كانت أبرز الأسئلة التى تم طرحها عقب مصرع الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى هو هل ستتغير توجهات إيران بأفكار ورؤى رئيس جديد لها، وهى التى تدخل من خلال علاقاتها بالعالم فى دوامة متحركة وفق مصالح وتفاعلات تحركها أيديولوجيات معروفة أم ستظل على خطها المعروف وعلاقاتها المتشعبة التى تحركها هذه الأيديولوجية؟ فمن المتفق عليه أن مقتل الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى لم يكن ليحدث فى ظروف وواقع إقليمى أكثر حساسية من الوقت الحالى. فقبل أسابيع فقط، حبس العالم أنفاسه وهو يشاهد تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، الذى كان على وشك التحول لحرب مفتوحة وشاملة. وتأتى أبرز التساؤلات الكاشفة منطلقة من عدة سياسات استقرت عليها توجهات إيران، خاصة أنها وثقت العلاقة بأكبر أزمتين يشهدهما العالم حاليا؛ تلك المتعلقة بحرب غزة والأخرى الصراع الروسى - الأوكرانى.. تلك الأسئلة التى تفرض نفسها:
أولا: هل ستحافظ إيران على علاقاتها ببقية دول المنطقة خاصة أنها قد أصبحت طرفا رئيسيا فى الصراعين الأكبر عالميا خاصة ذلك الدائر فى الأراضى الفلسطينية؟
ثانيا: هل ستحافظ على علاقاتها التى أصبحت أكثر دفئا مع دول الخليج العربية، ومنها السعودية والإمارات، وسط تخوفات محتملة من تغيرها، خاصة أن أى زعيم جديد قد تكون لديه أولويات مختلفة؟
ثالثا: هل ستتغير سياساتها النفطية التى تلعب بها كورقة ضغط عالميا من واقع أنها ثالث أكبر منتج للنفط فى منظمة أوبك؟
رابعا: هل ستظل على خطها الداعم لجماعات الضغط المسلحة التى حولت فوهات أسلحتها مصوبة نحو الضرر الاقتصادى بالدرجة الأولى لكثير من المصالح الغربية وما يتبعه ذلك من تداعيات ؟
بداية استبعد محللون فى وكالة ستاندرد آند بورز جلوبل كوميدتى انسايتس أن تؤدى وفاة الرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى إلى تغيير السياسة النفطية فى ثالث أكبر منتج للنفط فى منظمة أوبك، لكن الحادثة تسلط الضوء على المخاطر الجيوسياسية الكامنة وراء صادرات النفط الخام من الشرق الأوسط. وقالوا إن سياسة النفط الإيرانية تعتمد بشكل أساسى على علاقة إيران مع الصين التى تُعتبر أكبر مشترٍ للنفط منها. وأضافوا: «ما لم ترَ إيران وجود صلة إسرائيلية بالحادثة، فيصعب أن نرى سبب حدوث تغيير». ويُمكن أن تؤدى فترة الأزمة الداخلية إلى ضغوط لزيادة الصادرات وتأمين مزيد من الإيرادات.
من ناحية أخرى، شهد إنتاج النفط الإيرانى نموا رغم العقوبات الأمريكية، إذ صدرت إيران نحو 1.5 مليون برميل يوميا من النفط الخام فى الربع الأول من 2024، معظمها للصين، حسب بيانات (اس آند بى جلوبل كوميدتى إنسايتس)، فيما أنتجت 3.15 مليون برميل يوميا من النفط الخام فى أبريل الماضي، وفقا لأحدث استطلاعات بلاتس، وهو أعلى مستوى لها منذ أكتوبر 2018، رغم العقوبات الغربية التى تهدف إلى تقييد مشتريات النفط الإيرانى بشدة.
لكن هناك توقعات أخرى نقلتها وكالة «بلومبرج» للأنباء تشير إلى أن أى رئيس جديد قد تكون لديه أولويات مختلفة عن رئيسى، وقد لا يهتم بمعاداة إسرائيل بمستوى معاداة الرئيس الراحل نفسه، وبالتالى فإن طبيعة الصراعات فى الشرق الأوسط قد تتغير كثيرا وتختلف عما نراه حاليا، وبالتالى قد يكون له أثر واضح للخروج من شرنقة العقوبات والعزلة الدولية. ولعل هذا قد يكون من الطرق المؤثرة وبقوة لعودة الاستقرار فى المنطقة، وبالتالى انعكاس ذلك على اقتصاد المنطقة الأكثر سخونة على مستوى العالم بعد منطقة القرم التى تضطلع إيران فيها أيضا بدور كبير.
قواعد سياسة "الشد والجذب":
إقليميا، وبعد تهديدات مباشرة بين إيران وإسرائيل، أشار المحللون إلى أن التوترات الإقليمية بين إيران وشركائها فى "محور المقاومة" من ناحية، والولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما من ناحية أخرى، لا تزال كبيرة ولكنها أكثر حرصا على عدم تفجر الأوضاع ووصولها إلى طريق عدم العودة بإشعال المنطقة فى صراع سيؤدى لا محالة إلى إطلاق شرارة الحرب العالمية الثالثة بعد تباين طريق الفرقاء وفق سياسة الانحياز المعلنة، وهو ما جعل أطراف الصراع تلجأ إلى سياسة شعرة معاوية المحافظة على سياسة البين بين، حيث "لم يؤد التعامل المحفوف بالمخاطر الشهر الماضى بين إيران وإسرائيل إلى حرب شاملة، لكن عدم اليقين السياسى الداخلى فى إيران يضيف الغموض الموجود الآن بين إيران وإسرائيل نظرا لأنهما لم يعودا يلتزمان بالقواعد القديمة للاشتباك، المتمثلة فى الضربات السرية من جانب إسرائيل والرد غير المباشر من خلال الشركاء الإقليميين الإيرانيين، لكن رغم ذلك فالقواعد الجديدة للاشتباك لم تعد سارية المفعول حاليا".
وقد ازداد الحديث عن دور إيران وحلفائها فى المنطقة بالتزامن مع تصاعد وتيرة الحرب على غزة، فى الوقت الذى أثارت الضربات المتبادلة بين طهران وإسرائيل خلال الشهر الماضى، مخاوف من اتساع رقعة الصراع وخروجه عن السيطرة، قبل أن تهدأ الأوضاع خلال الأيام الأخيرة.
السياسة الخارجية الإيرانية بعد الحادث:
من واشنطن، يرى مدير شئون إيران فى مجموعة الأزمات الدولية على فايز، فى حديث خاص لموقع "سكاى نيوز عربية"، أنه "يمكن التقليل من تأثير التحولات الرئاسية الإيرانية بعد وفاة رئيسى". وبشأن تأثير الحادث على ملف السياسات الخارجية، أوضح أن "هناك شيئا واحدا واضحا؛ فخلال الأسابيع القليلة المقبلة، ستظل إيران تركز اهتمامها داخليا حيث تختار رئيسها التاسع". وعن مهام خليفته، قال إنه "كرئيس للسلطة التنفيذية، سيواجه خليفة رئيسى القيود الهيكلية نفسها التى أعاقت أسلافه، فلن يكون الصوت الحاسم فى مسائل الأمن القومى ولن تكون له السيطرة الكاملة على سياسات الحكومة وخيوط المال". "لكن مكتب الرئيس وضع جدول الأعمال المحلى، وقرر التعيينات الرئيسية، وحدد النغمة التى تتحدث بها الجمهورية الإيرانية إلى العالم"، وفق مدير شئون إيران بمجموعة الأزمات الدولية.
بينما رجح الباحثون المتخصصون في مركز إدارة الأزمات بلندن، فى الشأن الإيرانى وقضايا الشرق الأوسط، ألا تتأثر السياسات الإقليمية لإيران بشكل كبير، مشددين على أن "الحرس الثورى الإيرانى ستظل له هيمنة وسيطرة كبيرة على هذا الملف، وبالتالى ستكون تلك السياسات كما هى ولن تتغير". وينطبق ذلك أيضا على السياسة الدولية الإيرانية وفق المحللين، التى لن تتأثر كثيرا؛ باعتبار أن من يخلف وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان سيكون من هذا التيار. كما أن "المرشد والحرس الثورى الإيرانى سيستمران فى السيطرة على القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالسياسة الخارجية".
الملف النووى هل يتأثر بمصرع عبد اللهيان؟
أما عن التأثير المحتمل فى الملف النووى الإيرانى، فحسب الباحثين المتخصصين فى الشأن الإيرانى، فإن منصب وزير الخارجية كان بمنزلة "ناقل للرسائل وليس مقررا للسياسات"، إذ يرتبط هذا الملف بشدة بوجهة نظر المرشد مباشرة."فى كل الأحوال فالمرشد هو من يرسم السياسة الداخلية والخارجية، وكيفية تنسيق العلاقات مع الدول الأجنبية"، ويُنظر لـعبد اللهيان، المقرب من الحرس الثورى، باعتباره رجل الدبلوماسية فى البلاد الذى واجه الغرب، وقاد محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة حول برنامج إيران النووى. وفى الوقت ذاته، اعتبر موقع وزارة الخارجية الإيرانى، أن باقرى لعب دورا محوريا فى المفاوضات النووية بين إيران والغرب خلال العامين الماضيين. كما أعلنت الخارجية الإيرانية، أن وفاة الرئيس إبراهيم رئيسى لن تؤثر على جهودنا فى تأمين مصالح الشعب وأداء دور بناء وإقليمى ودولى.
البعد الاقتصادى.. والدور الرئيسى فى أزمات الداخل:
خلال فترة ولاية رئيسى، فقدت العملة الإيرانية 55 % من قيمتها، بالإضافة إلى ذلك، شهدت البلاد انتهاكات أمنية كبيرة أدت إلى تدهور سمعة التيار المتشدد بشكل ملحوظ وتراجع الدعم والتضامن معه.
وبالتأكيد سيترك مقتل رئيسى علامة فى المشهد الإيرانى، فالتظاهرات التى شهدتها البلاد على خلفية قضية مهسا أمينى ليست ببعيدة، كما يستمر الضغط الاقتصادى كأحد العوامل الرئيسية التى تحرك البلاد. خمسون يوما قد تفصل إيران عن مستقبل مغاير بعد حادثة مصرع الرئيس إبراهيم رئيسى بدأ العد التنازلى لها يوم الثلاثاء 21مايو وسط تنبؤات وسيناريوهات عديدة ترسم مستقبل إيران التى تنغمس حتى أعلى رأسها فى أحداث المنطقة.
وعن تفاصيل الـ50 يوما التالية فى إيران، أعلن المرشد الأعلى آية الله على خامنئى، الحداد الوطنى لمدة 5 أيام، كما كلف المرشد الإيرانى محمد مخبر بتولى مهام الرئيس فى إيران، وقال خامنئى إن النائب الأول للرئيس محمد مخبر هو المسئول عن السلطة التنفيذية وفقا للدستور، مشيرا إلى أن أمام مخبر مهلة أقصاها 50 يوما للترتيب للانتخابات بالتنسيق مع رؤساء السلطتين القضائية والتشريعية. وأعلن المتحدث باسم مجلس صيانة الدستور، هادى طحان نظيف أنه سيتم تشكيل مجلس يضم رئيس البرلمان الإيرانى ورئيس السلطة القضائية ومسئولين آخرين لتهيئة الظروف لإجراء انتخابات رئاسية خلال 50 يوما. وقال وطحان: "إنه وفقا للدستور الإيرانى، يتولى النائب الأول لرئيس الجمهورية صلاحيات الرئيس بعد موافقة قائد الثورة الإسلامية آية الله السيد على الخامنئى".
وبحسب الدستور الإيرانى تولى النائب الأول للرئيس الإيرانى محمد مخبر رئاسة الجمهورية بشكل انتقالي فى 20 مايو، ويتمتع بصلاحياته بموافقة المرشد الأعلى، وشغل محمد مخبر منصب النائب الأول للرئيس الإيرانى منذ تعيينه فى 8 أغسطس 2021، بناء على اختيار رئيسى له، وكان مخبر رئيسا للجنة تنفيذ أمر الإمام، وهى مؤسسة غير حكومية مختصة بالشئون الخيرية فى الفترة من 15 يوليو 2007 حتى 8 أغسطس 2021.
كما شغل مخبر الذى يحمل درجتى دكتوراه فى القانون الدولى والإدارة منصب نائب الرئيس التنفيذى والعضو المنتدب لشركة خوزستان للاتصالات، والعضو المنتدب لشركة دزفول للاتصالات، ونائب وزير التجارة والنقل لمؤسسة المحرومين، ونائب محافظ خوزستان. كما تم تعيين على باقرى رئيس لجنة العلاقات الخارجية وزيرا للخارجية فى الحكومة الإيرانية خلفا لـ حسين أمير عبد اللهيان.
وأشار المحللون إلى أن مصرع الرئيس الإيرانى لن يؤدى إلى تغييرات جوهرية فى سياساتها المتبعة فى غزة، والعراق، ولبنان، وكذلك فيما يتعلق بالملف النووى الإيرانى والمفاوضات الجارية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة مع الجانب الأمريكى. وأضافوا أن هذه الملفات الكبرى تظل تحت إشراف المرشد الإيرانى، الذى يملك فعليا السلطة السياسية العليا فى البلاد.
وكانت أهمية الرئيس الراحل إبراهيم رئيسى تتجلى فى كونه يمثل المرحلة المقبلة من الخلافة، حيث كانت أهميته بشكل أكبر بالنسبة لمستقبل النظام السياسى بالمقارنة مع الوضع الحالى لهذا النظام.
تبدأ تداعيات غياب رئيسى فى التبلور بعد مرور الـ 50 يوما، ما سيسلط الضوء على مدى قدرة المرشد الأعلى على تمهيد الطريق أمام رئيس جديد يتسم بمواصفات رئيسى. وتُعد الأيام الخمسون المقبلة ذات أهمية كبيرة، حيث إن استقرار إيران يلعب دورا جوهريا فى استقرار المنطقة بأسرها. تشير الأحداث الحاصلة على الساحة الإيرانية إلى وجود معركة سياسية مشتعلة للغاية. فقد كان هناك عدم رضا واستياء شديدين تجاه إبراهيم رئيسى فى إيران من قبل خصومه السياسيين والمواطنين، أثر إقراره قوانين مثيرة للجدل مثل "قانون العفاف والحجاب" الذى أثار جدلا واسعا أسفر عن مقتل مهسا أمينى وأوقعت آلاف الضحايا نتيجة هذا التصعيد الأمنى الناجم عنها. وتُعد الأزمات التى تواجه الدول فرصة لإعادة تقييم الاتجاهات والقرارات بشكل أعمق.
الهروب من شرنقة العقوبات:
فرضت الولايات المتحدة أواخر أبريل سلسلة عقوبات جديدة على تجارة النفط الإيرانية، بما فى ذلك عقوبات على الموانئ والسفن والمصافى الأجنبية المشاركة فى استيراد أو شحن المنتجات النفطية الإيرانية، رغم أن مصادر السوق قالت إنه لم يكن لها تأثير كبير حتى الآن على التدفقات.
وتواصل مصافى التكرير الصينية المستقلة إبداء اهتمامها بالنفط الخام وزيت الوقود الإيرانى، على الرغم من أن هوامش التكرير الضعيفة أثرت على الواردات الأخيرة، حيث بلغت أحجام إبريل 4.54 مليون طن مترى (1.11 مليون برميل يوميا) بانخفاض 5.5 % عن مارس، وفقا لبيانات من (كوموديتى إنسايتس).
وتعتبر الخامات الثقيلة الموردة إلى آسيا أساسية للتدفقات الإيرانية، إذ إن معظم إنتاج النفط الخام الإيرانى من الدرجات الثقيلة والمكثفات. وتتنافس الخامات الثقيلة التى تمتلكها إيران بشكل مباشر مع خامات مثل الخام السعودى العربى الثقيل والعربى الخفيف والعربى المتوسط، والبصرة الخفيف، البصرة المتوسط، البصرة الثقيل؛ وخام زاكوم العلوى فى الإمارات؛ مزيج النفط الخام العُمانى، وخام التصدير الكويتى، وغيرها من الخامات. كما تنتج إيران وتصدر النفط أو المكثفات منخفضة الكبريت، خصوصا من حقل بارس الجنوبى، التى تشبه فى الجودة المكثفات التى تنتجها النرويج وقطر والولايات المتحدة وأستراليا. وبدأت إيران 2021 بشحن النفط الخام من محطة جديدة فى جاسك، على ساحل بحر عمان، بخط أنابيب بسعة مليون برميل يوميا من حقول نفط غرب كارون. وتمتلك إيران أسطولها الخاص المكون من 60 ناقلة، واستخدمت فى السابق سفنها كمخزن عائم.
ختاما: تبدو الأيام المقبلة على جانب كبير من الأهمية فى ترتيب الشأن الداخلى الإيرانى ومن ثم مستقبل العلاقات الإقليمية، حيث تتشابك المصالح الإيرانية سياسيا واقتصاديا مع العديد من الملفات المشتعلة فى الإقليم والعالم.