لم يكن من المقبول أو المعقول استمرار وجود سعرين للعملات الأجنبية: الأول بالسعر الرسمى فى البنوك، والثانى فى السوق السوداء، وبينهما فجوة ضخمة وعميقة تزداد بشكل عشوائى، وتنخفض أيضا بشكل عشوائى، مما أنعش سوق المضاربين وتجار الأزمات الذين أثروا بالملايين، وربما بالمليارات، نتيجة هذه الازدواجية «الفجة» وغير المعقولة.
تأخير القرار كانت له مبرراته الوجيهة والمهمة، فالتوقيت فى اتخاذ مثل هذا القرار له اليد العليا فى نجاحه وتأثيره الإيجابى أو العكس، لأنه فى ظل الأزمة، و«شح العملة الأجنبية» يكون قرار تحرير سعر الصرف «خاطئا» تماما، وبالتالى كان المهم انتظار التوقيت المناسب والمدروس بعناية لاتخاذ القرار، وضمان نجاحه، وتحقيق الهدف منه، وهو توحيد سعر الصرف، والقضاء على السوق السوداء.
فى الفترة السابقة على اتخاذ القرار تحركت الدولة بقوة، لحل مشكلة نقص موارد العملة الأجنبية، وتكللت تلك الجهود الماراثونية الضخمة بتوقيع أضخم صفقة استثمار أجنبى مباشر بين الحكومتين المصرية والإماراتية، وبرعاية مباشرة من الرئيسين عبدالفتاح السيسى ومحمد بن زايد، لتطوير منطقة «رأس الحكمة» بعوائد مباشرة تبلغ 35 مليار دولار، بالإضافة إلى العوائد غير المباشرة التى تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وصافى عائد يصل إلى 35٪ من أرباح المشروع مدى الحياة.
العوائد المباشرة، التى بلغت 35 مليار دولار، تعنى ببساطة أن هذه العوائد تتساوى مع إجمالى احتياطى البنك المركزى من النقد الأجنبى، البالغ 35.310 مليار دولار، طبقا لبيان البنك المركزى الأخير فى نهاية شهر فبراير الماضى.
دخول الصفقة حيز التنفيذ، ودخول عوائدها المباشرة المقررة فى مرحلتها الأولى، التى بلغت 15 مليار دولار «ما بين 10 مليارات دولار تحويلا نقديا مباشرا، و5 مليارات دولار المخصصة كوديعة إماراتية» أسهم فى إحداث توازن ضخم فى أسعار العملات الأجنبية، وبدأ الجنيه المصرى يستعيد بعضا من قوته أمام الدولار، وخسر الدولار ما يقرب من 30 جنيها دفعة واحدة فى السوق السوداء.
الخطوة الثانية التى سبقت تحرير سعر الصرف هى الاتفاق مع صندوق النقد الأجنبى، الذى أعلنه رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولى، صباح الأربعاء الماضى، بقيمة 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى 1.2 مليار دولار إضافية، لتصل القيمة الإجمالية إلى 9.2 مليار دولار.
ميزة الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع قروضه وشروطه، أنه يعطى شهادة ثقة مهمة وضرورية لأى اقتصاد فى العالم أمام شركاء التنمية والجهات الدولية، وتوقيع الاتفاق معه بمنزلة شهادة ضرورية للاقتصاد المصرى أكدت قدرته على مواجهة التحديات الاقتصادية، وفى الوقت نفسه ألزمته بضرورة استدامة الإصلاحات الهيكلية، وتخفيض التضخم، والالتزام ببرنامج الإصلاح الاقتصادى.
كل هذه الإجراءات كانت ضرورية قبل تحرير سعر الصرف، وقد انعكست بشكل إيجابى على حالة أسواق الصرف، وتراجع معها سعر صرف العملات الأجنبية بشكل طبيعى، مما شجع البنك المركزى على اتخاذ خطوة تحرير سعر الصرف، التى كانت مؤجلة، لتهيئة الظروف اللازمة لنجاحها.
