تحليلات

الفرص والتحديات أمام إفريقيا فى جلب استثمارات الاقتصاد الأخضر

طباعة

195 مليار دولار سنويا تدفقات غير مشروعة تفقدها خزائن دول القارة:

تعد القارة الإفريقية ساحة للتنافس بين عدد من القوى الإقليمية والدولية، نظرا لما تتمتع به من أهمية استراتيجية حيث تضم 54 دولة غنية بالموارد الطبيعية والثروات، ويزيد عدد سكانها على المليار نسمة، غالبيتهم من الشباب. وعند النظر إلى تنوع تلك المصادر الطبيعية وثرائها يتسنى فهم أسباب اتساع المنافسة الشرسة بين القوى العالمية لتثبيت أقدامها وتوطيد نفوذها داخل الدول الإفريقية، الأخيرة مصدر لنحو 40% من الذهب العالمى، ونحو 90% من الكروم والبلاتين، كما يوجد بها أكبر الاحتياطيات من الكوبالت، والماس، والبلاتين، واليورانيوم ونحو 8% من الغاز الطبيعى، إضافة لنحو 12% من احتياطيات النفط فى العالم، وأكثر من 30% من احتياطيات العالم من المعادن. كما تمتلك إفريقيا 65% من الأراضى الصالحة للزراعة وغير المزروعة فى العالم، و10% من مصادر المياه العذبة والمتجددة. وتزيد حدة المنافسة فى السنوات الأخيرة فى ضوء مساعى إعادة هندسة وتوزيع النفوذ الدولى داخل إفريقيا مع ما تحمله التوجهات العالمية من فرص وتحديات أمام القارة نتيجة تشجيع الاستثمار فى الاقتصاد الأخضر.

إعادة هندسة النفوذ الدولى فى إفريقيا:

ليس غريبا أن نشهد فى العقود الأخيرة دولا جديدة نسبيا تحاول توطيد نفوذها فى المنطقة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا، واليابان، وتسعى إلى إعادة هندسة وتوزيع النفوذ الدولى فى خارطة إفريقيا من خلال الوجود على كافة الأصعدة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والثقافية، بعد أن سبقتها ولعقود طويلة دول عديدة، مثل بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، والبرتغال، وإيطاليا، وأسبانيا بحكم الإرث الاستعمارى. وفيما بين تلك المرحلتين، كانت إيران تتمدد فى القارة السمراء بقوة خاصة منذ تسعينيات القرن الماضى لتعويض خسائرها الاقتصادية مع الدول الغربية وما تفرضه من شروط وعقوبات، وقد بلغ إجمالى التعاملات التجارية بين إيران وإفريقيا 1.3 مليار دولار فى 2023، منها مليار دولار صادرات إيرانية وفقا لتصريحات رئيس غرفة التجارة المشتركة مسعود برهمن لوكالة مهر للأنباء (11 أغسطس 2024). ولا يقتصر التمدد الإيرانى على الجانب الاقتصادى بل يشمل الجانب الأيديولوجى، والدينى، والثقافى فى محاولة لتصدير نسختها الشيعية من الإسلام للقارة الإفريقية. وتعمل مجموعة من المنظمات الإيرانية على توسيع ما يسمى بقوة إيران الناعمة ونفوذها عبر القارة تحت مظلة "منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية فى إفريقيا"، والتى تضم على سبيل المثال جمعية أهل البيت العالمية، وجامعة المصطفى، والمنتدى العالمى لتقارب الأفكار الإسلامية وغيرها من الجهات المعنية بالتعامل مع تصدير الأنشطة الإيرانية فى الخارج، وفقا لما أشارت إليه دراسة للمنتدى العربى لتحليل السياسات الإيرانية (2020).

الهند أيضا كانت بدورها سباقة إلى إفريقيا تحت مظلة أخرى وهى "دبلوماسية الجنوب العالمي".وقد حققت حجم استثمارات تراكمية تجاوزت 90 مليار دولار عام 2023، وتميزت باستحواذات بليونية لشركات هندية على العديد من الأنشطة الإنتاجية داخل دول القارة، مع حجم تجارة تجاوزت قيمته 100 مليار دولار. وتبدى المقاربة الهندية تجاه إفريقيا تفهما لطبيعة المشكلات التنموية والأمنية، عكس المقاربة الغربية، رغم كونها تواصل العمل مع أبرز مناهضى فكرتها الداعية لاصطفاف الجنوب العالمى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى. ويمكن فهم هذه المفارقة الهندية الظاهرية فى ضوء ما يسمى بالاستثمار بالوكالة، حيث لا يمكن فصل واقع أن هناك 42 دولة إفريقية تأتى كثانى أكبر متلقٍّ لجميع الائتمانات التى تُقدّمها الهند وتمر عبر مراكز أوروبية وأمريكية مهمة قبل وصولها إلى الدول الإفريقية، من ذلك وجود نحو 200 مشروع تنموى اكتملت فى إفريقيا بدعم هندى وإسناد غربى واضح، كما تشير إليه دراسة حديثة لمجلة قراءات إفريقية تحت عنوان: "الهند فى إفريقيا: ثنائية الجنوب العالمى والاستراتيجية الأمريكية" (2024).

نحو علاقة شراكة حقيقية:

فى ضوء ما تعرضت له الدول الإفريقية من أنواع الاستعمار عبر تاريخها بدءًا من العبودية والرق والاتجار فى البشر، مرورًا بالاحتلال الأجنبى لأراضيها ونهب خيراتها من بريطانيا، وفرنسا، والبرتغال، وإيطاليا، وأسبانيا، وصولًا إلى التبعية فى القرار والسيطرة على الموارد والتدخل فى شئونها السياسية، والعسكرية، والاقتصادية حتى اليوم وفقًا للأطماع المتعددة الإقليمية والدولية، لم يعد صناع السياسات الأفارقة راضين أو مستسلمين لهذه العلاقة النمطية بين القوى العظمى ودول القارة السمراء. وأصبح مسئولو الحكومات الإفريقية يعبرون عن رفضهم خلال المؤتمرات الدولية لرؤية تلك الموارد الطبيعية فى بلدانهم تصدر للخارج فى شكلها الخام، أو تُستخْدم على نحو غير مستدام بينما يُفقدُ البعض الآخر من خلال أنشطة غير مشروعة، مما يعنى انخفاض العائدات المتأتية من هذه الموارد بمرور الوقت.

تخسر إفريقيا ما يقدر بنحو 195 مليار دولار سنويا من رأس مالها الطبيعى من خلال التدفقات المالية غير المشروعة، والتعدين غير المشروع، وقطع الأشجار غير المشروع، والاتجار غير المشروع بالأحياء البرية، والصيد غير المنظم، والتدهور البيئى وفقدان التنوع البيولوجى، وفقًا لتقرير التقييم الإقليمى لإفريقيا الوارد فى توقعات البيئة العالمية -6، من إعداد برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

ويطمح صناع السياسات فى إفريقيا إلى بناء علاقات شراكة اقتصادية متنوعة الأطراف يحكمها تبادل المصالح والشراكات، وليس تحقيق مصالح الدول والشركات الأجنبية على حساب الدول الإفريقية وشعوبها التى عانت طويلًا من الاستغلال المفرط وغير المستدام لمواردها مع تفاقم نقص الأغذية وندرة المياه، والأمراض، والصراعات، والهجرة، والفقر، والتى تؤدى جميعها إلى زعزعة استقرارها وضعف اقتصاداتها. لذلك، أصبح صانعو القرار يبحثون على نحو متزايد عن شركاء للاستثمار فى مجال المعادن والتصنيع للعمل على تحسين عائدات مواردهم وتعزيز القيمة المضافة للمعادن إلى ما هو أبعد من الاستخراج، والصهر، والتكرير من خلال إقامة صناعات مختلفة، تستفيد من أحدث التكنولوجيات وأكثرها تطورًا وكذا أفضل طرق التوظيف لتحصل على أعلى العائدات.

فرص واعدة للاستثمار فى الاقتصاد الأخضر:

مع الاهتمام العالمى المتزايد بالاستثمار فى الاقتصاد الأخضر تضاعفت الفرص لإنشاء وتركيز صناعات عالمية قائمة على موارد ذات أهمية بالغة فى الدول الإفريقية. وتعريف الاقتصاد الأخضر وفقا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة هو اقتصاد يؤدِّى إلى تحسين حالة الرفاه البشرى والإنصاف الاجتماعى مع العناية فى الوقت نفسه بالحدّ على نحو ملحوظ من المخاطر البيئية. ويتم تحقيق النمو فى الاقتصاد الأخضر من خلال الاستثمارات العامة والخاصة التى تعتنى بتعزيز كفاءة استخدام الموارد وتخفيض انبعاثات الكربون والنفايات والتلوّث والحفاظ على التنوّع الأحيائى ومنع تدهور النظام الإيكولوجى.

وهذه الاستثمارات تكون موجّهة بدوافع تنامى الطلب فى الأسواق على السلع والخدمات الخضراء، مع تشجيع الابتكارات ونقل التكنولوجيا النظيفة. وقد زاد البنك الإفريقى للتنمية، أحد الأذرع المالية المهمة للقارة السمراء، من مخصصاته لتمويل الاقتصاد الأخضر مع الإدراك المتنامى بأن التكيف مع المناخ أولوية بالنسبة للقارة، فارتفعت المخصصات من 9% عام 2016 إلى 45% عام 2022، وفقا لما جاء فى موقع مجموعة البنك الإفريقى للتنمية (26 أبريل 2023).

