ذلك، أكد أنه من المستحيل التفاوض مع روسيا من موقف قوة، بالنظر إلى قدراتها ونجاحاتها الكبيرة على خط المواجهة. واستشهد، من بين أمور أخرى، بعجز الدول الغربية عن موازنة نمو الإمكانات العسكرية الروسية أو أنظمة الصواريخ المضادة الغربية، بما فى ذلك تلك الموجودة فى ريدزيكوفو فى بولندا، لمكافحة الأسلحة الروسية الجديدة (مثل أوريزنيك). وأكد أن اتفاق السلام يجب أن يستند إلى ما يسمى بترتيبات إسطنبول (ربيع 2022) مع مراعاة "الحقائق الجديدة" (الوضع على خط المواجهة وضم المناطق الأوكرانية). وكرر بوتن وجهة نظره بأن السلطة التنفيذية فى كييف تفتقر إلى الشرعية (فى إشارة إلى التمديد "غير القانونى" لولاية فولوديمير زيلينسكى)، واقترح توقيع اتفاق مع قيادة برلمان كييف (البرلمان الأوكرانى) أو بعد الانتخابات الرئاسية هناك. وفى الوقت نفسه، رفض فكرة وقف إطلاق النار، بحجة أنها لن تؤدى إلا إلى تعزيز المقاومة الأوكرانية، وبدلا من ذلك، دعا إلى السلام مع ضمانات أمنية للاتحاد الروسى.

فى 29 ديسمبر/كانون الأول، صرح لافروف بأن روسيا غير راضية عن المقترحات التى طرحها ترامب ومساعدوه لتسوية الحرب فى أوكرانيا، والتى تضمنت تأجيل عضوية البلاد فى حلف شمال الأطلسى لمدة 20 عامًا ونشر قوات حفظ سلام أوروبية وبريطانية فى منطقة الصراع (فى وقت سابق، فى 29 نوفمبر/تشرين الثانى، رفض المتحدث باسم الكرملين الفكرة الثانية من هذه الأفكار)([6]).

فى 14 يناير، أعلن نيكولاى باتروشيف، مستشار بوتن والأمين السابق لمجلس الأمن الروسى وعضو مؤثر فى النخبة، فى مقابلة أن أوكرانيا قد تتوقف عن الوجود بحلول عام 2025([7]). وأكد أن موسكو لن تناقش البلاد إلا مع واشنطن وليس كييف أو الدول الغربية، مؤكدًا أن الاتحاد الأوروبى غير مخول بتمثيل أعضائه، وكثير منهم -مثل المجر، وسلوفاكيا، والنمسا ورومانيا- يفضلون الاستقرار والعلاقات البراجماتية مع روسيا. واتهم دول البلطيق (باستخدام المصطلح المهين "بريبالتيكا" للإشارة إليهم)، ومولدوفا بالتمييز ضد السكان الناطقين بالروسية، وحذر من أن سياسات كيشيناو المناهضة لروسيا قد تؤدى إلى تفكيك الدولة المولدوفية.

فى 17 يناير/كانون الثانى، وقع بوتن وزعيم إيران مسعود بيشكيان (وهى دولة تعتبرها إدارة ترامب خصمها الرئيسى - إلى جانب الصين) معاهدة بين الدولتين فى موسكو "حول شراكة استراتيجية شاملة"، معلنين أن تعزيز التعاون بشكل أكبر، بما فى ذلك العلاقات العسكرية، بمثابة مظاهرة سياسية ضد الولايات المتحدة([8]).

ثالثا- وصول ترامب ومخاوف الكرملين:

إن الخطاب والإجراءات التى اتخذتها روسيا تعكس زيادة ملحوظة فى ثقتها بنفسها، إلى جانب استمرار حالة عدم اليقين بشأن السياسة الأمريكية فى ظل إدارة ترامب. وتلاحظ موسكو تدهور الوضع على خط المواجهة بالنسبة للجانب الأوكرانى، وتردد متزايد بين العديد من الدول الغربية فى زيادة ــ أو حتى دعم ــ الدعم المالى والعسكرى لكييف، وتوقع التوصل إلى حل سريع للصراع، وهو ما يتقاسمه الرئيس الأمريكى الجديد وفريقه. وهذا يخلق وضعا مواتيا لروسيا.

ويبدو أن الكرملين يفسر خطاب واشنطن حول المخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة باعتباره دليلا على فعالية سياسة الترهيب التى تنتهجها. ذلك أن علامات التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين (وخاصة الأوروبيين)، والتى تفاقمت بسبب إعلانات الموقف الأمريكى الحازم (المطالبات بجرينلاند وبنما، وتهديدات الحروب الجمركية، ومراجعة سياسة الطاقة)، والتصريحات الأيديولوجية المناهضة لليبرالية، تشكل ميزة كبيرة لموسكو. وفى أوروبا، ينظر الكرملين إلى النفوذ المتزايد للقوى الشعبوية التى تميل إليه بشكل إيجابى باعتباره تطورا مواتيا. ورغم أن هدف ترامب الذى أعلنه فى حملته الانتخابية بإنهاء الحرب فى أوكرانيا فى غضون 24 ساعة من تنصيبه كان بعيد المنال، فإن تصريحاته حول استعداده للتعامل بسرعة مع بوتن، إلى جانب اقتراحات حاشيته بالتوصل إلى اتفاق فى غضون المائة يوم المقبلة، تخلق ضغوطا زمنية، مما يمنح موسكو الفرصة لمحاولة إملاء شروط حل الصراع. ويبدو أن تركيز ترامب على أهداف السياسة الداخلية والتوترات السياسية المحتملة الناجمة عنها يحمل فى طياته مزايا محتملة بالنسبة لروسيا.

ولكن المخاوف لا تزال قائمة داخل الكرملين من أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد تفرض، كجزء من سياستها المتمثلة فى الضغط على الاتحاد الروسى، عقوبات أو تعريفات جمركية إضافية (هدد ترامب بذلك صراحة فى 22 يناير/كانون الثانى، على الرغم من أن بيسكوف قلل من أهميتها باعتبارها ليست جديدة)، وخاصة تستهدف قطاع الطاقة الروسى. وهناك أيضا مخاوف من أن ترامب قد يزيد من الدعم العسكرى لأوكرانيا (اعترف بأنه كان يفكر فى ذلك) أو يرفع القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الموردة. ومع ذلك، لا يبدو أن موسكو تعتقد أن مثل هذا المسار سوف يستمر على المدى الطويل. كما أن أى تدابير بعيدة المدى ضد حلفائها بحكم الأمر الواقع، وخاصة إيران (الاقتصادية أو العسكرية)، والصين (الاقتصادية) قد تكون ضارة بمصالح روسيا. ومع ذلك، يمكن للكرملين الاستفادة من الوضع الأخير لحشد دعم إضافى من بكين، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والصين فى شكل ما.

رابعا- تكتيكات موسكو فى مواجهة واشنطن.. محادثات من موقع القوة:

فى هذا السياق، يمكن النظر إلى العدوانية المتزايدة المذكورة آنفا فى خطاب روسيا وأفعالها، فضلا عن تشديد شروط محادثات السلام المحتملة بحكم الأمر الواقع (باستبعاد أوكرانيا منها أو توسيع نطاق أجندتها) باعتبارها استجابة للتغيرات فى الوضع، والتى تفسرها روسيا الاتحادية باعتبارها زيادة فى ضعف الغرب وأعراض أزمة نظامية. وهذا أمر استباقى بطبيعته ــ فالهدف الذى تسعى موسكو إلى تحقيقه هو ردع الولايات المتحدة والغرب عن زيادة الدعم لكييف وممارسة الضغوط عليها.

وتتوقع روسيا أن تبدأ السلطات الأمريكية الجديدة محادثات رسمية مباشرة على أعلى مستوى فى أقرب وقت ممكن، وهو ما يحمل أهمية دعائية بالنسبة لروسيا. وعلاوة على ذلك، فإنه يقوض الجهود الرامية إلى عزل بوتن ويطلق شرارة حرب مزايدات محتملة بين الدول الغربية على الاتصالات مع موسكو. وبذلك، يرسل الكرملين إشارات واضحة مفادها أنه لن يقبل "عرض تسوية" تمليه واشنطن، ويصر على أن المفاوضات (التى تُجرى مع الولايات المتحدة، وليس أوكرانيا أو فى صيغة متعددة الأطراف) يجب أن تأخذ فى الاعتبار الشروط الروسية المتكررة. وفى هذا السياق، تلتزم موسكو إلى حد كبير بقائمة المطالب التى قدمها زعيمها فى 14 يونيو/حزيران 2024([9])، والتى تتلخص فى إضفاء الشرعية على انتهاك سلامة أراضى أوكرانيا، ونزع سلاح أوكرانيا وتجريدها من السيادة، وخلق أدوات للتدخل الروسى، والرفع الكامل للعقوبات الغربية. ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يرقى إلى مستوى الاستسلام الفعلى للدولة الأوكرانية.

وتصر روسيا بشكل متزايد على أن السلام يجب ألا يقتصر على أوكرانيا فحسب، بل يجب أن يشمل أيضًا الأمن الأوروبى والعالمى. والواقع أن بوتن ورفاقه عندما يتحدثون عن الحاجة إلى إزالة "الأسباب الجذرية للأزمة" وإنشاء ضمانات أمنية للاتحاد الروسى، فإنهم يشيرون إلى مزاعم قديمة حول سياسات غربية (خاصة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى) "عدوانية ومعادية لروسيا". وفى هذا السياق، تشير موسكو إلى قائمة مطالبها من ديسمبر/كانون الأول 2021، والتى قدمتها على أنها "مسودة" معاهدات أمنية) مع الولايات المتحدة والدول الأعضاء فى التحالف)([10]). وتركزت هذه المطالب على مراجعة جوهرية للنظام الأمنى ​​الحالى فى القارة، بما فى ذلك الاعتراف بمجال نفوذ روسيا فى منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتى، وإنشاء منطقة عازلة فى أوروبا الوسطى، وعكس العواقب العملية لتوسع حلف شمال الأطلسى شرقا منذ التسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وتقليص  الوجود الأمريكى فى أوروبا. وفى حين يشير الكرملين إلى أن هذه المطالب السابقة غير كافية الآن، فإنه لم يحدد مدى توقعاته الحالية. يشير خطاب بوتن فى يونيو/حزيران 2024، والذى حدد فيه مفهومًا فضفاضًا لـ "الهندسة الأمنية الأوراسية"، إلى نية الولايات المتحدة وروسيا وربما الصين لتقسيم النفوذ داخل أوراسيا([11]).

فى هذه المرحلة، لا يبدو أن موسكو تتوقع تحقيق هذه المطالبات المتطرفة بالكامل، والتى تعتبر غير مقبولة لدى الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية (ناهيك عن أوكرانيا، التى ترفضها موسكو باعتبارها لاعبا ذاتيا). وعلى الرغم من تصريحاتها المتفائلة، فإن الوضع الاقتصادى فى الاتحاد الروسى لا يزال صعبا([12])، ويتفاقم بسبب القيود المتزايدة تدريجيا، والتى فرضتها واشنطن بشكل رئيسى([13])، والتى تولد توترات اجتماعية. كما تواجه روسيا انتكاسات دولية، مثل سقوط نظام بشار الأسد فى سوريا. وعلى الرغم من أن موسكو تتوقع زيادة الضغوط الأمريكية فى الأمد القريب، إلا أنها تعتقد أنها أكثر تصميما من الولايات المتحدة أو الغرب، الذى ترى أنه غير راغب فى تحمل مواجهة مكلفة وطويلة الأمد. وعلى المدى القصير، ترى موسكو فرصا لتحقيق اختراق سياسى لصالحها.

ولكن هذا لا يعنى أن روسيا مستعدة الآن لتجميد الصراع فى أوكرانيا، حتى فى مقابل تنازلات سياسية كبيرة من كييف وواشنطن. ومن عجيب المفارقات أن أى إشارة من الغرب إلى الرغبة فى الحوار أو التسوية أو إنهاء الحرب بسرعة من المرجح أن تدفع الكرملين إلى تشديد موقفه ومضاعفة مطالبه. ولذلك تعتزم روسيا مواصلة الأعمال العدائية عالية الكثافة فى أوكرانيا (كما تشير، على سبيل المثال، القرارات المالية للسلطات)([14])، والسعى إلى توسيع منطقة الاحتلال (ربما حتى خارج الحدود الإدارية للمناطق الأوكرانية التى ضمتها والتى حددتها سابقًا فى مطالبها)، فى حين تجرى فى الوقت نفسه محادثات مع الولايات المتحدة بشروطها الخاصة.

إن مثل هذه التكتيكات تهدف إلى تحقيق فوائد متعددة لموسكو. أولا، إضعاف وتهميش أوكرانيا، فى حين تعزز انعدام الثقة بين كييف والغرب. ثانيا، تسعى إلى تصعيد التوترات بين الدول الأوروبية (وخاصة ألمانيا وفرنسا، ولكن أيضا المملكة المتحدة ودول الجناح الشمالى الشرقى لحلف شمال الأطلسى) وواشنطن. ثالثا، تهدف إلى اختبار صبر ترامب واستعداده لمتابعة "صفقة كبرى" مع روسيا فى حين تثنيه عن الانخراط فى "الصراع الأبدي" فى أوكرانيا فى الأمد البعيد. وفى السيناريو المثالى للكرملين، من شأن هذا أن يؤدى إلى تحول أوكرانيا إلى دولة فاشلة أو خاضعة لسيطرة روسيا، وتفكك حلف شمال الأطلسى بحكم الأمر الواقع، وإضعاف الاتحاد الأوروبى، وتقليص مشاركة الولايات المتحدة فى أوروبا، وأزمة فى العلاقات عبر الأطلسى.

إن هذه التكتيكات قد تتعطل إذا نفذت الإدارة الأمريكية الجديدة سياستها "السلام من خلال القوة"، بما فى ذلك فيما يتصل بالحرب فى أوكرانيا. ومن المحتمل أن يتضمن هذا، من بين أمور أخرى، تشديد العقوبات الأمريكية (والأوروبية على نحو مثالى)، بما فى ذلك العقوبات الثانوية، ضد روسيا، وخاصة تلك التى تستهدف قطاع الطاقة (أساس عائداتها)، ومصادرة احتياطيات البنك المركزى الروسى وتخصيصها لدعم كييف، ورفع القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الغربية، وزيادة إمداداتها إلى كييف. وفى الممارسة العملية، فإن الاستعداد للتصعيد وزيادة التكاليف بشكل كبير بالنسبة لموسكو فقط هو الذى قد يغير حسابات الكرملين ويفرض التنازلات على موسكو. ولكن قبل أن يحدث هذا، من المرجح أن تختبر روسيا عزم خصومها من خلال تصعيد العدوان تجاه أوكرانيا والغرب على أساس مخصص، ربما من خلال الحرب الهجينة أو الاستفزازات المسلحة فى الحالة الأخيرة.

ختاما، كلما ثبت أن الضغوط الأمريكية الرامية إلى التوصل إلى حل دبلوماسى سريع للحرب أصبحت أقوى، كلما تصاعدت المطالب الروسية. وتتجاوز هذه المطالب أوكرانيا ذاتها إلى حد كبير -ذلك أن موسكو تسعى إلى مراجعة جذرية للنظام الأمنى ​​الحالى فى أوروبا وعلى نطاق عالمى. ولا يمكن تغيير هذا النهج إلا من خلال زيادة كبيرة فى تكلفة الصراع بالنسبة للاتحاد الروسى. ولابد أن يكون هنا كزيادة جدية فى الضغوط الاقتصادية على روسيا والدعم العسكرى لكييف، ولكن هذا يحمل فى طياته خطر التصعيد غير المقصود.

فى أعقاب انتخاب ترامب، صعدت روسيا من حدة خطابها وأفعالها تجاه أوكرانيا والغرب، فى حين شددت شروط المحادثات المحتملة لإنهاء الحرب. وهذه هى نتيجة لتقييم الكرملين، الذى يشير إلى تطور إيجابى فى الأساس للوضع بالنسبة له (فى أوكرانيا والدول الغربية، بما فى ذلك الولايات المتحدة)، والذى يُنظَر إليه باعتباره أعراض أزمة نظامية. وفى الوقت نفسه، تسعى روسيا إلى ردع الغرب، وخاصة واشنطن، من خلال التهديد بالتصعيد الرأسى والأفقى، عن زيادة دعمه لكييف وممارسة المزيد من الضغوط على موسكو. ويتمثل الهدف التكتيكى لروسيا فى مواصلة العمل العسكرى ضد أوكرانيا، وتوسيع الأراضى المحتلة، وإجراء محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة على أساس مطالبها المعلنة سابقًا. وتعتزم موسكو أن يؤدى هذا الحوار إلى تعميق انعدام الثقة فى العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى وأوكرانيا، فضلا عن اختبار استعداد ترامب لتقديم تنازلات للكرملين.

الهوامش:

[1]Meeting with permanent members of the Security Council, Administration of the Russian President, 20 January 2025,

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    عمران طه عبدالرحمن عمران

    عمران طه عبدالرحمن عمران

    باحث دكتوراه العلوم السياسية - جامعة القاهرة