على الفور ــ وبعد توافر هذه الظروف ــ اتخذ البنك المركزى القرار «الصائب» فى التوقيت «الصحيح» بتحرير سعر الصرف بهدف القضاء على السوق الموازية، وإنهاء عصر السوق السوداء للعملات الأجنبية، وخفض معدلات التضخم، والسيطرة على أسعار السلع والخدمات.
فور إعلان تحرير سعر الصرف، ارتفع سعر الدولار إلى نحو 51 جنيها، فى حين كان سعره فى السوق السوداء قبل التحرير فى حدود 42 جنيها، لكن هذا الارتفاع المفاجئ «لا يقلق» ، وهو ظاهرة عادية مصاحبة لتحرير سعر الصرف فى كل مرة، ثم يعاود الانخفاض التدريجى بعد ذلك، حتى يصل إلى سعره الطبيعى أو ما يسمى «السعر العادل اقتصادياً»، الذى يتناسب مع العرض والطلب الطبيعى بعيدا عن شطط المضاربين وتلاعب المحتكرين.
بعد أقل من 24 ساعة، تراجع سعر الصرف إلى حوالى 49 جنيها، ومن المتوقع أن يواصل الهبوط إلى دون ذلك، فى ظل وفرة المعروض من البنوك، واستجابتها لطلبات الموردين التى كانت مؤجلة منذ فترة طويلة.
من هنا جاءت زيارة رئيس مجلس الوزراء، د. مصطفى مدبولى، لميناء الإسكندرية بصحبة عدد من الوزراء، لمتابعة الإفراج عن البضائع تنفيذا لتوجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بالبدء فورا فى توفير الاعتمادات اللازمة للإفراج عن السلع الغذائية والأدوية والأعلاف ومنتجات البترول والمواد الخام ومستلزمات الإنتاج من أجل دوران عجلة الاقتصاد مرة أخرى، وعودتها إلى معدلاتها الطبيعية بعد فترة من التوقف والارتباك.
فى رأيى أن هذه الزيارة كانت ترجمة عملية لإيجابيات قرار تحرير سعر الصرف، لأنها تعنى انتهاء عصر السوق السوداء فى تدبير العملات الأجنبية، وإظهار قدرة البنوك على تلبية متطلبات واحتياجات الموردين الطبيعية، خاصة تلك السلع الضرورية للأسواق مثل الأغذية والأدوية، أو مستلزمات الإنتاج، من أعلاف ومواد خام ومنتجات بترولية، وغيرها.
صفقة «رأس الحكمة»، ثم تحرير سعر الصرف وتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، ثلاثى مترابط، ولا ينفصل عن بعضه البعض كبداية ضرورية للخروج النهائى والدائم من الأزمة الاقتصادية التى عاناها الاقتصاد المصرى مؤخرا، وسوف يكون لهذا الثلاثى «انعكاسات إيجابية ضخمة» على الأوضاع الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة للأسباب التالية:
أولا: صفقة «رأس الحكمة» بضخامتها وقوتها أكدت الثقة فى الاقتصاد المصرى، وقدرته بموارده الذاتية على تخطى المشكلات الاقتصادية «الخانقة»، التى انعكست بالضرورة على الاقتصاد الوطنى، وجاءت الصفقة لتعيد التوازن والثقة إلى قدرات مصر الاقتصادية، وتؤكد جاذبية الاقتصاد الوطنى للاستثمار الأجنبى المباشر، مما يفتح الباب أمام صفقات أجنبية مباشرة أخرى تتم دراستها الآن بعناية ودقة، للإعلان عنها فور انتهاء تفاصيلها.
هذه الصفقات ــ كما أعلن د. مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، الخميس الماضى، فى أثناء زيارته ميناء الإسكندريةــ سوف تضمن القضاء بصورة نهائية على أزمات العملة الصعبة، وتدبير السيولة المادية اللازمة خلال المرحلة المقبلة.
ثانيا: الاتفاق مع صندوق النقد الدولى جاء فى إطار الثقة فى الاقتصاد المصرى، وهو ما انعكس إيجابيا، وبشكل سريع، على تصنيف مصر الائتمانى، حيث عدلت وكالة «موديز» للتصنيف الائتمانى النظرة المستقبلية للاقتصاد المصرى من سلبية إلى إيجابية بعد توقيع الاتفاق، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية على الأسواق المحلية، ويسهم فى سرعة إبرام الصفقات الجديدة التى أشار إليها رئيس مجلس الوزراء الخميس الماضى، وبالتالى استمرار تحسن التصنيف الائتمانى، ليعود أفضل مما كان عليه خلال المرحلة المقبلة.
ثالثا: تحرير سعر الصرف يعنى القضاء على السوق السوداء للدولار، ونهاية المضاربات والاحتكارات، وعودة موارد العملات الأجنبية إلى مصارفها الطبيعية «البنوك والمصارف، وشركات الصرافة المعتمدة والمرخصة»، لأنه لن تكون هناك حاجة إلى إخفاء العملات الأجنبية أو التعامل فيها من وراء ستار، فى ظل ترك السعر للعرض والطلب بشكل طبيعى وعادل بعيدا عن فرض سعر أدنى من سعره الطبيعى أو تسعيره بشكل خيالى وجنونى من المضاربين والمحتكرين وتجار الأزمات، والمافيا والعصابات فى الداخل والخارج، ومن كان يساعدهم من أبواق الشر والمتربصين الراغبين فى الإضرار بالاقتصاد الوطنى، وهدم كيانات الدولة.
من هنا جاء تأكيد محافظ البنك المركزى، حسن عبد الله على أنه تم توفير التمويل اللازم من البنوك لدعم السيولة من النقد الأجنبى، فى إطار إنهاء الأزمة الاقتصادية، ووضع الاقتصاد على مسار مستدام ومستقر خلال المرحلة المقبلة.
يبقى السؤال: متى يشعر المواطن بالآثار الإيجابية لتلك الإجراءات، وانعكاساتها على أسعار السلع والخدمات؟!
أعتقد أن الآثار الإيجابية بدأت تظهر بالفعل من خلال تخفيض أسعار بعض السلع والمنتجات فى الأسواق الآن، وإن لم تكن بالشكل الكافى أو الذى يرضى عنه المواطن. لكن من المتوقع أن تظهر تلك الآثار الإيجابية بشكل أكبر وأوسع خلال الأيام والأسابيع والشهور المقبلة بعد دخول السلع والخامات والمستلزمات المفرج عنها إلى الأسواق، خاصة بعد انتهاء عصر التسعير العشوائى للعملات الأجنبية، ووجود سعر واحد معلن وطبيعى.
أيضا، فإن معظم الخبراء والمتخصصين يتوقعون عودة الدولار إلى سعره العادل، الذى يتراوح بين 37 و40 جنيها خلال المرحلة المقبلة، وهو ما سيسهم فى عودة الأسعار إلى معدلاتها الطبيعية قبل الأزمة الحالية، فى ظل وفرة الدولار بالبنوك، وعودة تحويلات المصريين والسياحة إلى القنوات الرسمية، إلى جانب دخول عوائد المرحلة الثانية من صفقة «رأس الحكمة» ، البالغة 20 مليار دولار «ما بين 14 مليار دولار عوائد مباشرة، و6 مليارات وديعة»، وكذلك بدء تدفق 9٫2 مليار دولار من صندوق النقد، إلى جانب ما سيتم إعلانه قريبا من استثمارات أجنبية جديدة وضخمة تضاهى صفقة «رأس الحكمة».
هذه الحزمة الضخمة من الإجراءات، التى دخل بعضها حيز التنفيذ فعليا، أو تلك المتوقع دخولها، سوف تكون بمنزلة تغذية مستمرة لحصيلة موارد مصر من العملة الصعبة، بما يتيح الفرصة أمام الحكومة لإعادة ضبط البوصلة الاقتصادية، والعمل بجدية، فى إطار مناخ هادئ ومستقر، لزيادة الإنتاج، وتقليل الفجوة بين الصادرات والواردات، وإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، وتحويله إلى اقتصاد إنتاجى قوى ومستقر، يكون قادرا على مجابهة الأزمات والمشكلات بكل أشكالها وأنواعها، لكى لا تعود تلك الأزمات المتكررة منذ أكثر من 60 عاما مرة أخرى، وهذا هو المهم.