وتؤكد دراسة حديثة للمجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية تحت عنوان: "من المناجم إلى الأسواق: كيف يمكن لإفريقيا وأوروبا أن تصبحا شركاء الصناعة الخضراء المفضلين" (24 أبريل 2024)، أن عددا من المشروعات الصناعية الواعدة بصدد الاكتمال حاليا والمعتمدة على اليورانيوم المستخدم فى إنتاج الطاقة النووية، والبلاتين المستخدم فى المجوهرات والتطبيقات الصناعية، والنيكل المستخدم فى الفولاذ المقاوم للصدأ والمغناطيس والعملات المعدنية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن، وخام الألمنيوم والكوبالت المستخدم فى أصباغ الألوان، هذا بالإضافة إلى الصناعات القائمة على الذهب والأحجار الكريمة والألماس ذات القيمة العالية. وتتلاقى هذه المشروعات الطموحة مع التوجهات العالمية المتزايدة لتنويع سلاسل الإمداد الأوروبية بسبب المتغيرات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية فى أوكرانيا والصراع فى الشرق الأوسط.

عودة الولايات المتحدة فى إفريقيا:

لعل هذا ما يفسر أيضا عودة الولايات المتحدة الأمريكية بقوة للمشهد الاقتصادى الإفريقى خلال السنوات الأخيرة، بعد طول غياب، فى محاولة لتعزيز سلاسل توريد المعادن الإفريقية التى تحتاجها مقابل ضخ استثمارات مباشرة لرفع القيمة المضافة للمنتجات المعدنية الإفريقية. وهو ما كشف عنه خوسيه فرنانديز، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للنمو الاقتصادى والطاقة والبيئة، خلال كلمته فى مؤتمر الاستثمار فى المعادن الإفريقية، منتصف فبراير 2024، بمدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا.وجاءت هذه العودة الأمريكية فى وقت يشهد منافسة محتدمة مع الصين وروسيا للسيطرة على حصة كبيرة من استثمارات هذا القطاع فى بلدان القارة السمراء، وإن كانت الدولتان تتبعان استراتيجية مختلفة عن الأمريكيين، حيث تستثمران فى قطاع التعدين الإفريقى مقابل دعم مشروعات التنمية وتطوير البنية التحتية التى تعانى بلدان القارة من نقص شديد بها. لكن مع ذلك، هناك اتهامات موجهة، خاصة للصينيين، بإغراق البلدان الإفريقية بديون ضخمة تُنفق على تشييد البنى الأساسية التى تسهل السيطرة على طرق الوصول إلى الموارد الطبيعية والمعادن الثمينة. وتمثل ثروات إفريقيا المعدنية الحصة الأكبر فى العالم وتبلغ نسبتها 33% من مجمل الثروة المعدنية على الكرة الأرضية. وتمتلك نحو 40 معدنًا مهمًا لمستقبل الطاقة النظيفة والصناعات الصديقة للبيئة، مثل السيارات الكهربائية وأجهزة الكمبيوتر والرقائق.

ومنذ ديسمبر 2022، شرعت الولايات المتحدة الأمريكية فى اتباع نهج استراتيجى مختلف عن الماضى، فى محاولة لتحسين صورتها أيضا، من خلال عقد اتفاقيات شراكة واستثمارات طويلة الأمد فى مجال التعدين مع عدة دول إفريقية، منها عقد مع كونغو الديمقراطية وزامبيا لبناء مصنع مشترك لمعالجة المعادن التى تؤدى إلى تطوير سلسلة إمدادات صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية، عبر تطوير سلسلة توريد بطاريات كهربائية تفتح الباب أمام تحقيق قيمة مضافة للبلدين الإفريقيين.ومما يعزز فرص نجاح هذه الخطط فى بلدان القارة طبيعة التركيبة السكانية التى يغلب عليها الشباب، حيث هناك نحو 640 مليون شاب وشابة يعيشون فى دول القارة، وهى ميزة لا تتوفر فى القارات العجوز مثل أوروبا.

قد تكون هذه المساعى بدايات حقيقية للحكومات الإفريقية بعد تكرار فشلها خلال عقود من الاستقلال فى التخلص من تبعات المستعمر الاقتصادية وشروط المؤسسات المالية الدولية المجحفة، وفى مواجهة التحديات التنموية والمناخية لوضع أسس وطنية تضع مصلحة شعوبها وتنميتها فى مقدمة الأولويات.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية