تحليلات

بروز اليمين المتطرف وإعادة صياغة التوازنات الأوروبية

طباعة

تحولات سياسية عدة جاءت فى إطار الاستجابة للتغيرات الجيوسياسية المعاصرة على المستويين الإقليمى والدولى، أحدثها بروز اليمين المتطرف، عقب محاولات مضنية استمرت عقودا، نجحت أحزاب أقصى اليمين بأوروبا فى تصدر المشهد، بحصولها على عدد يذكر من المقاعد فى البرلمان الأوروبى، ربما تجاوز 80 مقعدا، وإن كان الشعب الأوروبى محافظا على ترتيبه بحصوله على 189 مقعدا، ومن ثم تصدر أيضا الاشتراكيون والديمقراطيون وبما يعادل 136 مقعدا، غير أن بروز اليمين المتطرف نفسه على المستوى الوطنى للدول عُدَّ التهديد الحقيقى لأوروبا ومستقبلها، وربما يقتضى هندسة جديدة للتوازنات بالقارة وتداعياتها على المستويين الإقليمى والدولى.

سياقات المشهد:

تعاصر معظم دول أوروبا على المستوى الوطنى الداخلى صعودا واضحا لأحزاب اليمين المتطرف، ما هدد أحزاب الأنظمة الحاكمة، لا سيما فى فرنسا وألمانيا، ومع بروز أحزاب الجبهة الوطنية والبديل من أجل ألمانيا، المحسوبة على أقصى اليمين، فقد سجلت إيطاليا تصدرا واضحا للتيار الراديكالى مع بروز جورجيا ميلونى 2022، التى تتزعم حزب إخوة إيطاليا.

يبدو أن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أراد التخفيف من حدة بروز اليمين فى فرنسا، فلم يكن منه سوى الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة، لكن مثلما اجتاز التجمع الوطنى وتقدم فى الانتخابات الأوروبية، أبدى الاستعدادات نفسها ما يؤشر على نجاحات متتالية، لكنها فى الوقت نفسه تنذر بانعكاسات على السياسات الفرنسية داخليا وخارجيا، حتى إن لم يتصدر اليمين بشكل قوى، لكن مجرد تقدمه أيضا يضعه فى الإطار نفسه، وربما التفاهمات تعد سيدة الموقف بين مكونات النظام السياسى الفرنسى، لا سيما ما ورد فى تصريحات مارى لوبان زعيمة اليمين المتطرف، فى تأكيد احترام الدستور وخلق حالة من التعايش ما بين التحالفات، والأهم لن تستبعد ماكرون حال تصدر اليمين، فبينما يسيطر الرئيس على كل التحركات السيادية، تُترك لحكومة اليمين المحليات مع الأوضاع المالية والاقتصادية، خصوصا أن اليمين الفرنسى يتبنى مجموعة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية كفيلة أن تلقى قبول المواطن الفرنسى، وأهمها خفض الضرائب ورفع الأجور بنسب تتخطى 10%، طبعا حال تصدره رسميا.

لم يختلف الأمر كثيرا بالداخل الألمانى؛ حيث تمكن حزب البديل من أجل ألمانيا اليمينى المتطرف من تهديد المستشار الألمانى أولاف شولتس وحزبه الاشتراكى، خصوصا عقب إخفاقات واضحة أضرت بالداخل الألمانى مع تراجع واضح لمؤشرات اقتصاد من أقوى اقتصادات أوروبا، بديهى على إثر أقسى أزمتين معاصرتين كوفيد 19 والصراع الروسى  الأوكرانى، على العكس جاءت إيطاليا وهناك تمكن اليمين من النجاح المركب، فبعد تولى ميلونى رئاسة الوزراء الإيطالية والمحسوبة على أقصى اليمين المتطرف، برز حزب إخوة إيطاليا ضمن الفائزين فى الانتخابات الأوروبية، وتسعى ميلونى إلى تعزيز قبضة إخوة إيطاليا عبر الاستفادة من شقاقات خصومها، كما تروج لنفسها بشكل شخصى بعيدا عن اليمين المتطرف، خصوصا عقب الطفرة التى حققتها مع إخوة إيطاليا، والتى برزت فى الفروق بين نتائج انتخابات 2019 وحقق فيها 6% ونتائج 2022 وفيها سجل الحزب 26%.

الدوافع وراء تصدر اليمين:

قبيل التطرق إلى أى دوافع أو أسباب تقليدية، دفعت باليمين فى اتجاه التصدر الواضح، فثمة أسباب حقيقية مكنت هذا التوجه المتطرف، ترجع بالأساس إلى إمكانات وقدرات هذه الجماعات، والتى نجحت بالفعل فى الوصول إلى المواطن الأوروبى باستخدام مجموعة من الآليات تنوعت بين سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية، فلم تعد الأيديولوجيات الفكرية أو حتى الديماغوجية ضمن المضامين العقائدية لهذا اليمين المتطور والمواكب، كونه يتحرك وعبر مشاركات سياسية فعالة وقوية من الأطر المحلية متجاوزا الأطر الدولية، أيضا تمكن وبقوة من الوصول إلى احتياجات المواطن من خلال مجموعة من السياسات المالية والاقتصادية تفرض تقاسمها والدولة للعديد من الأنشطة فى انفتاح رأسمالى حقيقى.

غير أن قدرة هذه الجماعات على النفاذ إلى الأنظمة الحاكمة نفسها، مكنتها من ترسيخ قاعدتها والتصدير لتوجهاتها، مثلما يحدث من تواصل واضح فى فرنسا بين ماكرون وجماعات اليمين، أيضا إيطاليا وعقب وصول ميلونى إلى الحكم، أضف أيضا تمكن اليمين من الوصول إلى المؤسسات الكونفدرالية ما ينم عن تنظيم حقيقى وهيكلة مسئولة، أسهمت بقدر كبير فى هذه الإنجازات اليمينية.

لكن أيضا يصعب قراءة هذه الأسباب والدوافع بمنأى عن الدوافع التقليدية، التى تبلورت على إثر المتغيرات الإقليمية والدولية والتى ألقت بظلالها على الداخل الأوروبى، لا سيما الحروب والصراعات، فضلا عن الهجرات المتتالية إلى الاتحاد، مع التراجع الحاد للأوضاع الاقتصادية، ما خلق حالة من النفور لدى المواطن الأوروبى تجاه أى أحاديث أو نقاشات عن التكامل الأوروبى ومفاهيمه.

 واكبت أوروبا التنمية فى جميع صورها، فمنذ الحرب العالمية الثانية، وقد تحررت من الصراعات والحروب، ومن ثم توجهت بجميع قدراتها وإمكاناتها إلى الحداثة ومفاهيها من التصنيع والرقمنة، إلى حد لم تؤهل عنده جيوشها، تماشيا مع الشرق ونزاعاته وما صدره لها من هجمات، وهو ما جاء فى دعوات ماكرون المتكررة من أجل إنشاء جيش أوروبى موحد، أيضا ألمانيا التى تعد فى مقدمة الدول الصناعية ورغم تفوقها اقتصاديا، إلا أن جيشها لا يتناسب وحجم إمكاناتها الصناعية والاقتصادية، وبناء عليه فإن صعود اليمين جاء مع انعكاسات هذه الاخفاقات، وفى إخفاق تعاطى أوروبا واتحادها مع عدة من القضايا الجوهرية المُلحة، وأهمها:

 قضية الهجرة، طالما مثلت قضية الهجرة الهاجس الأكبر لليمين المتطرف، خصوصا مع تزايد أعداد المهاجرين وعقب الصراعات بالمنطقة، ومن ثم فإن التشريعات المنتظرة ستتجه فى تقييد حركة المهاجرين إن لم يكن المنع مع غلق الحدود، حفظا للهوية ولضمان عدم تغييرها، أيضا ضمان عدم التأثير فى احتياجات المواطن دون الاقتناص منها, وبموجب عدد يذكر من استطلاعات الرأى فقد تراجعت نسب تأييد الأوروبين لحق اللجوء لبلادهم إلى 35%، عقب 66% قبل نحو أكثر من 3 سنوات، خصوصا ألمانيا التى انتهجت سياسات الباب المفتوح تجاه السوريين بدايات 2014، ومع تزايد الاحتكاكات وعمليات الذئاب المنفردة، تراجعت نسب عدم القبول باللاجئين.

