في عام 1991 استقلت أذربيجان عن الاتحاد السوفياتي السابق. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدولة الشيعية الثانية بعد إيران. لم تكن المذهبية هي العامل الوحيد الذي يفترض أن يجمع بين الدولتين. هناك عوامل عديدة أخرى. منها أن ثلث الشعب الإيراني يتحدر من أصول أذرية. ومنها أيضاً ان لإيران ولأذربيجان شواطئ على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز. ولكن أذربيجان وجدت نفسها، لغوياً وثقافياً وحتى سياسياً، أقرب الى تركيا منها الى إيران. وثبت ذلك عندما انفجرت الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا حول السيادة على اقليم ناكورني كاراباخ. فالاقليم يقع جغرافياً في قلب أذربيجان، إلا أن الأكثرية الساحقة من سكانه من الأرمن. تطورت الأزمة بين الدولتين الى حرب، وقفت خلالها إيران الى جانب أرمينيا، ووقفت تركيا الى جانب أذربيجان. ربحت أرمينيا الحرب وضمت الاقليم اليها بالقوة، الأمر الذي ولّد مرارة شديدة لدى الأذريين من إيران.
دفعت هذه المرارة الرئيس الأذري إلهام علييف الى التعامل مع اسرائيل. شجعته على ذلك علاقات التعاون التي كانت قائمة بين تركيا واسرائيل. ولكن بعد أن ساءت هذه العلاقات كانت أذربيجان قد قطعت أشواطاً بعيدة في التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري، فلم تعد ترى مصلحة آنية لها للتراجع عنه. من مؤشرات ذلك ان اسرائيل تستورد من أذربيجان اكثر من ثلث حاجتها من النفط الخام. وقد وصلت قيمة فاتورتها النفطية في عام 2008 حوالي 3,6 مليارات دولار.
وتتولى شركة اسرائيلية - أذرية تشغيل وإدارة شبكة الاتصالات اللاسلكية وخاصة الهاتف المحمول في أذربيجان. أما عسكرياً، فإن أذربيجان تستورد من اسرائيل معظم حاجاتها من الاسلحة والمعدات العسكرية. وبموجب ذلك يقوم خبراء عسكريون اسرائيليون بتدريب القوات الأذرية على استخدام هذه الأسلحة. حاولت تركيا عبثاً، بعد انهيار علاقاتها مع اسرائيل، حثّ الرئيس علييف على اعادة النظر في هذا التعاون، ولكن من دون جدوى. وقدمت له عروضاً بديلة مغرية للتعاون الاقتصادي والعسكري. إلا أن الرئيس الأذري المطمئن الى صيغة تعاونه مع اسرائيل، رفض العروض التركية من دون أن يدير ظهره لأنقرة. وقد شجعه على ذلك أن تعاونه مع اسرائيل وفّر له مظلة أميركية تشكل قوة ردع معنوية تتصدى للطموحات الروسية التقليدية في بحر قزوين والقوقاز. وأياً يكن من أمر، فإن النفط الأذري الذي تستورده اسرائيل يضخ بالأنابيب الى ميناء جيهان التركي على المتوسط، ومن هناك تنقله الشاحنات البحرية الى ميناء حيفا.
وهكذا يبدو أن ثمة تفاهماً أذرياً أميركياً يتجاوز الموقف التركي- مقابل التفاهم الإيراني الروسي. وفيما تدعم اسرائيل التفاهم الأول، تحرّض العالم ضد التفاهم الثاني على خلفية الملف النووي الإيراني.
وإذا كانت تركيا قد فشلت في جرّ أذربيجان بعيداً عن اسرائيل اقتداءً بما فعلته هي نفسها منذ الجريمة التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية في المياه الدولية ضد سفينة المساعدات الانسانية التركية الى غزة، فان إيران تحاول ضرب العلاقات الأذرية الاسرائيلية بوسائل أخرى.
واستناداً الى المعلومات الرسمية الأذرية، فان إيران كانت وراء عملية اغتيال فاشلة استهدفت السفير الاسرائيلي ميخائيل ليتام المعتمد لدى باكو. وقد ألقت سلطات الأمن الأذرية القبض على ثلاثة إيرانيين كانوا مكلفين بمهمة اغتيال السفير، اعترفوا بأن عمليتهم كانت رداً على سلسلة العمليات التي قام بها الموساد الاسرائيلي في طهران والتي أدت الى اغتيال ثلاثة من العلماء الإيرانيين الاختصاصيين العاملين في المفاعلات النووية الإيرانية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها السفارة الاسرائيلية في العاصمة الأذرية الى مثل هذه المحاولة. فقد جرت محاولة سابقة لم تنجح أيضاً، قامت بها عناصر قالت أذربيجان انها تنتمي الى حزب الله. وان هدف العملية في ذلك الوقت كان رداً على عملية اغتيال القيادي السابق في الحزب عماد مغنية.
والسؤال الذي يفرض نفسه على الرئيس علييف هو: كيف تستطيع المخابرات الاسرائيلية التسلل الى قلب العاصمة طهران لارتكاب جرائم اغتيال العلماء الإيرانيين، ولا تجد إيران وسيلة للوصول الى الأهداف الاسرائيلية إلا في أذربيجان؟ ولماذا في أذربيجان تحديداً؟.
لقد استشهد ثلاثة علماء إيرانيين. ولذلك كانت المهمة المقررة في باكو اغتيال ثلاثة من الرموز اليهودية الاسرائيلية، هي السفير، ومدير المدرسة اليهودية الحاخام ماتي لويس، والحاخام شانيؤر سيغل رئيس الجماعة الدينية اليهودية "حباد". ولكن من سوء حظ الإيرانيين ان المهمة اكتشفت قبل تنفيذها، الأمر الذي ادى الى مزيد من التدهور في العلاقات الإيرانية الأذرية.
يعود أساس هذا التدهور الى أن الثورة الاسلامية الإيرانية لم تجد طريقها الى أذربيجان الشيعية. بل على العكس من ذلك، فان النظام السياسي الاجتماعي الذي ارتضاه الأذريون لأنفسهم هو نظام مدني يحترم الدين ولكن لا يسلّطه، ولا يحكّم رجاله. ونظراً للوجود الأذري الكثيف في إيران، ونظراً لأن الأذريين الإيرانيين يتعاطفون مع النظام القائم في أذربيجان، فانهم يشكون من التمييز ضدهم. لا يعني ذلك بالضرورة ان كل أذريي إيران علمانيون أو مؤيدون للعلمانية، ولكنه يعني ان إيران فشلت في تحويلهم الى جسر للعبور بثورتها الدينية الى أذربيجان.
تتمثل الترجمة السياسية لهذا الواقع في ذهاب الرئيس علييف الى حد التحالف مع اسرائيل؛ صحيح انه سلك الطريق التركي الى هذا التحالف، الا انه لا يرى مصلحة آنية في أن يسلك الآن طريق الارتداد التركي عن هذا التحالف. بل انه يتوقع كما ذكر أكثر من مرة أن تعود المياه الى مجاريها بين أنقرة وتل أبيب بعد تسوية قضية باخرة المساعدات الانسانية التركية، اعتذاراً وتعويضاً.
وتحتل أذربيجان الآن مقعداً في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي يؤهلها للمشاركة في القرارات التي يمكن أن تصدر عن المجلس ضد إيران على خلفية ملفها النووي.. الا اذا رأت مثل لبنان من قبل- أن تنأى بنفسها عن هذه القرارات تجنباً للمزيد من التوتر في العلاقات بين الدولتين الشيعيتين الوحيدتين في العالم الاسلامي!!.
-------------
* نقلا عن المستقبل الإثنين، 13/2/2012.