أقدمت إسرائيل في الثانية فجر اليوم على ارتكاب جريمة اغتيال سياسي جديدة بحق إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وهي جريمة سياسية تخالف كل أحكام القانون الدولي ويزيد من تعقيدها أنها وقعت في قلب العاصمة الإيرانية "طهران" التي كان يزورها لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد وأعقب ذلك بلقاء مع خامنئي، وتمت الجريمة باستخدام صاروخ موجه استهدف البناية السكنية الخاصة بالمقاتلين القدماء التي خصصت لإقامة هنية.
ويُعد إسماعيل هنية ثالث شخصية تتولى قيادة حركة حماس (رئاسة المكتب السياسي) بعد موسى أبو مرزوق وخالد مشعل.
وكانت إسرائيل قد سبق لها أن اغتالت في 2 يناير من العام الحالي، نائب رئيس حركة حماس وقائد الحركة في الضفة الغربية صالح العاروري، بعد استهدف طائرة مسيرة لمكاتب الحركة في الضاحية الجنوبية في بيروت، كما أنها قامت في 13 يوليو الجاري بقتل العشرات وإصابة آخرين في قصف جوي إسرائيلي مكثف طال مناطق خيام النازحين في منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، فيما وصفه الفلسطينيون بمجزرة النواصي، تلك التي ادّعت إسرائيل أنها منطقة إنسانية آمنة.
وزعمت إسرائيل حينها أن الغارة الإسرائيلية على مواصي خان يونس أصابت محمد الضيف، القائد العام لكتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، ونائبه رافع سلامة، وأوضح رئيس وزراء إسرائيل حينها أنه لا "يعلم مصير الضيف"، فيما أكدت إسرائيل لاحقا مقتل سلامة، ونفى قياديون في حماس تعرض الضيف لأي أذى أو وجود قيادات عسكرية في منطقة الاستهداف.
وتأتي هذه التطورات الخطيرة بعد أقل من ١٢ ساعة من إعلان الجيش الإسرائيلي قتل القيادي في "حزب الله" الذي وجهت له إسرائيل والولايات المتحدة المسئولية عن حادث "مجدل شمس" في الضاحية الجنوبية ببيروت، فيما لم يصدر أي تصريح رسمي من حزب الله اللبناني.
نجد أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاجاري قد أوضح أن فؤاد شكر كان مسؤولا عن إدارة الجبهة الجنوبية منذ الثامن من أكتوبر، مشيرًا إلى أن شُكر المعروف باسم الحاج محسن هو "اليد اليمنى للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله"، مضيفًا أنه قُتل "بناء على معلومات استخباراتية".
ويذكر في السياق ذاته أن إسرائيل قد اغتالت في 22 مارس 2004 الشيخ أحمد ياسين أحد أهم مؤسسي الحركة في هجوم صاروخي شنته الطائرات الحربية الإسرائيلية في غزة، وذلك بعد فشل استهدافه الأول والذي كان يصاحبه فيه إسماعيل هنية بعد مغادرتهما المبنى الذي كانا متواجدين به عقب سماع صوت الطائرات الإسرائيلية، ليتولى بعدها عبد العزيز الرنتيسي قيادة الحركة، ويتعرض هو أيضا بعد أقل من شهر من توليه هذا المنصب للاغتيال على يد إسرائيل بإطلاق صاروخ على سيارته في مدينة غزة.
ونجد أن الحديث عن "سياسة الاغتيالات" الإسرائيلية قد عاد إلى الواجهة من جديد، مع قيام إسرائيل باغتيال قادة عسكريين فلسطينيين عقب اندلاع حرب غزة الخامسة في الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ على خلفية أحداث اليوم السابق له. والسياسة الإجرامية التي تتبعها إسرائيل باغتيال القادة العسكريين التابعين للفصائل الفلسطينية وغيرهم، ليست شيئًا جديدًا، إذ أنها متّبعة منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948. وهو ما لخصه نتنياهو مؤخرًا من أن "قتل قيادات حركة حماس يقربنا -وفقًا للسردية الإسرائيلية- من تحقيق أهدافنا، وتصفية قيادات الحركة والتنظيمات المتعاونة معها والتي تستهدف أمن إسرائيل، مما يدعم تحقيق كل أهداف الحرب وأهداف إسرائيل تجاه جهات أخرى منها إيران".
وتُخلف هذه الجريمة السياسية العديد من الدلالات:
1. نسف الجهود الحثيثة التي تبذلها الدولة المصرية -وفقًا للسردية المصرية-، والتي تستهدف وقف الآلة العسكرية وجرائم حرب الإبادة التي تنتهجها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وأرضه المقدسة، فإسرائيل توجه بهذه الجريمة رسالة للعالم بأنها ماضية في بغيها وغطرستها غير مبالية بأحكام القانون الدولي، وأنها لن توقف الآلة العسكرية التي لا ترى لها بديلًا وفقًا لرؤيتها العنصرية آلية لتسوية الصراع.
2. خطورة التأثير على مواقف الوسطاء الإقليميين والدوليين وإجبارهم على التوقف عن جهودهم الحثيثة للوصول لحل سياسي، يساعد على تبريد الأرض وسط مخاوف مستمرة - لطالما حذرت منها القيادة المصرية - من اتساع نطاق العمليات، خاصة بعد هذا التبجح والغطرسة من قبل إسرائيل في استهداف قيادات تناصبهم العداء في دول أخرى، ما يمثل إهدارًا مستمرًا دون رادع لسيادة هذه الدول سواء في لبنان وما نتج عن ذلك من إشعال لمواجهات محدودة بين إسرائيل وإيران، فما بالنا والجريمة هذه المرة في قلب العاصمة الإيرانية "طهران"، التي سارع المجلس الأعلى للأمن القومي بها للاجتماع للتباحث في الرد بحضور قائد فيلق القدس. الأمر الذي يسمح بتأجيج الأوضاع إقليميًا وينبئ بمزيد من التعاون بين إيران والأذرع المتعاونة معها، ما يقوض الأمن والاستقرار الإقليميين، ويدمر كل فرص التعاون، ويحول المنطقة بالكامل لتكون أرضًا مفتوحة للصراعات والحروب، التي قد تتسع دائرتها لتتجاوز الإقليم، في ظل التحالفات والمصالح المتقاطعة أحيانًا والمتشابكة كثيرًا لقوى دولية صاعدة كالصين وروسيا.
3. تصعيد خطير للوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة يزيده اشتعالًا تصريحات خرقاء لعدد من السياسيين الإسرائيليين على رأسهم وزير التراث الإسرائيلي وعدد من القيادات الإسرائيلية، التي تتصور أنها تنتصر وتفرض الأمر الواقع دون مراعاة لأثر ذلك على الداخل الفلسطيني الذي من المؤكد ستساهم هذه الجريمة في توحيده وإشعال الغضب بداخله بما يهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة. ولعل ذلك ما عكسته التصريحات الصادرة من حركة حماس أو من الرئاسة الفلسطينية، فعلى صعيد حركة حماس نجد أن القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق يصرح بأن "اغتيال هنية عمل جبان وتصعيد لن يمر سدى" وفق ما نقله تلفزيون الأقصى التابع لحماس. كما قال القيادي في حماس سامي أبو زهري "اغتيال الاحتلال الإسرائيلي للأخ هنية هو تصعيد خطير يهدف إلى كسر إرادة حماس وإرادة شعبنا وتحقيق أهداف وهمية. نحن نؤكد أن هذا التصعيد لن يحقق أهدافه". وأضاف أبو زهري: "حماس، مفهوم، ومؤسسة وليست أشخاصا. وستواصل حماس السير على هذا الطريق مهما كانت التضحيات ونحن واثقون من النصر". كما قالت حركة الجهاد الإسلامي أن "عملية الاغتيال الآثمة التي نفذها العدو بحق رمز من رموز أمتنا لن تنال من مقاومتنا". ومن جهة أخرى وعلى صعيد الرئاسة الفلسطينية نجد أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس وصف عملية الاغتيال بـ"العمل الجبان" داعيًا الفلسطينيين إلى الوحدة في مواجهة إسرائيل، حيث جاء نصًا في بيان للرئاسة "أدان رئيس دولة فلسطين محمود عباس، بشدة اغتيال رئيس حركة حماس القائد الكبير إسماعيل هنية، واعتبره عملا جبانا وتطورًا خطيرًا"، وأضاف أنه يدعو "جماهير شعبنا وقواه إلى الوحدة والصبر والصمود، في وجه الاحتلال الإسرائيلي".
4. على كل القوى الإقليمية والدولية الداعمة والراعية للسلام والتعاون من أجل تحقيق المكسب للجميع ومصالح الشعوب في دول الجنوب النامي أن تتحد، وتواجه هذا الصلف والغطرسة والغرور الإسرائيلي المشفوعين بحماية أمريكية تبرهن على عدم احترام القانون الدولي وازدواجية المعايير والانتقائية لحماية الكيان المحتل. علينا أن نفرض إرادتنا ونتمسك بسرديتنا وقيمنا لآخر مدى، مع التأكيد على أن تهديد الأمن القومي لأي دولة وطنية في الإقليم هو خط أحمر لا ينبغي تجاوزه، فنحن قوم ندعو للسلام ولكن إشعال الأمر على هذا النحو ينذر بعواقب وخيمة إقليميًا ودوليًا. ولا أدل على ما نحن فيه إلا قول "جلال الدين الرومي":
"إنهم مشغولون بالدماء، بالفناء.. أما نحن فمشغولون بالبقاء.. هم يدقون طبول الحرب، نحن لا ندق إلا طبول الحب.. ما لمس الحب شيئا إلا وجعله مقدسًا".
*نقلا عن بوابة الأهرام