فى احتفالية «يوم المرأة المصرية»، توقف الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام ظاهرة عدم خفض أسعار السلع فى الأسواق بما يتناسب مع ما حدث من تطورات اقتصادية إيجابية أخيرا، خاصة ما يتعلق بانخفاض سعر الدولار، وعودة الثقة إلى الاقتصاد الوطنى من المؤسسات الاقتصادية المالية العالمية، مشيرا إلى أنه قد يكون من المفيد ضرورة تدخل الدولة وتدبير ما يلزم ذلك من موارد قد تصل إلى ما يقرب من 3 مليارات دولار، لتوفير السلع الأساسية للمواطن، وطرحها بالأسواق، لإحداث التوازن المطلوب فى الأسعار.
أعتقد أن هذه الرسالة القوية من الرئيس إلى الحكومة جاءت فى توقيتها الصحيح، لأن هناك عددا من المحتكرين وكبار التجار لا يزالون يقاومون بشراسة عودة الأسعار إلى معدلاتها الطبيعية، ويتمسكون بـ«تعطيش» الأسواق، والإصرار على الاستمرار فى الأسعار الخيالية للسلع على الرغم من انخفاض سعر الدولار، وتوفيره فى البنوك لمن يرغب من المستوردين طبقا للأسس والقواعد المتبعة فى هذا الإطار.
هؤلاء لا هدف لهم سوى الاستمرار فى مكاسبهم الخيالية التى تجاوزت المليارات، ومن هنا جاء توجيه الرئيس للحكومة بضرورة التدخل، ولو بشكل مؤقت، لإعادة التوازن إلى الأسعار فى الأسواق، لكى يشعر المواطن بالتحسن الطبيعى بعد نجاح الدولة المصرية فى الخروج من عنق الأزمة الاقتصادية الحادة التى بدأت بتوقيع صفقة «رأس الحكمة» بقيمة 35 مليار دولار، ثم التوقيع مع صندوق النقد الدولى بقيمة 9٫2 مليار دولار، والاتفاق التاريخى مع الاتحاد الأوروبى، فى الأسبوع الماضى، بما يقرب من 8٫5 مليار دولار، وأخيرا الاتفاق مع مجموعة البنك الدولى على تقديم أكثر من 6 مليارات دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة، بواقع 3 مليارات دولار إلى البرامج الحكومية، ومثلها لدعم القطاع الخاص.
كل هذه التمويلات انعكست بشكل إيجابى وسريع على حالة أسعار العملات الأجنبية، حيث هبط سعر الدولار فى السوق السوداء من مستوى 70 جنيها إلى ما يقرب من 45 جنيها قبل تحرير سعر الصرف، وبعد قرار توحيد وتحرير سعر الصرف، ارتفع إلى 51 جنيها، ليعاود الهبوط مرة أخرى، ويصل إلى حدود 46 جنيها فى نهاية تعاملات الأسبوع الماضى، والمؤكد أنه سوف يستمر فى رحلة الهبوط خلال الأسبوع الحالى والأسابيع المقبلة، ليصل إلى مستواه الطبيعى.
على الرغم من كل ذلك، فإن هناك فئة من التجار والمحتكرين لاتزال تقاوم بعنف استقرار الأسواق، وتعمل جاهدة على استمرار حصد المليارات الحرام، بعد أن أداروا ظهورهم للدولة وقت الأزمة، ويريدون استمرار تفاقم الأوضاع على الرغم من تجاوز تلك الأزمة. ومن هنا، فإن تدخل الحكومة ضرورى وحاسم فى هذا التوقيت على مستويين:
الأول يتعلق بتوفير السلع، كما وجه الرئيس خلال احتفال «يوم المرأة المصرية»، خاصة أن الحكومة لديها سلسلة ضخمة من المنافذ والشركات التابعة لوزارة التموين، والشركة القابضة للسلع الغذائية، ومنافذ القوات المسلحة، ووزارة الداخلية، والبقالين التموينيين المنتشرين فى كل مكان من أجل توفير السلع بما يتناسب مع حاجة الطلب، والوصول إلى نقطة التعادل بين العرض والطلب.
ثانيا: الضرب بيد القانون الحديدية على أيدى هؤلاء التجار والمحتكرين فى كل المجالات بدءا ممن يحاولون إحياء السوق السوداء للدولار، مرورا بكبار المحتكرين والموزعين فى مختلف السلع (سلع غذائية، وأدوات كهربائية، وسيارات، وحديد، ومواد بناء وغيرها من المنتجات)، واتخاذ كل ما يلزم لمصادرة تلك السلع، وطرحها فى المنافذ التابعة للدولة بأسعارها الطبيعية، بالإضافة إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والضريبية بحق هؤلاء المحتكرين، بما يضمن خضوعهم لسلطان القانون، وإلزامهم بدفع مستحقات الدولة كاملة.
أعتقد أن تجار الأزمات مثلهم مثل أثرياء الحروب، لا هدف لهم سوى جنى المبالغ الطائلة على حساب بنى وطنهم من البسطاء وجميع الفئات الأخرى، ومن هنا، فإن مواجهتهم أصبحت ضرورة الآن بعد أن استعاد الاقتصاد المصرى حيويته، ونجح فى «كسر طوق الأزمة»، ونال ثقة مؤسسات التمويل الدولية، وكذلك مؤسسات التصنيف العالمية.
هذه الثقة بلغت قمتها فى الأسبوع الماضى، وبالتحديد يوم الاثنين الماضى، حينما جاء وفد ضخم من الاتحاد الأوروبى برئاسة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، ومعها قادة وزعماء خمس دول من الاتحاد الاوربى، وهم: رئيس وزراء بلجيكا بصفته الرئيس الحالى للاتحاد الأوروبى، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلونى، ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتوتاكيس، والمستشار النمساوى كارل نيهامر، والرئيس القبرصى نيكوس خريستو دوليدس.
كل هؤلاء جاءوا لتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبى تقديرا لمصر ومكانتها ودورها الإستراتيجى فى المنطقة والعالم، وتأكيد الثقة فى قدراتها الاقتصادية والسياسية، وتم ترجمة كل ذلك إلى توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبى، وما استتبعها من تقديم دعم مالى لمصر من خلال حزم مالية واستثمارية تصل إلى 7٫4 مليار يورو، بما يساوى 8٫5 مليار دولار، فى إطار رؤية أوروبية متكاملة لدعم مصر اقتصاديا، والتوسع فى الاستثمارات الأوروبية فى مصر بمختلف المجالات، خاصة فى قطاعات الموارد المائية، والكهرباء، والزراعة والطاقة، وغيرها من القطاعات.
الشراكة مع الاتحاد الأوروبى تعنى الشراكة مع ثانى أكبر اقتصاد عالمى بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يمتلك الاتحاد الأوروبى نحو 22٪ من الناتج المحلى الإجمالى العالمى، وعملته «اليورو» هى ثانى أكبر عملة احتياطية فى العالم، وثانى أكثر العملات المتداولة عالميا بعد الدولار، بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبى يعد واحدا من أضخم الأسواق العالمية بما يحتويه من 27 دولة، البالغ عدد سكانها نحو 500 مليون نسمة.
خطوات سريعة ومتلاحقة حدثت خلال شهر واحد، بدأت بتوقيع اتفاق أضخم صفقة استثمار أجنبى مباشر فى تاريخ مصر، لتنمية «رأس الحكمة»، فى 23 فبراير الماضى، ثم تبعها توقيع الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولى فى 6 مارس الحالى، ثم قرار تحرير سعر الصرف، وما تلاه من عودة الاستقرار إلى الأسواق، وعودة تحويلات المصريين إلى مسارها الطبيعى فى البنوك وشركات الصرافة المعتمدة، وبدء رحلة تنازل أعداد كبيرة من المضاربين والتجار والمواطنين عن العملات الأجنبية خشية تكبد المزيد من الخسائر، بعد توحيد أسعارها، وتراجع هذه الأسعار إلى معدلاتها الطبيعية نتيجة زيادة المعروض.
بعد ذلك جاء توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية المصرية ــ الأوروبية، ليكون بمنزلة شهادة ثقة كبرى فى الاقتصاد المصرى، ويعود معه الاستقرار إلى الأسواق، حيث من المتوقع أن تشهد حصيلة تدفقات العملات الأجنبية ارتفاعا غير مسبوق، وبما يقارب 65 مليار دولار، ممثلة فى 35 مليار دولار من صفقة «رأس الحكمة»، و9٫2 مليار دولار من صندوق النقد الدولى، و8٫5 مليار دولار من الاتحاد الأوروبى، و6 مليارات من البنك الدولى، بالإضافة إلى الحصيلة المتوقعة من حصة تخارج الدولة من الأصول المملوكة لها، التى تقترب من 6٫5 مليار دولار حتى نهاية العام الحالى.
هذه الحصيلة تعد أكبر تدفق للنقد الأجنبى فى الاقتصاد المصرى خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يعزز فرص نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادى المصرى، ونجاح قرار تحرير سعر الصرف الذى اتخذه البنك المركزى من خلال توفير احتياجات الأسواق من النقد، ومحاصرة الضغوط التضخمية، ليؤدى كل ذلك فى النهاية إلى تراجع أسعار السلع خلال المرحلة المقبلة، ليبدأ المواطن فى الشعور بالتحسن النسبى الحقيقى، وفى الوقت نفسه يضمن للاقتصاد الوطنى عدم تكرار هذه الأزمات مستقبلا.
يتبقى بعد ذلك أن تنجح الموازنة المقبلة للعام المالى 2024/2025 فى ترجمة كل ذلك لزيادة قدرة الاقتصاد الوطنى على مواجهة التحديات بإصلاحات جريئة وحاسمة، ومواجهة التضخم بسياسات اقتصادية أكثر كفاءة، والتركيز على القطاعات الإنتاجية فى إطار رؤية التغيير الهيكلى للاقتصاد المصرى إلى اقتصاد إنتاجى متكامل، والتركيز على قطاعات الصناعة والزراعة والإنتاج ومنحها الأولوية المطلقة والمساندة الكاملة.