تنتظر فرنسا نتائج انتخابات مبكرة في دورتين، من المقرر أن تُجْرى يومي 30 يونيو، و7 يوليو 2024، وذلك بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات مبكرة اعتبرها المراقبون "ورطة" على ضوء فوز حزب التجمع الوطني، الشعبوي اليميني، بأغلبية ساحقة في الانتخابات الأوروبية، متقدمًا على حزب النهضة بزعامة ماكرون. فهل يؤدي مأزق ماكرون إلى فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بأغلبية المقاعد في البرلمان المقبل لتعزز فرصه في قيادة الحكومة الجديدة؟
يعتزم حوالي 50 مليون ناخب فرنسي التصويت لاختيار أعضاءالجمعية الوطنية، وعددهم 577 عضوا. وكانت نتائج انتخابات البرلمان الأوربي في 9 يونيو الجاري، في فرنسا قد أسفرت عن فوز حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، بزعامة مارين لوبان وجوردان بارديلا. وحصل حزب "الاستعادة" بزعامة اليميني "الفاشي"، إريك زمور وماريون ماريشال، على أكثر من خمسة بالمائة من الأصوات. وتكبدت القوى الداعمة للرئيس ماكرون هزيمة ثقيلة، بينما انقسمت القوى اليسارية ولم تتمكن من الاستناد على نجاحها النسبي في الانتخابات البرلمانية السابقة في يونيو 2022. ويعتبرالمراقبون أن قرار الرئيس ماكرون بالدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة "ورطة" قد تعزز فرص اليمين المتطرف في الوصول إلى كرسي الحكم في فرنسا، بينما تحكم على ماكرون وأنصاره من يمين الوسط والليبراليين باستعجال الخروج من دائرة السلطة قبل الموعد الرسمي للانتخابات المقبلة 2027، بعد عقود طويلة من التناوب على قيادة البلاد مع الاشتراكيين.
المهاجرون يدعمون اليسار:
تسيطر حاليًا المخاوف على العرب والمهاجرين، الذين يصل عددهم إلى ستة ملايين نسمة، بسبب تصدر خصمهم اللدود، اليمين المتطرف، لاستطلاعات الرأي في نوايا التصويت بالانتخابات التشريعية المبكرة. وفي حين أكدت الانتخابات السابقة أن المهاجرين صوتوا لصالح إيمانويل ماكرون في مواجهة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، فإن استطلاعات الرأي تكشف أن نوايا التصويت بين هذه الأقليات ستصب هذه المرة وبنسبة تقارب 70% لصالح اليسار، وجون لوك ميلونشون تحديدًا، بعد أن تغيرت قائمة الأولويات لدى هذه الأقليات منذ السابع من أكتوبر الماضي. ويستجيب موقف ميلونشون وحزبه اليساري لكثير من تطلعات العرب والمسلمين حول ضرورة احترام الأقليات ووقف الحرب على غزة،وهذا ما أحيى آمال اليسار بالعودة بقوة وجعل اليمين يتهمه باستغلال ورقة المهاجرين وغزة لمغازلة أصوات الأقليات، خاصة العرب والمسلمين.
الجبهة الشعبية تتصدى لليمين المتطرف:
بينما يحتل ائتلاف ماكرون الوسطي الذي يضم ثلاثة أحزاب (النهضة وآفاق والحركة الديمقراطية) المركز الثالث، بعد أن تبددت آماله في جذب يسار الوسط، شكل الاشتراكيون من جانبهم "جبهة شعبية جديدة" مع حزب الخُضر، وحزب فرنسا الأبية اليساري المتطرف، والشيوعيين سعيا للحيلولة دون وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في فرنسا. واعتبر مراقبون أن إعلان سبعة أحزاب يسارية تأسيس هذا التحالف تحت مسمى "الجبهة الشعبية الجديدة" هومحاولة لتنظيم الصفوف. وتقول الجبهة في إعلانها إنها ترغب في"القطيعة مع سياسات الليبراليين الجديدة"، وما أطلقت عليه في أدبياتها "سياسات الاستبداد" الرأسمالية، وجاء الإعلان منفتحًا على القوى الأخرى. وقد انضمت بالفعل مجموعات أخرى، بما في ذلك "الحزب الجديد المناهض للرأسمالية" المنحدر من التيارات التروتسكية، الذي رفض الانضمام إلى تحالف اليسار في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في يونيو 2022.
مخاوف أنصار وخصوم ماكرون الجمهوريين:
منذ إعلان ماكرون دعوة الفرنسيين لجولتي انتخابات مبكرة، خرج العديد من الآراء داخل فرنسا وخارجها، من أنصاره وخصومه الجمهوريين على حد السواء، تصفه بالمغامر وحتى بالمقامر المتهور، محذرة من هذا القرار الذي قد يفضي إلى وصول اليمين المتطرف وتوليه مقاليد السلطة السياسية لأول مرة في فرنسا. ويقولون إن ماكرون كان بإمكانه الانتظار حتى مايو 2027 موعد الاستحقاق الانتخابي المقبل، غير أنه أراد اختراق الجمود حيث واجه أزمة دائمة في إقرار القوانين مما يؤدي لتعطيلها بسبب فشله في الحصول على أغلبية بالجمعية الوطنية خلال انتخابات 2022. وقد أيدت استطلاعات الرأي تلك الآراء حيث تشير إلى ان حزب التجمع الوطني لديه حظوظ كبيرة للفوز بـ "ارتياح" للمرة الأولى، بزعامة الزعيم الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عامًا،وفي البرلمان بزعامة مارين لوبان التي أخفقت في المرات الثلاث التي خاضت خلالها سباق الانتخابات الرئاسية. وكردّ فعل على نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية التي أظهرتها استطلاعات الرأي، خرج آلاف المتظاهرين في مسيرات بشوارع العاصمة باريس وكبرى المدن الفرنسية بدعوة من اليسار الفرنسي والنقابات العمالية وعدد من المنظمات الحقوقية ومنها أنصار حماية البيئة، تعبيرًا عن رفضهم اليمين المتطرف وذلك قبل أيام من موعد الاستحقاق التشريعي الذي سيؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي. ورغم الخلافات الطارئة التي تهدد تماسك الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة، فإنها تمثل الاختيار الثالث، البديل أمام الناخبين لحزب ماكرون وللجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، حيث تدعو الجبهة إلى القطيعة التامة مع سياسة إيمانويل ماكرون وبرنامج وعود التجمع الوطني (جوردان بارديلا/ مارين لوبان). وتنتقد الجبهة اليسارية إلغاء ماكرون لإصلاح النظام التقاعدي ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو (مقابل 1383 يورو حاليا)، فضلا عن العنصرية ضد المهاجرين في خطاب التجمع الوطني وما يدعون إليه من "مكافحة معاداة السامية" والتنديد بـ "مجازر حماس الإرهابية" في الدولة العبرية. وفي المقابل، اعتبر بارديلا المرشح عن التجمع الوطني لرئاسة الحكومة أن "تشكيلين سياسيين" فقط يمكنهما تشكيل الحكومة المقبلة، وهما التجمع الوطني الذي يتصدر استطلاعات الرأي والائتلاف اليساري الجديد، مستبعدًا بذلك فرص حزب النهضة وتحالفاته التي يتزعمها الرئيس الحالي ماكرون.
أجنحة اليمين في سلة واحدة:
لفهم ظاهرة صعود اليمين المتطرف بقوة إلى الزعامة السياسية في فرنسا وعدد آخر من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، لابد من العودة للتاريخ ومراجعة كيفية ظهور الفاشية الأوروبية، وقد يتملكنا الاستغراب إذا علمنا أنها قد وُلدتْ من رحم الديمقراطية البرلمانية. على سبيل المثال، لم تنقض الفاشية على الحكم في إيطاليا، كما يشاع من بعض كتاب التاريخ، بل استلمت السلطة بعد الحرب العالمية الأولى، وقد حظي موسيليني بدعم الرأسماليين الصناعيين والبنوك في نشاطه المناهض للحركة العمالية والموالي للرأسمالية، خاصة في ضوء ما حدث في روسياالقيصرية من ثورة شعبية مناهضة للرأسمالية عام 1917. تلك الثورة أخافت أصحاب الثروة ودفعتهم لدعم موسيليني بقوة وتمويل حملته، حتى إن كبار الصناعيين وقادة البنوك قدموا له الأموال الوفيرة لتنظيم مسيرة نحو روما في أكتوبر عام 1922 بهدف استعراض القوة. ودعاه ملك إيطاليا بعد هذه المسيرة، وتحديدًا في 29 أكتوبر 1922، لتشكيل الحكومة طبقًا للقواعدالبرلمانية. وهكذا فإن الرأسمالية خلعت معطفها الليبرالي وارتدت بدلًا منه معطف "الفاشية" الذي حكمت به أيضًا البرلمان، حيث تحالف الليبراليون مع موسيليني وشكلوا جبهة انتخابية موحدة في 6 أبريل 1924. وبفضل هذا التحالف حصل "الفاشيست" -وهذا اسمهم وليس وصفهم-على 286 مقعدًا بالبرلمان، بعد أن كان لهم 35 مقعدًا فقط.
هذا ما يقوله التاريخ عن صعود اليمين المتطرف في إيطاليا ولا تختلف الصورة في ألمانيا كثيرًا، حيث تسلم النازيون السلطة من داخل النظام البرلماني وبالتحالف مع الليبراليين ومساعدة كبار الصناعيين والبنوك أيضًا الذين قدموا تمويلًا سخيًا لتعظيم نفوذ الحزب النازي. وحظي الأخير باصطفاف الليبراليين خلفه حتى تحقيق الفوز في 19 أكتوبر1930. وتكرر الموقف في انتخابات ديسمبر 1935. ورغم الجرائم النازية المرعبة بعد ذلك، رفض القادة الليبراليون تشكيل جبهة موحدة مع اليساريين.
إلى أين تتجه البرجوازية الفرنسية؟
بالعودة إلى الأحزاب اليمينية في فرنسا فإنها رغم ألوانها وأطيافها المتعددة من أقصى اليمين والوسط واليمين المتطرف فهي أدوات سياسية جميعها في أيدي الطبقة البرجوازية الفرنسية التي ترفع شعار الليبرالية الاقتصادية، ولم تكن خارج هذه الطبقة. وإذا كانت الدعاية تروج لوجود تناقض أيديولوجي بين اليمين المتطرف والليبراليين فإنه تناقض يكاد يكون شكليًا وليس جوهريًا، حيث إنهم يحملون أفكارا اقتصادية متشابهة ونفس المواقف من القضايا العامة مع تمسكهم أيضا بالديمقراطية كأداة لتداول السلطة. كما إنهم يتحدون عند الحاجة وحين يستدعي الأمر الإطاحة باليسار وجماعات البيئة والمناصرين لقضايا المهاجرين واللاجئين والحقوق الإنسانية عامة. ولعل مواقف اليمين بوسطه ويساره ومتطرفيه كاشفة لهذا التماثل في الرؤى تجاه المنظمات العمالية وشيطنة الأجانب والمهاجرين عند الحاجة، والتصدي للمزيد من المكاسب الاجتماعية لصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة، وزيادة الاستثمار في اقتصاد الحرب وتجارة الأسلحة، بل وحتى الأسلحة الممنوعة والمحرمة.
محاولة ماكرون اللحاق بخصومه:
تظل السيناريوهات الآن منفتحة وإن كانت تتجه لفوز اليمين المتطرف، حيث الرهان في الساعات المقبلة على مدى قدرة ماكرون وحزبه على تغيير اتجاهات التصويت التي تتوقع الفوز لخصومه، ويحاول من جانبه بلورة خطاب يزغزغ عاطفة الجمهوريين تجاه قيم الديمقراطية ويغازل الخائفين من تطرف اليمين واليسار، مرسلا الوعود البراقة لجذب المترددين في الاتجاه يمينًا أو يسارًا، ومتعهدًا بتغيير جذري في الحكم يكون فيه "أكثر قربا من الشعب". ويحاول ماكرون أيضًا استمالة فئات بعينها في المجتمع الانتخابي مثل العائلات الفرنسية والنساء والشباب وكبار السن (المتقاعدين) والمهاجرين، ويؤكد أن الحكومة المقبلة ستعيد صياغة السياسات الموجهة لحماية الطفولة بما يتناسب مع ظروف الأمهات وأطفالهن ويحقق قيمة الأسر وطموحاتها، كما يعد بتحسين ظروف العمال والمحالين للمعاش وتحقيق حماية أفضل للشباب وأمنهم وتطلعاتهم ويتصدى بقوّة أكبر لكل أشكال التمييز، معترفًا مجددًا بوجوب إحداث "تغيير عميق في طريقة الحكم". فهل ينجح ماكرون في تقليص تأخّره عن ائتلاف اليسار حتى موعد التصويت، وهل يتمكن من ملاحقة أقصى اليمين الأوفر حظًا فيثبت أن الحديث عن ورطته مجرد اتهامات وأنها كانت بالأحرى تحملا لمسئولياته السياسية؟!