مقالات رأى

سيناريوهات مفتوحة.. تأثير انسحاب بايدن فى قواعد اللعبة الأمريكية

طباعة

كان متوقعا ألا يستسلم الديمقراطيون أمام جموح الظاهرة الترامبية، وربما ما أشيع من تحليلات حول حادث اغتيال الرئيس السابق دونالد ترامب، ومدى تمكنها من تعزيز حظوظه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، لم تصب بعض الشىء، فمن الممكن توظيف الحادث نفسه ضد المرشح الجمهورى، كونه من أسهم وبشكل قوى فى تعزيز ما يجرى فى الولايات المتحدة من تحزبات واستقطابات سياسية حادة، عبر الانتكاسة الديمقراطية التى ألحقها بالبلاد نهايات 2020، إبان أحداث الكابيتول وعدم قبوله بنتائج انتخابات 2020، فضلا عن تهديداته بحمامات الدم حال خسارته هذه الانتخابات، وربما عدم إجادة ترامب قواعد اللعبة السياسية، يُفهم فى سياق خلفياته كونه رجل المال والأعمال والرأسمالى أيضا الدخيل على الشاشة السياسية الأمريكية، ومنذ بروزه أحدث عدة تغييرات على المشهد الأمريكى، غاب عنها النضج السياسى إلى حد يذكر، من ثم يصعب عليه التعاطى مع الحياة السياسية ومضامينها. 

غير أن الانتكاسة الأمريكية الحقيقة لم تنتعش مع ممارسات ترامب القريبة، أو حتى بدايات الصراعات الأهلية والعنصرية منتصف القرن التاسع عشر 1860، بانفصال ولايات الجنوب عن الشمال وما شهدته أمريكا وقتها من أكبر صراع دموى فى تاريخها، إلى أن انتصر الرئيس لينكولن وقتها ونجح فى ضم الشمال مع الجنوب ثانية منتصرا لإلغاء العبودية، التى ألغيت شكلا، ليظل المضمون يحمل تفرقة عنصرية واضحة حتى هذه الأيام، وربما للوقوف على الأسباب الحقيقية وراء ما تشهده الولايات المتحدة من تراجع واضح للقيم الأمريكية، لا بد من الاتجاه ناحية طبيعة النظام الفيدرالى وما يقتضيه من تنافر دائم بين الحكومة المركزية بسلطاتها التنفيذية والتشريعية وبين حكام الولايات، ما سمح بتهيئة الأجواء للتيارات المضادة، والأهم التركيبة البنيوية للأحزاب السياسية الأمريكية، كونها أحزابا نخبوية وليست جماهيرية، ما عمل على استقطاب نخب لا تجيد السياسة وعلومها من جانب، وابتعاد الشباب وعدم الدفع بهم فى الحياة السياسية من جانب آخر، وجميعها عوامل تسهم دون أدنى شك فى خصوبة هذه النوعية من الاستقطابات السياسية وما ينتج عنها من تحزبات وأعمال عنيفة.  

لفهم أكثر عمقا للموقف، تحديدا حظوظ ترامب عقب حادثة الاغتيال، فلا بد من صياغة بعض الافتراضات، وبالتزامن مع إعلان انسحاب بايدن من منافسة ترامب، فهل فرص تر امب فى الانتخابات الأمريكية، هى الفرص نفسها قبيل انسحاب بايدن؟! بالطبع لا، فأى مرشح ديمقراطى سيتمكن من منافسته والصمود أمامه، بغض النظر عن النتائج النهائية، من ثم فإن حادثة الاغتيال برزت كعامل ضمن عوامل عديدة مكنت ترامب، وشكلت حلقات متواصلة من ضعف بايدن، ومن ثم فإن ترامب لم يكن قويا، كل ما هناك هو ضعف لدى بايدن، تمثل فى عدة إخفاقات أبرزها وأهمها تراجع الحالة الصحية والذهنية، مع عجزه فى إدارة الصراع بين إسرائيل وحماس، والأقسى خروج الحرب الروسية الأوكرانية عن السيطرة الغربية، أما داخليا فلم ينجح فى تهيئة الوضع الأمريكى على نحو ما نجح فيه فى ترامب اقتصاديا؛حيث تراجعت معدلات البطالة بنسبة بلغت 3.7%، مع ارتفاع متوسط دخل الساعة إلى 3.1% على أساس سنوى وهو معدل لم يتم الوصول إليه منذ 2008، والأهم ارتفاع معدل النمو للاقتصاد الأمريكى خلال الربع الثالث من العام الحالى ليتجاوز 3.5%، وإن كان العجز التجارى تخطى الـ 1.3% ليصل إلى 54 مليار دولارخلال فترته 2016-2020.

ولا شك فى أن انسحاب بايدن الفعلى من السباق الرئاسى، سيغير فى قواعد اللعبة الأمريكية، بعد أن ظل محسوما بعض الوقت، ولمصلحة ترامب على نحو قد يتناسب وما يلى:

· لم يكن المرشح الجمهورى قويا، فقط أجاد استغلال ضعف بايدن، كما تمت الإشارة أعلاه، ولو كان يملك مفاتيح السباق فعليا، لما غادر البيت الأبيض فى انتخابات 2020، ولم يكمل ولايته الثانية، وإن كان تمكن من تحقيق رضا المواطن عبر مجموعة من السياسات الاقتصادية، أيضا عرف كيف يهادن المنطقة، حينما سحب قواته من العراق وأفغانستان منكفئًا على الداخل الأمريكى، كما تمكن من مهادنة بوتين ولم يهتم بالصراع مع روسيا، أيضا كوريا الشمالية، لكنه عدَّ الصين العدو الأول للولايات المتحدة، ومن ثم فرض عدة تعقيدات جمركية من خلال رفع الرسوم على السلع الصينية، تعمد أيضا نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ما كاد أن ينهى عملية السلام المقترحة بين الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى. فى المقابل تتخوف أوروبا من عودة ترامب على خلفية تهديده بالانسحاب من الناتو، وإن كان اختياره لنائبه فانس والمحسوب على اليمين المتطرف قد يحدث بعض التوازنات مع أوروبا تحديدا فى ضوء صعود اليمين المتطرف وعلى خلفية تشابه الأيديولوجيات، إلا أن سياسات ترامب القادمة حال فوزه، يصعب التنبؤ بها، ربما لن ينتهج السياسات القديمة نفسها، وربما سيعمل على الانتقاء من بينها أو تحديث بعضها، وفى إطار الاستفادة من تجربته الرئاسية السابقة، أو حتى دراسة نموذج غريمه بايدن.

· تصدر كامالا هاريس نائبة الرئيس بايدن المشهد الديمقراطى، ودعمها من قبل الديمقراطيين لخوض السباق، سيصيغ معادلة جديدة للسباق، لا سيما مع تركيبتها والأقرب إلى هيلارى كلينتون الديمقراطية ووزيرة الخارجية الأمريكية فى عهد أوباما، التى صمدت أمام ترامب فى السباق الانتخابى 2016، وعلى الرغم من اكتساحها بموجب استطلاعات الرأى، فإن فوز ترامب وقتها مثَّل صدمة لعدد من المراقبين، ومن ثم فمن الوارد أن تعمل هاريس على تحقيق الاستفادة القصوى من مقاربة هيلارى. أيضا خلفيتها، كونها المدعية العامة لأهم الولايات الأمريكية، والعضو بمجلس الشيوخ، ولها مواقفها تجاه العديد من القضايا المفصلية الأمريكية، أبرزها العنصرية فهى المرأة غير البيضاء وصاحبة الأصول الآسيوية، وربما القادرة على حماية حقوق "عشيرتها"، أيضا مواقفها من الهجرة والإجهاض؛ حيث تطالب بإعطاء المرأة الحق فى الإجهاض، وقد تجيد استخدام أوراق بايدن ونقاط قوته فى البيت الأبيض.

· يعانى الحزب الديمقراطى انقسامات واضحة، برزت قوية فى عدم الجاهزية منذ انطلاق السباق الرئاسى، فلم يكن أمامه سوى الدفع ببايدن رغم ظروفه الصحية وبعض تداعيات الشيخوخة، أيضا غياب الكوادر الشبابية، فلم يحدث أن تصدر الشباب المشهد الديمقراطى، ومع ذلك تمكن الحزب سريعا من الدفع بهاريس، التى عُدَّت اختيار بايدن، وربما تخطى الديمقراطيون سريعا بعض الإشكاليات والمتعلقة بسحب مرشح ووضع بديله، مع ضلوع عامل الوقت، أيضا احتمالية إجراء انتخابات تمهيدية لهاريس، فالمندبون الذين رشحوا بايدن، قد لا يمنحون أصواتهم لهاريس، ما يستدعى إجراء نفس الانتخابات، لكن يبدو أن الحزب تماسك وتجاوز هذه التعقيدات، ليصطف وراء مرشحته، ما يؤشر على بداية سياسية جادة، وهو ما سيتضح فى المؤتمر الوطنى للحزب الشهر القادم، فثمة احتمالات ضعيفة أن ينافس هاريس بعض المرشحين الديمقراطيين.

· ولأن الولايات الأمريكية مقسمة بين ولايات حمراء أى محسومة لمصلحة الجمهوريين وأبرزها أوهايوا وفلوريدا، وولايات زرقاء محسومة لمصلحة الديمقراطيين منها واشنطن وكاليفورنيا، والأهم ولايات متأرجحة وهى الكفيلة بحسم العملية الانتخابية ونتائجها ككل، كونها تعد العامل المتغير الذى يتبع برامج المرشحين وقدراتهم على الحشد، والمؤتمرات الشعبوية أيضا، وأبرز هذه الولايات ميتشجين وويسكونسن التى بدأت بها هاريس حملتها، ما يؤشر على دراسة جيدة وتحركات مدروسة من قبل المرشحة الديمقراطية، وإن عُدَّت الخطوة بديهية.

· ما تزال انتخابات الدولة الإمبريالية الأكثر تأثيرا عالميا تحمل العديد من المفارقات، قد تتضح تباعا، ومن ثم يصعب معها الاستقرار على الرئيس القادم.  

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية