"سواء كان أنا.. أو الزلزال.. أو التوابع.. فاللى حصل ده كان لازم يحصل، لأنه الترقيع مينفعش، البزرميط مينفعش، وبعدين الفن مهوواش طبيخ، الدكتور برهان جه وقال: عايزين نعمل تحفة، ترمز لتاريخ مصر كله، بس تاريخ مصر كبير أوى وطويل، فرعونى على قبطى على رومانى على يونانى على عربى، ومن ناحية تانية بتبص على البحر لكن الذوق غير الذوق، الطعم غير الطعم واللون غير اللون، ومفيش حاجة جت وعجنت ده كله فى بعضه وطلعت فن مصرى نقدر نقول عليه الفن المصراوى اللى بجد، يبقى نعمل اللى احنا عارفينه، وأنا لعبتى إيه؟.. "الأرابيسك" يبقى نتكل على الله ويلا، واحد تانى يقول مصر دى طول عمرها على البحر وزى ما الأوروبيين عملوا احنا نعمل، الجريك والفرنساويين واليونان أخدوا مننا وهضموا اللى خدوه واتطوروا، نعمل زيهم ونطلع لقدام، ماشى مبقولش لأ مادام فاهم وبيحب مصر، والحمد لله إن الفيلا وقعت عشان نرجع ونبتدى مع مصر من أول وجديد على ميه بيضا، لكن المهم نعرف احنا مين وأصلنا إيه وساعة مانعرف احنا مين هنعرف احنا عايزين إيه، وساعتها نتكل على الله..."..
هكذا، وعبر ذلك المونولوج الطويل وبأداء ومشاعر صادقة قدم حسن أرابيسك "صلاح السعدنى" وصفة مصراوية بديعة لحلم مواطن مبدع ومثقف يعى دوره، ويقدم خالص خبراته المهنية ورؤيته الجمالية المستمدة من خبراته بتراث بلده وتاريخها الثرى والمتنوع رغم نصيبه المحدود من التعليم، كما رسم الشخصية الكاتب العظيم أسامة أنور عكاشة فى رائعته "أرابيسك وسيرة حسن النعمانى"..
هكذا، ونحن نودع فنانا مصريا أصيلا وصادقا وصاحب تاريخ إبداعى متميز، وأحد رموز النخبة المبدعة المثقفة، يتأكد لنا كيف كان "السعدنى" يؤمن بأن النخبة هى محرك التغيير والتحديث والتطوير فى المجتمعات الحديثة، فأى مجتمع ليست له نخبة فاعلة تاريخيا لا يمكن أن ينتقل إلى الأفضل، وهو ما يتفق إلى حد كبير مع رأى المفكر الإيطالى "أنطونيو جرامش" الذى يرى أن للمثقف العضوى دورا أساسيا فى التغيير، وهو وحده القادر على تكوين طبقة جديدة من المثقفين العضويين المرتبطين بهموم الناس وقضاياهم.
لقد نجح "السعدنى" فى تجسيد صورة البطل الشعبى المصرى "حسن النعمانى" على الطريقة "العكاشية" عبر إبراز حسه بالمجتمع، وبوصلته الأخلاقية، حسن مش عايش لنفسه، حسن عايش للناس وبالناس، وكما قال سيد حجاب فى تتر المسلسل:
"دنياك سكك .. حافظ على مسلكك
وامسك فى نفسك .. لا العلل تمسكك
وتقع فى خية تملكك… تهلكك
أهلك .. يا تِهلك .. ده انتا بالناس تكون"
أما شخصية "عبد الواحد" اليسارى، فقد لعبها "السعدنى" بروعة ولمسة ساخرة فى فيلم "فوزية البرجوازية" عن قصة للكاتب "أحمد رحب" الساخر الأعظم فى دنيا الإبداع الأدبى، وسيناريو وحوار الكاتب الساخر والدراماتورجى "عاطف بشاى" الذى بات متخصصًا فى إبداع ما يمكن وصفه بــ "الدراما الكاريكاتورية" ليحول شخوص الأدب الساخر ونكات الكاريكاتير إلى نجوم دراما على الشاشتين السينمائية والتلفزيونية تتفاعل فى دراما حياتية يتعايش معها الناس فى الشارع ويرددون نكاتها.
نعم، لقد تحولت الكثير من الجمل التى قيلت فى هذا الفيلم إلى جمل يرددها أهالينا فى حواراتهم وحياتهم، واستمر تأثير الفيلم حتى إن "بشاى" كاتب السيناريو والحوار تعرض - عقب نجاح "السعدنى" بنظارته السميكة حامل الكتب زبون "مقاهى اللسان" فى رسم أبعاد الشخصية اليسارية فى تلك الفترة - لهجوم هائل وغضب حنجورى لما اعتبروا أن العمل إهانة لوطنية أهل اليسار فى عموم مقاهى المحروسة، وبعد أن صار الناس فى الشارع المصرى يتناجزون بتعبيرات كثيرة وردت على لسان مبدعنا الراحل "السعدنى" بنظارته "كعب كوباية" وزوجته المناضلة "إسعاد يونس" وردود أفعال نجوم الحارة المصرية، التى ضمنها حوار الفيلم من نوعية: يابورجوازى يامتعفن - اخرس يايمينى يارجعى - اسكت يا ديماجوجى يا عديم الأيديولوجية - يا إمبريالى ياعميل، لكنه أغضب بشكل ملموس كل المنتمين إلى اليسار بجميع أطيافهم.. وشنوا ضد الفيلم وضد السيناريست حملات غضب إعلامية، وأخرى تعاطفًا مع "السعدنى" عبد الواحد اليسارى المناضل.. تضمنت الحملة كما يذكر "بشاى" فى مقاله الأسبوعى بمجلة "روزاليوسف" توجيه الاتهامات الشائنة للعمل والجاهزة لديهم من خيانة مزرية للتوجهات التقدمية المذهبية وعمالة منحطة لقوى الرجعية الفكرية، ومن تواطؤ رخيص مع اليمين الرجعى، وانبطاح ذميم لاستراتيجية التآمر ضد المشروع القومى لتحالف الكتلة الثورية النهضوية فى مواجهة أعداء التنوير السياسى والعقائدية الهيجيلية الجدلية، حتى ذكر "بشاى" فى حينه أنه قد صار منبوذًا بينهم يتأففون من التحدث معه، ويتجنبون وجوده.. وحرضت مناضلة حنجورية الرفاق ضده فرفضوا مجرد مصافحته، بعد أن أعلن مبدعنا الراحل "صلاح السعدنى" معلومة مفادها أنى أقصدها بشخصية "عنايات" التى جسدتها "إسعاد يونس"، وكعادته فى ممارسة ردود فعله الدرامية الساخرة، يذكرنا السيناريست مدافعًا أنه لا يمينى ولا يسارى، وأنه قبطى أرثوذكسى!!
رحم الله صلاح السعدني الممثل المصرى المثقف الوطنى المبدع، ونفع بعبقريته الملهمة بما قدم الأجيال اللاحقة.