الأزمات الاجتماعية الأوروبية وإشكاليات الطاقة، عُدَّت أيضا ضمن أبرز دوافع صعود اليمين، ومع تراجع أداء الأنظمة الحاكمة فى التعاطى مع هذه القضايا، فضلا عن تراجع المؤشرات الاقتصادية الأوروبية، وانخفاض واضح للنمو مع تقدم مؤشرات التضخم، وبالقياس على الاقتصاد الألمانى - أقوى اقتصادات أوروبا- فمقدر له المزيد من الانكماش، بعد أن سجل العام الماضى تراجعا بلغ %0.3، ما أُعزى إلى توقف عدد يذكر من المصانع على إثر تراجع إمدادات النفط، والإخفاق فى إيجاد حلول لمشكلات الكهرباء، فى المقابل ما تزال مؤشرات التضخم ماضية فى الارتفاع، حيث قدرت بـ 5.5%، خلال العام الماضى، دون تراجع يذكر هذا العام.

تداعيات صعود اليمين:

وصول اليمين إلى حكم أوروبا، قد يعيد صياغة المعادلة الأوربية وما تفرضه من توازنات جديدة، لا سيما فى ظل الحراك الفاعل الذى تشهده السياسة الدولية، وعلى المستويين الداخل والخارجى:

على مستوى الداخل الأوروبى، ومع نجاح هذه الجماعات فربما تسعى إلى انتهاج بعض السياسات الاجتماعية والاقتصادية والكفيلة بالتخديم على المواطن، فلم تعد تشغلها الأيديولوجيات والعقائد بقدر الوصول إلى هذا المواطن، مستغلة تراجع الأحزاب والائتلافات التقليدية، فتتحيز هذه الجماعات لمصلحة المواطن الأوروبى وعلى حساب الوافدين، ما يدفعها للتخوف على هويتها لا سيما الدينية، من ثم تبنى خطابات الكراهية، والتأثير أيضا فى الأنظمة الحاكمة للدفع بما يخدم على المواطن، ومن أجل كسب انتمائه ودعمه.

على المستوى الخارجى، وصول هذه الجماعات إلى الاتحاد الكونفدرالى وتصدرها فى انتخابات البرلمان الأوربى 2024، سيدفعها إلى تشكيل كتل وائتلافات تتبنى تشريعات، من شأنها السيطرة على الاتحاد وعلى سياساته القادمة، تجاه عدة من القضايا، خصوصا الصراع الروسى - الأوكرانى، وتوجهات اليمين الراديكالى الرافضة لاستمرارية الدعم، على حساب الشعب الأوروبى، وذلك بخلاف الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى، والذى ما زال يشكل جدلية من نوع خاص لدى أوروبا وجماعاتها سواء يمينية أو يسارية، ما أدى إلى تخبطات فى تشكيل القناعات الأوروبية برزت واضحة فى التحولات الأوروبية بين طرفى الصراع، لكن تظل القناعة اليمينية تعارض التكامل الأوروبى بمختلف صوره، وربما كل التخوفات من انفراط العقد، خصوصا عقب خروج بريطانيا 2016، والذى جاء بناء على استفتاء شعبى، فلم تعد السويد\ والدانمارك قابلة بالوحدة الأوروبية سياساتها، وربما خفوت دعوات الخروج، جاءت عقب متابعة المقاربة البريطانية، وتراجع اقتصادها وحجم علاقاتها البينية عقب البريكست؛ حيث تكبد الاقتصاد البريطانى خسائر تعادل 178 مليار دولار، فى حين تراجع الناتج المحلى إلى 2%، ما أسهم فى بروز الدعوات من أجل دعم الاقتصاد البريطانى من خلال التعاون الأوروبى الجاد.

ثمة عدة من الملفات الدولية والإقليمية أيضا، ستعاد صياغة السياسات الأوروبية تجاهها، وبما يتوافق والتوانات الأوروبية ومع تصدر التيارات الراديكالية لا سيما التعاطى مع أوضاع الشرق الأوسط وصراعاته، تجنبا لتدفق اللاجئين ولضمان حفظ مصالحها فى الشمال والوسط من إفريقيا، بل المنطقة بأسرها.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية