حزب الله أو كما يعرف بـ "المقاومة الإسلامية" فى لبنان، هو كيان سياسى شيعى مسلح، تأسس فى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين على يد رجال دين وسط الحرب الأهلية اللبنانية التى دامت 15 عامًا.
وقد اكتسب وجوده أهمية بمناهضة النفوذ الغربى فى الشرق الأوسط، وبتصديه للقوات الإسرائيلية، خاصة بعد اجتياح بيروت عام 1982.
وعززت الحرب مكانته السياسية والعسكرية بإجباره للجيش الإسرائيلى على الانسحاب من الجنوب اللبنانى فى مايو 2000، وإلحاقه تهديدًا فادحًا فى يوليو 2006.
وانتقل الحزب من العمل كمجموعة مسلحة تقاتل ضد إسرائيل إلى حزب سياسى يشكل جزءًا من المشهد السياسى فى لبنان، وينشط جناحه السياسى والعسكرى داخل البلاد ويشارك فى الانتخابات اللبنانية، وكان يسيطر بقيادة أمينه العام الراحل حسن نصر الله على جزء كبير من المناطق ذات الأغلبية الشيعية، بما فى ذلك أجزاء من العاصمة بيروت.
النشأة والتأسيس:
ولد حزب الله الشيعى فى لبنان من رحم "حركة أمل" الشيعية اللبنانية عام 1982، وبمباركة من إيران، ودخل معترك السياسة عام 1985، فأطلق على نفسه فى البداية اسم "حركة أمل الشيعية"، ثم عُرف بـ "أمل الإسلامية" رغبة منه فى توسيع نطاقه ليشمل الأمة الإسلامية.ويشير الحزب فى أدبياته إلى التزامه بنظرية ولاية الفقيه التى وضع أساسها آية الله الخمينى بعد انتصار الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979.وتعود نشأة حزب الله إلى بداية ثمانينيات القرن الماضى حين خلف الاجتياح الإسرائيلى للأراضى اللبنانية فى يونيو 1982 ظهور مجموعة من الشباب المسلم ينتمون لبعض اللجان الإسلامية "ولحركة أمل" بهدف مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بالتعاون مع المنظمات الفلسطينية والجيش السوري.
فى تلك الفترة، كانت إسرائيل تهدف إلى القضاء على الفصائل الفلسطينية المسلحة التى كانت تتخذ من جنوب لبنان قاعدة لعملياتها ضد إسرائيل، لكن هذا الاجتياح أدى إلى تصاعد مشاعر العداء بين السكان المحليين فى جنوب لبنان، وخاصة الطائفة الشيعية، التى شعرت بالإقصاء والتهميش السياسي. ونشب خلاف داخل هذه الحركة، فانشقت على إثره مجموعة من قيادتها التى كان يرأسها نبيه بري، وسمت نفسها فيما بعد بـ "حركة أمل الإسلامية" بقيادة حسين الموسوي.وفى 16 فبراير 1985، وتزامنًا مع بدء انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، أعلن إبراهيم أمين السيد، الناطق الرسمى باسم حزب الله (انتُخب لاحقا نائبا عن الحزب عام 1992 وتولى رئاسة كتلة الوفاء للمقاومة، وأصبح رئيسًا للمجلس السياسى فى الحزب)، خلال مؤتمر صحافى فى حسينية الشياح ضواحى بيروت الجنوبية عن وثيقة الحزب السياسية الأولى باسم "الرسالة المفتوحة".
وشكل هذا الإعلان البداية العلنية لحزب الله اللبناني، فيما تضمنت الرسالة المفتوحة أهم المبادئ التى يؤمن بها، وجاءت كالآتي:"نحن فى لبنان لسنا حزبًا تنظيميًا مغلقًا ولسنا إطارًا سياسيًا ضيقًا، بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين فى أنحاء العالم برباط عقائدى وسياسى متين هو الإسلام. وإن الحد الأدنى الذى يمكن أن نقبل به على طريق تحقيق هذا الطموح هو إنقاذ لبنان من التبعية للغرب أو للشرق، وطرد الاحتلال الصهيونى من أراضيه نهائيًا. واعتماد نظام يقرره الشعب بمحض اختياراته وحريته".
الفكر والأيديولوجيا:
كان لأتباع آية الله روح الله الخمينى مؤسس "الجمهورية الإسلامية" وأول مرشد لها، اليد الكبرى فى تشكيل حزب الله أوائل الثمانينيات من أجل نشر فكر الثورة الإيرانية، وهو بذلك يتبع الأيديولوجية الشيعية التى ترتكز على نظرية "ولاية الفقيه"، التى وضعها الخميني.
وكشف حزب الله عن هذا التوجه الأيديولوجى فى رسالته المفتوحة عام 1985، (الوثيقة التأسيسية للحزب) إذ أعلن طاعته "لقائد واحد حكيم وعادل"، وأكد أنه استمرار للثورة الإيرانية.
واعتبر الحزب آنذاك نفسه "كيانًا إسلاميًا شيعيًا عابرًا للحدود الوطنية"، لا "حزباً منظمًا أو مغلقًا فى لبنان"، وهو ما يعنى بحسب أمينه العام الراحل حسن نصر الله، أن "القيادة والتوجه والتفويض وقرارات الحرب والسلم وغيرها بيد الولى الفقيه".
وفى أوائل التسعينيات من القرن العشرين بدأ حزب الله عملية تحديث الرسالة المفتوحة، التى بلغت ذروتها بإصدار الوثيقة السياسية لعام 2009، لكن قيادة الحزب شددت طوال الوقت على ديمومة الرسالة ومبادئها، ولا سيما التمسك بولاية الفقيه وعدم الاستغناء عنها.
وفى عام 1994، قال حسن نصر الله إن التحديث "سيأخذ بعين الاعتبار التغييرات التى حدثت فى السنوات السابقة"، لكنه لن يشكل أى تغيير فى عقائد الحزب وتوجهاته.
وحين قرر الحزب رسميًا الموافقة على إعادة صياغة الرسالة خلال اجتماعه السادس عام 2001، أكد نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم فى لقاء صحفى أن مبادئ الحزب "ستظل كما هى لأنها فى قلب حركتنا".
وعندما كشف حسن نصر الله عن الوثيقة السياسية عام 2009، لم يكن فيها أى ذكر للولاء لإيران أو ولاية الفقيه، على عكس ما ورد فى الرسالة المفتوحة. لكن نصر الله ظل يبدد فكرة ابتعاد حزب الله عن توجهاته الأيديولوجية السابقة.
وكرر نصر الله ما كان يقوله الحزب فى السنوات ما بين 1985 و2009، وقال إن التغييرات فى الوثيقة الجديدة لم تؤثر على "عقيدة أو أيديولوجية أو فكر" الحزب، مظهرًا تشبث الحزب بولاية الفقيه، باعتبارها "موقف سياسى لا يقبل المراجعة".
وفى أوائل عام 2016، أكد قاسم مرة أخرى على هذه النقطة، واصفًا الرسالة المفتوحة بأنها "وثيقة دائمة ومستمرة"، وأن الوثيقة السياسية لعام 2009 تعديلات "بسيطة" ليس لها أى تأثير على جوهر أو أيديولوجية الحزب وفكره.
وانشغل حزب الله منذ تأسيسه بمصير ومستقبل لبنان، وأعلن أنه "يعمل مع بقية القوى السياسية اللبنانية على إقامة مجتمع أكثر عدالة وحرية". وظل يرفع شعارات "الالتزام بالوحدة الوطنية فى لبنان" و"الدعوة إلى رفض الوجود الأجنبي" فيه، كما اهتم بالعديد من القضايا الكبرى أهمها القضية الفلسطينية.
أما عن العلاقة بين إيران وحزب الله، فتضطلع إيران بدور محورى فى دعم حزب الله، ليس فقط بوصفه حركة مقاومة ضد إسرائيل، ولكن بوصفه وكيلًا رئيسيًا فى استراتيجيتها لتوسيع نفوذها فى المنطقة.
تستفيد إيران من وجود حزب الله بوصفه جزءًا من “محور المقاومة”، الذى يضم أيضاً سوريا، وحركات مسلحة أخرى، مثل حماس. هدف هذا المحور هو التصدى للنفوذ الإسرائيلى والأمريكى فى المنطقة، دون الدخول فى مواجهة مباشرة؛ مما يضع إسرائيل فى حالة دائمة من التوتر والاستعداد، كما أنها تسعى من خلاله إلى تعزيز وجودها الإقليمي.
إضافة إلى أن الحزب، وكما سبق أن أشرنا، يتبنى العقيدة الإيرانية فى "ولاية الفقيه"؛ مما يجعله مرتبطاً أيديولوجياً وسياسياً بنظام الحكم فى إيران. وقد ساعدت هذه الروابط الأيديولوجية العميقة فى تعزيز العلاقات بين الحزب وطهران، التى تستفيد من الحزب كورقة ضغط إقليمية فى مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما فى الشرق الأوسط.
فمنذ تأسيسه فى أوائل الثمانينيات، قدمت إيران الدعم للحزب ماليًا، وعسكريًا، ولوجيستيًا مما مثل عاملًا حاسمًا فى صعوده وتطوره بوصفه قوة إقليمية بارزة. هذا الدعم ينبع من أهداف إيران الاستراتيجية فى تعزيز نفوذها الإقليمي، ومواجهة الهيمنة الإسرائيلية فى المنطقة. من خلال ذراعها العسكرية "فيلق القدس"، التابع للحرس الثورى الإيراني، فقد وفرت طهران التدريب العسكرى والأسلحة المتطورة لحزب الله، بالإضافة إلى مساعدات مالية سخية ساعدت على بناء قدراته العسكرية، والبنية التحتية.
وهذا الدعم الإيرانى أسهم فى تعزيز قدرات الحزب العسكرية؛ ومكنه من الوقوف فى وجه إسرائيل فى حرب 2006، ومواصلة تطوير قدراته الصاروخية. كما سمح للحزب بالتحول إلى لاعب رئيسى ليس فى لبنان فحسب؛ ولكن فى سياسات الشرق الأوسط أيضًا.
الهيكلة الداخلية:
يعتبر منصب الأمين العام هو رأس الهيكل التنظيمى للحزب، ويتمتع بصلاحيات تنظيمية واسعة جدًا. ويشرف على مجلس الشورى المكون من سبعة أعضاء ومجالسه الفرعية الخمسة وهي:(المجلس السياسي-المجلس الجهادي-مجلس العمل النيابي- المجلس التنفيذي- المجلس القضائي). وعلى الرغم من عامل السرية الذى يحرص عليه الحزب فى أغلب نشاطاته، إلا أن ذلك لم يمنعه من الإعلان عن وجود بعض الهياكل التنظيمية التى تنظم عمل الحزب، ومنها على سبيل المثال:(الهيئة القيادية- المجلس السياسي-المجلس التخطيطي- كتلة النواب- المجموعات التنفيذية- الهيئات الاستشارية).
العضوية: يتكون حزب الله من عشرات الآلاف من الأعضاء، حسب ما قدرته وزارة الخارجية الأمريكية، ويُتخذ القرار داخل هيئات الحزب بأغلبية الأصوات، ويعتبر مجلس الشورى أعلى هيئة تنظيمية داخله، يرأسه الأمين العام، ويتكون من 7 أعضاء يتولى كل منهم قطاعا خاصا من قطاعات الحزب.
ويتم انتخاب أعضاء مجلس الشورى من هيئة ناخبة تضم المئات من الأعضاء تسمى "المؤتمر العام"، وهؤلاء منتخبون بدورهم من المؤتمرات التمهيدية التى تعقد فى كل هيئات ومؤسسات الحزب.وتقوم شروط الانضمام إلى حزب الله أساسًا على:الالتزام بأركان الإسلام الخمسة ومفهومى الإيمان والإحسان، وعلى كل من يرغب فى الانضمام أن يكون عضوًا عاملًا، يحول مبادئ الحزب وتعاليمه إلى سلوك عملى يستفيد منه عامة الناس.
وتناوب على قيادة حزب الله اللبنانى منذ تأسيسه سنة 1982 وحتى سنة 2023، ثلاثة أمناء عامين، وهم:(صبحى الطفيلي- عباس الموسوي- حسن نصر الله).
أهداف إسرائيل من حملتها فى لبنان:
بعد 11 شهرًا من عملية “السيوف الحديدية”، وبعد تأكد إسرائيل من أن "حماس" باتت فى أضعف حالاتها منذ نشأتها، وفى ظل تردد حزب الله وإيران فى الرد على تل أبيب، كما هددا مرارًا، بدأت إسرائيل نهجًا جديدًا؛ إذ قررت ممارسة الضغط العسكرى الكثيف على حزب الله؛ لتنهى بذلك استراتيجية "ضربات الاستنزاف المتبادلة" التى ظلت الديناميكية الحاكمة لقواعد الاشتباك هناك منذ 8 أكتوبر 2023، تمهيدًا لخوض مواجهة مفتوحة؛ من أجل تغيير المعادلة فى مواجهة الحزب.
وفيما يلى الخطوات التى اتخذتها إسرائيل منذ 17 سبتمبر:
أولًا- غيرت الحكومة الإسرائيلية يوم 17 سبتمبر هدف الحرب على لبنان من "حراسة الشمال"، كجبهة ثانوية، إلى هدف إعادة سكان الشمال إلى منازلهم. وكان هذا إجراءً حكوميًا لجعل العمليات العسكرية والاستخباراتية الوشيكة التى ينفذها الجيش والموساد فى لبنان جزءًا من الحرب، وتخصيص الموارد، وفقًا لذلك.
ثانيًا- بدأت إسرائيل حملة ضد قادة حزب الله وكبار مقاتليه، وكانت عملية نسف أجهزة “النداء الآلى واللاسلكي” بين يدى الآلاف من قيادات وعناصر حزب الله، يومى 17 و18 سبتمبر، هى العملية النوعية الكبرى والفريدة من نوعها، التى حرمت الحزب من جهود الآلاف من عناصره المدربة، بعد إصابة ما لا يقل عن ألفين من عناصره المدربة بعجز كلي؛ نتيجة الانفجارات.
ثالثًا- شنت إسرائيل ضربة نوعية فى بيروت فى 20 سبتمبر 2024، عن طريق تفجير أجهزة الاتصال "البيجر" من نوعICOM IC-V82 VHF والتى أدت إلى وقوع 9 قتلى وأكثر من 300 إصـابة لعناصر من قوات الرضوان التى تعتبر قوات النخبة فى الحزب.بالإضافة إلى مقتل نحو 18 من قيادات الصفين الأول والثاني، السياسية والعسكرية للحزب، وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، فى عمليات استهداف دقيقة، تشير إلى اتساع حجم وعمق الاختراقات الإسرائيلية للحزب وكوادره.
رابعًا- بدأت إسرائيل حملة قصف جوى مكثفة استهدفت مخزونات ومستودعات الأسلحة والذخيرة لدى حزب الله، ومنصات إطلاق الصواريخ والقذائف. بهدف تقليص مخزون الحزب من الصواريخ والقذائف بشكل منهجى لمنع حزب الله من إغراق القبة الحديدية الإسرائيلية بوابل أكبر كثيرًا من الصواريخ والقذائف.
لا شك فى أن الضربات التى وُجهت ضد حزب الله بما فيها حادث اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، وما تلا ذلك من الغزو البرى للبنان مثلت تهديدًا غير مسبوق يرقى لأن يكون “وجوديًا” للحزب ستكون لها تداعياتها على مصيره، ومستقبل ومآلات مواجهاته المسلحة مع إسرائيل، وربما أيضا علاقته بإيران والمحور الشيعى الذى تقوده.
وهو ما عدته إسرائيل نجاحًا تكتيكيًا سريعًا فى لبنان، وبما لا يُقاس بحملتها فى قطاع غزة، التى استغرقت أكثر من 11 شهرًا، وأودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء فى قطاع غزة، إلى أن وصلت إلى محصلة يمكن وصفها بأنها أضعفت – وليس أنهت – قدرات “حماس". أما فى لبنان، فقد تمكنت، خلال فترة وجيزة نسبيًا، من القضاء على معظم قيادات الصف الأول فى حزب الله على المستويين السياسى والعسكري. ولربما يتحول تكتيك الاستهداف المركز إلى نصر استراتيجي، فى حال نجحت تل أبيب فى تقويض قدرات الحزب وإضعافه وتحييد قدراته، إلى المستوى الذى لا يشكل فيه تهديدًا حقيقيًا لشمال إسرائيل.
إن هذا الاختراق الأمنى العامودى والأفقى للحزب ووصول إسرائيل إلى هذا الكم الكبير من المعلومات والأهداف فتح المجال أمام إسرائيل للوصول إلى أهداف حساسة جدًا، وأصاب حزب الله بالصدمة؛ إذ لم ينخرط الحزب حتى الآن فى ردود عسكرية تكافئ ضراوة الحملة الإسرائيلية.
الموقف الإيراني:
قبل بضعة أيام من العملية فى حارة حريك بالضاحية الجنوبية، التى أسفرت عن مصرع حسن نصر الله وعدد آخر من قادة الحزب، ناشد حزب الله النظام الإيرانى القيام بعمل عسكرى مباشر ضد إسرائيل. ومع ذلك لم تستجب طهران للطلب اعتقادًا منها أن إسرائيل لا تستطيع إنزال الهزيمة الكاملة بحزب الله، وأنها ستُستدرج إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
فى الوقت نفسه، وعلى الرغم من أنه كان بإمكان إيران الرد على العمليات الإسرائيلية، التى طالت حتى قلب العاصمة الإيرانية طهران، بطرق عديدة، فإن التردد وبطء الاستجابات منحا تل أبيب الفرصة لضرب أكبر عدد ممكن من الأهداف، وتهديد حزب الله وجوديًا، قبل أن تقرر الجمهورية الإسلامية ومحورها شكل وحجم الرد المناسبين.
ويبدو أن إحجام طهران عن الاستجابة للتحديات الإسرائيلية مرتبط باستراتيجيتها الجيوسياسية الأوسع نطاقًا. فإيران منخرطة حاليًا فى جهود دبلوماسية مع الغرب، خاصة فيما يتصل ببرنامجها النووي، والتدخل العسكرى المباشر فى لبنان سيخلط الأوراق الإيرانية تمامًا فى هذا الملف.
انعكاسات التوغل البرى الإسرائيلى على الساحة السياسية اللبنانية:
بعكس ما يتوقع البعض من إمكانية عودة دور الدولة اللبنانية والجيش لسد الفراغ الناتج عن ضعف حزب الله، فإنه من الممكن أن تعود الأوضاع فى لبنان إلى حالة الحرب الأهلية والفتنة الطائفية خصوصًا مع تدخل أطراف إقليمية ودولية متعددة فى لبنان، وتساوى مستوى القوة لدى الأحزاب والطوائف اللبنانية، ومحاولة إعادة تقاسم الدولة بين الطوائف من جديد والتى لا يمكن أن تتم بطريقة سلسة وسلمية، خصوصًا أن الحزب فى حال تعرضه لضربات قوية سيتحول من قوة عسكرية منظمة إلى قوة أمنية تعمل فى الخفاء لتنفيذ الأجندة والمصالح الإيرانية بطريقة مختلفة، مما سيدخل لبنان فى مزيد من الفوضى والأزمات العابرة للحدود مثل الإرهاب واللجوء.
السيناريوهات المحتملة لمواجهة الحزب مع إسرائيل:
السيناريو الأول- تكثيف إسرائيل الضغط العسكرى على حزب الله :
هو السيناريو المتوقع، ويتأسس على مدركات لدى تل أبيب، مفادها أن وضع حزب الله الحالى الضعيف والمتصدع يوفر لها فرصة لتوجيه مزيد من الضربات؛ من أجل فرض المزيد من تدهور القدرات الاستراتيجية للحزب. وبعد أن تتأكد إسرائيل من تحطيم القدرات الاستراتيجية لحزب الله تمامًا، يمكنها فى هذه الحالة أن تضع استراتيجية خروج منسقة مع الولايات المتحدة لإنهاء الصراع فى الشمال، منفصلة عن المفاوضات الجارية بشأن الرهائن الإسرائيليين فى غزة، على أن يظل حزب الله موجودًا كقوة رئيسية فى السياسة اللبنانية، ويعود "السلام الهش" مجددًا كما حدث بعد حرب إسرائيل وحزب الله فى عام 2006.
