يصف مصطلح "التسليع" فى مجال الأعمال، بأنه الانتقال من شىء كان سلعة فاخرة إلى سلعة يومية يتم شراؤها وبيعها بأسعار رخيصة. فعندما ظهرت الهواتف الذكية لأول مرة فى السوق، كانت سلعا فاخرة باهظة الثمن. واليوم، على الرغم من أن الهواتف الذكية عالية المواصفات ليست برخيصة، فإن النماذج التى جرى تسليعها منها متاحة بأسعار أقل من 100 دولار.
نشرت مجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية فى 26 ديسمبر 2023، تقريرا حمل عنوان "تقلص تكلفة الحرب يهدد الجيوش الغربية"، رصدت وحللت من خلاله تأثير عملية "التسليع" فى عدة نماذج للحروب التى يشهدها العالم فى الوقت الحالى.
الحرب الروسية الأوكرانية.. تسليع ساحات معارك القرن الحادى والعشرين:
أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الحرب فى أوكرانيا تمر الآن بفترة عنيفة من التسليع؛ حيث تم تطوير التكنولوجيا التى كانت فى الأصل مُخصصة للأغراض العسكرية، مثل نظام تحديد المواقع العالمى (GPS) والبصريات الإلكترونية المتقدمة، وجرى تسليعها مع مرور الوقت لتصبح منتجات استهلاكية، وانخفضت أسعارها بشكل كبير. وأصبحت النسخ المسوقة من هذه التكنولوجيا الآن تستخدم لإنشاء أنظمة أسلحة جديدة فعالة ورخيصة.
ووفقا لتقرير ناشونال استريست الأمريكية، تعد من أبرز الأمثلة على المعدات العسكرية من هذا النوع من التكنولوجيا المتجهة الآن نحو التسليع فى حرب الروسية الأوكرانية، هى طائرة الدرون من نوع ""ZALA Lancetالتابعة للجيش الروسى؛ حيث استخدمت بشكل واسع لاستهداف الدبابات والمركبات الأخرى التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية. وأصبح من الشائع رؤية مقاطع فيديو لطائرات الدرونمن هذا النوعوهى تستخدم لتدمير الدبابات المتقدمة عالية التقنية والتكلفة، مثل الدبابة الألمانية Leopard II.
ومع وضع التكاليف فى الاعتبار، تبلغ تكلفة طائرة ""ZALA Lancetالمسيرة نحو 35,000 دولار، وتتميز بسهولة وسرعة الإنتاج، وفقا لمجموعة شركات "ZALA"المصنعة التى أعلنت زيادة الإنتاج "عدة مرات هذا العام". من ناحية أخرى، تبلغ تكلفة تصنيع دبابة "Leopard II"نحو 11 مليون دولار للقطعة الواحدة، كما أنها بطيئة فى التصنيع؛ حيث يتم إنتاج نحو خمسين دبابة سنويا بحد أقصى.
وعلى أساس التكلفة الخالصة للإنتاج، يمكن لروسيا إنتاج 314 طائرة بدون طيار على الأقل من النوع "ZALA Lancet"لكل دبابة "Leopard II" تنتجها ألمانيا. وتصبح هذه النسبة أكثر دراماتيكية إذا ما أخذنا فى الحسبان الأسعار النسبية فى البلدين من خلال استخدام تعديل القوة الشرائية (PPP) - وهى كيفية يقوم بها الاقتصاديون بإجراء مقارنات اقتصادية دولية دقيقة.
هنا يبرز التساؤل الأهم: هل تعادل القدرة والقوة النيرانية للدبابة "Leopard II" ما يقرب من 400 طائرة بدون طيار من النوع ""ZALA Lancet؟ ربما لا، وهنا تبرز إشكالية القيمة مقابل العائد.
الحوثيون فى مواجهة البحرية الأمريكية:
عبر تاريخ البشرية، كانت قدرة السيطرة على البحار – ومن ثم السيطرة على التجارة - متاحة فقط للبلدان الغنية التى يمكنها تخصيص كمية كبيرة من دخلها الوطنى لبناء أسطول بحرى قوى، ولكن غيرت عملية تسليع الحرب الحديثة هذه الديناميات فى الفترة الأخيرة، على سبيل المثال نجح الحوثيون فى اليمن من فرض حصار بحرى فعّال فى البحر الأحمر دون امتلاك أسطول بحرى!
فى البحر الأحمر، فقد كانت لحظة البداية عندما استهدفت سفينة تجارية بصاروخ إيرانى مضاد للسفن[1]. لا توجد معلومات كافية حول طراز الصاروخ، لكن لا شك فى أن تكلفة الصاروخ أقل بكثير من تكلفة صواريخ الدفاع الجوى التى تستخدمها السفن البحرية الغربية لمواجهتها. وقد أشارت التقارير بالفعل إلى أن البحرية الأمريكية تستخدم صواريخ بقيمة مليونى دولار لإسقاط طائرات بدون طيار حوثية مدعومة بتكنولوجيا إيرانية تتكلف فقط 2000 دولار.
كما تثير طبيعة هذه الأسلحة الجديدة المنخفضة التكلفة مشاكل أكثر جوهرية، فعندما كانت هناك دعوات للبحرية الأمريكية وحلفائها لقصف الحوثيين، وخلال فترة الاستجابة ووصول البحرية الأمريكية إلى الهدف، قد يكون الهدف قد تحول إلى منصة هيكلية، أو على الأكثر منصة إطلاق رخيصة؛ حيث يمكن نقل الصواريخ والطائرات بدون طيار إلى أى مكان فى المناطق التى يسيطر عليها الحوثيون وإطلاقها فى وقت لاحق عن بعد بالاستفادة بالطبيعية الجغرافية هناك.
"الياسين 105" تهز عرش "الميركافا" الإسرائيلية:
فى بداية حرب غزة، بدأت عناصر المقاومة من "حماس" بإطلاق أعداد كبيرة من صواريخ من نوع "القسام" على إسرائيل؛ حيث تعد هذه الصواريخ رخيصة للغاية فى تكلفة التصنيع، ويتم صنع وقود الصواريخ من مزج مكونات مثل السكر والأسمدة ومواد أخرى؛ حيث تبلغ تكلف الصاروخ الواحد فى المتوسط من 300-800 دولار[2]. فى المقابل، يعد نظام الدفاع الجوى الحديدى الشهير هو دفاع إسرائيل الوحيد ضد هذه الأسلحة. وتتكلف إنتاج بطارية واحدة منها ما يقدر بنحو 100 مليون دولار[3]، كما تتكلف كل قطعة من مقاتلات النوع "تمير" التى تطلقها منظومة القبة نحو 50,000 دولار.
وعلى أساس التكلفة الخالصة للإنتاج، يمكن لحماس بناء وتصنيع وتجهيز وتشغيل وإطلاق 99 صاروخا من النوع "القسام" لكل صاروخ إسرائيلى فى القبة الحديدية من النوع "تمير"، وإذا قمنا بضبط القيم بحسب القوة الشرائية PPP، يمكنهم صنع 170 صاروخا، وهنا تكون مقارنة التكاليف واضحة لأن إسرائيل تستخدم صاروخ "تمير" واحد لإسقاط صاروخ "قسام" واحد.
بالمثل، تتعرض الدبابات الإسرائيلية [4] من طراز "ميركافا" لخطر كبير من نظام قذائف "حماس" الصاروخية المحلية الصنع، المعروف باسم "الياسين 105"؛ حيث كشفت العمليات على الأرض ضعف الدبابة أمام منظومة القذائف الصاروخية الحمساوية فى البيئات الحضرية داخل قطاع غزة خاصة من المسافة "صفر".
تشير المعلومات المنشورة عن "الياسين 105" إلى أنها تمتلك زعانف تظهر فى ذيل القذيفة بعد الإطلاق لتمنحها الاستقرار الذى يمكنها من الانطلاق إلى الهدف بسرعة تصل إلى 300 متر فى الثانية تقريبا، فيما تشير تقديرات إلى أن مداها يتراوح بين 150 إلى 250 مترا، وتكون هذه القذيفة أكثر قوة كلما كانت المسافة التى تفصلها عن الهدف أقرب، وتشير تقارير إلى أن طولها 95 سنتيمترا ووزنها نحو 7 كيلوجرامات.
بحسب تقرير مجلة "ناشيونال إنترست"، فإنه لا توجد تقديرات دقيقة لتكلفة إنتاج صواريخ "الياسين 105". ولكن بناءً على أن متوسط سعر صواريخ RPG-7يقدر بنحو 300 دولار فى السوق السوداء[5]، فربما تقدر تكلفه الإنتاج فى المتوسط نحو 200 دولار بسبب انخفاض تكاليف الأيادى العاملة فى قطاع غزة. فى المقابل، تبلغ تكلفة إنتاج دبابة واحدة من نوع ميركافا-M4نحو 3.5 مليون دولار، وعلى أساس التكلفة الخالصة للإنتاج،يمكن أن تصنع "حماس" 17,500 صاروخ من "الياسين 105" فى مقابل كل دبابة "ميركافا" تنتجها إسرائيل.
فى سياق متصل، أثار قرار سحب حاملة الطائرات الأمريكية "جيرالد آر فورد"من الشرق الأوسط الأخير، ردود أفعال متوترة وقلقة للغاية فى إسرائيل، ونشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالا تحليليا بعنوان "خفض الوجود البحرى الأمريكى فى المنطقة لا يبشر بالخير لإسرائيل"؛ حيث لا توجد تأكيدات يقينية حول سبب سحب الولايات المتحدة الأمريكية لقوتها الضاربة فى المنطقة، لكن تشير التقديرات إلى أن الانسحاب قد يكون تعبيرا عن الاستياء الأمريكى من حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وربما يكون السبب مرتبطا بخفض فاتورة تكلفة الدفع الأمريكى العسكرى، أو لإعادة التجهيز، أو التموضع فى منطقة أخرى من العالم.
فى الختام، تُظهر النماذج السابقة كيف تمت الاستفادة من التكنولوجيا الرخيصة المتطورة نسبيا فى تقويض القوة العسكرية الغربية خاصةً الأمريكية فى عدد من مناطق الصراع المحتدم عالميا. وربما قد تنذر بإمكانية حدوث خلل جديد يفرضه دخول متغير التسليح الرخيص، المحلى الصنع، عند مقارنة القوة العسكرية للدول على أساس إجمالى الإنفاق فقط[6]، هذا بالإضافة إلى الإحراج، وارتفاع الثمن السياسى المتوقع للضغوط السياسية الداخلية خاصةً فى إسرائيل بسبب الفاتورة الباهظة للتسليح فى الحرب دون عائد مكافئ، التى قدرتها بعض المصادر الإسرائيلية بنحو 60 مليار دولار.