محاولات استئناف الصفقة المرفوضة فى ظل تصعيد اليمين ورفض الحوار منذ اللحظات الأولى لتولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وتصريحاته المثيرة للجدل، لم تتوقف عن إثارة التساؤلات. مؤخرًا، تحدث ترامب عما يعرف بـ "صفقة القرن" التى أعلن عنها فى 2020، الهادفة لتوطين الفلسطينيين فى بلاد أخرى. تصريحات ترامب التى تحمل بين طياتها تجاهلًا صارخًا لحقوق الإنسان والأعراف الدولية، ليست سوى امتداد لمحاولاته السابقة لفرض حلول غير واقعية تخدم مصالح طرف واحد فقط من أطراف الصراع العربى-الإسرائيلى. الرئيس الأمريكى يسعى لتحقيق ما عجزت عنه آلة الحرب الإسرائيلية على مدار سنوات طويلة من العدوان على كل الأراضى التى احتلتها فى السابق، وحتى قبل عام ونصف العام، فالاحتلال الإسرائيلى لم يتمكن من فرض الهيمنة الكاملة على الأرض، حتى باستخدام أساليب تصل لـ "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي". قبل خمس سنوات، طرح ترامب "الصفقة" كحل نهائى للصراع، وسوَّق لها على أنها فرصة تاريخية لإقامة الدولة الفلسطينية، لكنها فى الحقيقة محاولة للتصفية. "صفقة ترامب" تضمنت إقامة دولة فلسطينية على 70% من أراضى الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو -فى واقع الأمر- تقليص لمساحة فلسطين الفعلية وتحويلها إلى جزر متناثرة، أى لا دولة، تتخللها مستوطنات إسرائيلية، ويحكمها الاحتلال ويفرض سيطرته الكاملة عليها. والقدس، فقد جاءت خطة ترامب لتكريس الاعتراف بها كعاصمة للاحتلال، وتكون ضواحى القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، وقد ألغت خطة ترامب أهم قضية من قضايا الصراع - حق العودة- واقترح إعادة توطين اللاجئين فى الدولة الفلسطينية التى اقترحها أو يهجَّروا لبلدان أخرى. "الصفقة" التى طرحها ترامب هى فى حقيقة الأمر محاولة لتكريس واقع الاحتلال، ولم تعالج القضايا الأساسية للصراع الدائر، ولم تقدم رؤية حقيقية لدولة فلسطينية ذات سيادة وحقوق. والآن - فى الولاية الثانية لترامب، وبعد مرور خمس سنوات من طرح صفقته- لا يزال أثرها واضحًا على القضية. فالاحتلال دمر ما يقرب من 80% من قطاع غزة، إلا أنه برفض التهجير القسرى يحاول ترامب الدخول من الباب السياسى لتحقيق الأهداف التى فشلت إسرائيل فى تحقيقها بالقوة. وفى أول حديث -رسمى- لترامب حول التهجير، دعا الرئيس الأمريكى سكان قطاع غزة للنزوح لدول مجاورة، مرجعًا دعوته إلى أن القطاع أصبح غير صالح للسكن بعد أكثر من 15 شهرًا من العدوان الإسرائيلى المستمر عليه. التصريحات التى قالها، وهو على متن طائرة متجهة لميامى، أمام العديد من الصحفيين أظهرت تماهى ترامب مع اليمين المتطرف فى تل أبيب. ترامب قال إن خطته تركزت على ما سماه "تنظيف" المنطقة، وإنشاء صفحة بيضاء جديدة، وذلك فى محاولة للتعافى من الدمار الهائل الذى لحق بقطاع غزة نتيجة العدوان الإسرائيلى المستمر. تصريحات الرئيس الأمريكى بدت كأنها مفعمة بالأمل والحياة والتفاؤل لإعادة بناء المنطقة بعد الأزمة رغم التحديات. رؤية الرئيس الأمريكى لم تقتصر على أطروحة سلام طويل الأمد فحسب، وإنما كشفت عن تحركات دبلوماسية منه، وقال إنه تحدث مع عاهل الأردن، الملك عبدالله الثانى بن الحسين، لاستقبال المزيد من الفلسطينيين، كما أنه يعتزم محادثة الرئيس عبدالفتاح السيسي - الذى أكد مرارًا وتكرارًا على أن تصفية القضية الفلسطينية من دون حل عادل، لن يحدث، وفى كل الأحوال لن يحدث على حساب مصر. بخصوص الأمر نفسه، تبدو تصريحات ترامب للصحفيين كأنها تفتح الساحة لإمكانية نجاح رؤية الرئيس الأمريكى لتخفيف معاناة الفلسطينيين، الذى وصف أوضاعهم بالمأساوية والمدمرة، مشددًا على أن الأوضاع الإنسانية هناك وصلت لمستويات مقلقة، فمعظم البنايات مدمرة وكذلك البنية التحتية. ترامب -المطور العقارى السابق- يسوِّق لرؤيته فى تهجير الفلسطينيين، بالتعاون مع الدول العربية، على أنها السبيل الوحيد لتوفير الأمان والسلام والاستقرار للفلسطينيين بعيدًا عما رأوه من دمار، ودَّعم رؤيته بأهمية بناء مساكن جديدة لهم فى مناطق آمنة بعيدًا عن أجواء الحرب والصراع المستمر مع الاحتلال، كحل بديل لتخفيف ما يعانون بسببه. "فوضى حقيقية"، هكذا وصف ترامب الأوضاع المأساوية فى غزة، وقال إن دعوته للتهجير "القسري" خطوة مؤقتة أو ربما طويلة الأمد، وفى الوقت نفسه أظهر ضغوطًا على دول الجوار لاستقبال الفلسطينيين. ترامب قال – ولا تزال الصبغة الإنسانية تطغى على حديثه مع الصحفيين: "يجب أن يحدث شيء ما، غزة مهدمة، وكل شيء هدم"، تصريحات ترامب فى ظاهرها إنسانية، تحمل رؤية غريبة ومثيرة للجدل حول مصير المنطقة وكيف سينفذ هذه الرؤية؟ طرح ترامب لقى ترحيبًا شديدًا من اليمين المتطرف الإسرائيلى، وكشف عن محاولة جديدة لإحياء فكرة التهجير -التى ترفضها مصر والأردن- بشكل قطعى حازم وحاسم. المسئولون المتطرفون فى تل أبيب، رحبوا بخطة ترامب، وعلى رأسهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذى رأى أن "الخطة" ستصبح عملية وقابلة للتنفيذ قريبًا، بالتعاون مع بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال، والمجلس الوزارى المصغر "الكابينيت"، فيما صرح بأنه بعد ما يقرب من 76 عامًا من احتجاز غالبية سكان فلسطين فى ظروف قاسية، فإن فكرة مساعدتهم لبدء حياة جديدة فى مكان آخر "فكرة رائعة". الوزير الإسرائيلى المتطرف اعترض على الحلول السياسية بشأن إقامة دولة فلسطينية، واعتبرها خطرًا على الدولة اليهودية، وستؤدى إلى مزيد من العنف والمعاناة، ودعا لحلول غير تقليدية تسهم فى تحقيق الأمن، وتكون مفتاحًا لحل الصراع. التأييد المتطرف لخطة ورؤية ترامب يعكس تصعيدًا فى الموقف الإسرائيلى تجاه القضية الفلسطينية، ويثير تساؤلًا حول جدوى الحلول التقليدية فى ظل تعنت متطرفى الاحتلال، والسؤال الأكثر واقعية فى ظل هذا الحديث الذى طرحه ترامب هو: ما مدى واقعية هذا الطرح الذى يحمل بصمة اليمين الإسرائيلى المتطرف بدعم من الإدارة الأمريكية الجديدة؟ أفكار ترامب قد تبدو غير واقعية، خاصة أن دول الجوار "مصر والأردن" رفضتا بشكل قاطع هذا الطرح، كما أن الفلسطينيين أنفسهم يرفضونه. الفلسطينيون يتفقون مع مصر والأردن فى أن تهجيرهم "خطًا أحمر"، ولا يمكن تقييم نجاح أو فشل ترامب فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط من دون النظر إلى أن العامل الفلسطينى هو المحدد الأساسى لكل ما هو آت. الشرق الأوسط فى الآونة الأخيرة شهد تصعيدًا كبيرًا وتدميرًا لقطاع غزة، ورغم كل ما يحدث -حتى مع استمرار الهدنة- تبقى الكلمة الأخيرة للفلسطينيين أنفسهم. السلطة الفلسطينية فى رام الله كذلك فى مفترق طرق، إما أن تقبل بالفتات الأمريكى- الإسرائيلى، أو تتخذ موقفًا غير مسبوق للدفاع عن الأرض. والآن، فالخيارات أمام الفلسطينيين "شعبًا وسلطة" شائكة وصعبة، إلا أنهم اللاعب الأكثر تأثيرًا فى المعادلة الصعبة المفروضة على المنطقة، والقادرين على قلب الطاولة حين تفرض عليهم حلولًا غير مرضية. وردًا على تصريحات ترامب، أعربت الفصائل الفلسطينية عن رفضها القاطع لـ "رؤية ترامب"، مؤكدة على أن الفلسطينيين لن يستسلموا لمحاولات التهجير القسرى، خاصة لسكان غزة. رد الفعل كان دعوة لوقف أطروحات واشنطن بشأن التهجير، وطالبت ترامب بالضغط على حلفائه لتسريع عملية إعادة إعمار القطاع المدمر.
الموقف الفلسطينى يأتى فى وقت حساس يتطلب دعمًا حقيقيًا من المجتمع الدولى لتمكين الفلسطينيين، وفى مقدمته إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية، هذا الموقف لا يمثل رفضًا لأطروحة ترامب، بل دعوة للوقوف فى وجه أى محاولة للتهجير، خاصة أن رؤية ترامب تمثل نوعًا من أنواع التعدى على الحق الفلسطينى، ويعكس استمرارية الاحتلال الرامية لتفريغ الأرض من أصحابها الشرعيين. الشعب الفلسطينى موحد ورافض لاقتلاعه من جذوره، أو تقويض حقه التاريخى فى أرضه، فالتهجير القسرى فكرة مرفوضة قانونيًا وأخلاقيًا، لا سيما أن الفكرة فى الأساس تهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها. أما ترامب وتصريحاته، فقد تكون "بالونة اختبار" لتحسس الأمور فى المنطقة، واستمالة اليمين المتطرف فى الولايات المتحدة وتل أبيب، خاصة بعد اشتعال الموقف فى حكومة حليفه بنيامين نتنياهو. استقرار مصر والأردن بالنسبة للولايات المتحدة، أولوية استراتيجية، فالشعوب وحكوماتها رافضة تمام الرفض لأى مخطط يستهدف الأرض، فهذه عقيدة، ولا يمكن لترامب التغافل عنها.