وهذه هى الخطة الإسرائيلية المحتملة لما بعد الحرب. ويراهن نتنياهو على أنها أهم ورقة قد تؤمن له فرصة إعادة انتخابه مجددًا، وتأمين مستقبله السياسي.
السيناريو الثاني- نجاح حزب الله فى “اختبار نقل القيادة” ومفاقمة الحالة الأمنية داخل إسرائيل:
يتأسس هذا السيناريو على صعود شخصية قيادية قوية إلى موقع قيادة الحزب، بما يمثل نقلة مهمة فى تعافى الحزب وإنهاء تردده فى توجيه ضربات كثيفة ومركزة ضد أهداف استراتيجية إسرائيلية، واستخدام الحزب قدراته العسكرية الاستراتيجية كالصواريخ الباليستية لضرب العمق الإسرائيلي، ومن ثم مفاقمة الحالة الأمنية داخل إسرائيل.
وهو سيناريو ضعيف لأن الحزب قد يستغرق بعض الوقت لإعادة ترتيب صفوفه وإجراء تحقيقات داخلية؛ لمعالجة الاختراقات عن توجيه مزيد من الضربات ضد إسرائيل.
السيناريو الثالث- دفع إيران باتجاه دخول الميليشيات التابعة لها فى سوريا إلى داخل لبنان:
هو سيناريو ضعيف أيضًا، ويفترض قيام طهران بالدفاع عن حزب الله بشكل غير مباشر، من خلال عدم الاكتفاء بإرسال مستشارين من الحرس الثوري؛ لرأب الصدوع التى حدثت فى بنية حزب الله القيادية والعملياتية، والدفع باتجاه دخول نحو 40 ألفًا من عناصر الميليشيات التابعة لها فى سوريا إلى الداخل اللبنانى لمساندة حزب الله.
تستند ممكنات الدفع بهذا السيناريو إلى المصالح الاستراتيجية لإيران، ومخاوفها من التداعيات الاستراتيجية للتراجع المحتمل فى نفوذ حزب الله؛ نتيجة الحملة الإسرائيلية الراهنة، على النحو الذى يضطر طهران إلى إعادة تقييم استراتيجيتها الإقليمية والبحث عن وسائل للحفاظ على نفوذها؛ ذلك أن التراجع المحتمل لحزب الله من شأنه أن يخلف عواقب بعيدة المدى بالنسبة لإيران. بل إن إضعاف حزب الله بشكل كبير من شأنه أن يشكل انتكاسة استراتيجية كبرى لطموحات طهران الإقليمية، وكذلك من شأنه أن يحرمها من شريكها الأكثر موثوقية فى “محور المقاومة” ضد إسرائيل. فضلًا عن ذلك، فإن هذا من شأنه أن يضعف قدرة إيران على فرض قوتها فى بلاد الشام، والحفاظ على الضغط على الحدود الشمالية لإسرائيل.
لكن يظل هذا السيناريو مرهونًا بوصول الحزب إلى مرحلة من الضعف والانكشاف الشديدين، بحيث لا يجد مناصًا من اللجوء إلى العناصر الخارجية لتأمين بقائه، مع ما يحمله هذا من مخاطر على الحزب ووضعه فى الداخل اللبناني، وإمكانية حدوث فوضى أو اضطرابات شديدة، على أثر ذلك فى داخل لبنان.
ولا شك فى أن مواقف دول كبرى لديها مصالح فى لبنان، مثل فرنسا، بالإضافة إلى الحصار الذى تفرضه إسرائيل الآن على الحدود اللبنانية، ستشكل قيودًا أمام إمكانية تحقيق مثل هذا السيناريو البالغ الخطورة على مستقبل لبنان واستقراره.