سألني السائلون وهم كثر عن الوجهة التي تسير إليها مصر؛ وكانت إجابتي قادمة من الحكمة المصرية القديمة أن الإنسان حينما يكون في مفترق الطرق يواجه ثلاث «سكك»: سكة السلامة، وسكة الندامة، وسكة الذي يذهب ولا يعود. المسألة بالتأكيد بها نوع من الاختيار الإنساني، فقد طرحت القضية على شعوب كثيرة ساعة الثورة، وكانت النتيجة إما بناء جديدا أكثر زهوا وفضلا ورخاء من البناء المتهالك القديم؛ أو حالة من «التوهان» والحيرة التي لا تعرف فيها أمة إلى أين تذهب وتظل تدور في محلها تلعن القديم، ولكنها لا تعرف ما الذي سوف يحل محله أو أنها وبعد ثورة عانت من العنف والحرب الأهلية والصراع المستحكم لا تجد بدا من الضياع بالتقسيم أو البقاء ضمن «الدول الفاشلة» حسب التعبيرات الحديثة في تقسيم الدول.
«سكة السلامة» في مصر لها تجسيدها الواضح فيما عرف بالبرنامج الزمني لنقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى سلطة مدنية منتخبة. والسلطة هي في الأول والآخر مجموعة المؤسسات التي تدير الدولة والتي اتفق الفقهاء على أنها تنفيذية وتشريعية وقضائية، وهي أيضا مجموعة المؤسسات التي تعمل فيها وتستوعب الطاقة الإنتاجية للناس لسد احتياجاتهم وإعطائهم الفرصة على الإبداع. ولحسن الحظ أنه رغم ثورة الخامس والعشرين من يناير فإن الدولة المصرية وإن أصيبت بعطب بالغ نتيجة حل مجلسي الشعب والشورى، وتدمير المؤسسة الأمنية، فإن بقاء الجيش والقضاء والبيروقراطية سمح في النهاية بإدارة الدولة، وأعطى الفرصة لكي تصل البلاد إلى طريق السلامة من خلال إصلاح ما جرى جرحه في المؤسسة الأمنية وانتخاب أولى المؤسسات التشريعية ودخولها إلى مرحلة العمل قبل أن يكتمل عام على الثورة. وطبقا للجدول المقرر فإن ما عطب من أركان الدولة سوف يعود إلى حاله مع انتخاب مجلس الشورى، ووضع دستور للبلاد، وانتخاب رئيس للجمهورية، وعودة الجيش إلى ثكناته فيكون حكم البلاد مدنيا خالصا لأول مرة منذ ستة عقود كاملة.
«سكة الندامة» خلاصتها أن تبقى الأحوال على ما هي عليه، أي تجرى عملية إعادة بناء الدولة بينما تظل «الثورة مستمرة»، وهي ازدواجية سوف تدفع البلاد ثمنها غاليا. ومصدر هذه الازدواجية هي أن الثوار عادوا إلى «الميدان» مرة أخرى في ذكرى الثورة الأولى لأنه تبين لهم أن «الثورة» لم يتحقق منها شيء سوى ذهاب رئيس الجمهورية وبعض من أعوانه أما جذور النظام فقد بقيت على حالها. وهو قول فيه قدر من الصحة وهي أن دولة عريقة وعتيقة مثل مصر لا يمكن أن تغيرها، نظاما وشعبا، ثورة حتى ولو كانت بعنفوان الثورة المصرية. فالأمر في دولة كهذه لا يتغير بسرعة، ولا بد للتشريع والقانون والدستور من زمن يدور بين طوائف وأحزاب تجرى بينهم مفاوضات ومداولات وتدبير وتقليب الأمور على أكثر من وجه. الثوار - على العكس، وقد جاءوا إلى ساحة السياسة دون قيادة وكان من بينهم في النهاية 216 ائتلافا ثوريا - لا يعرفون مثل هذا التعقيد، وطالما بقي الإخلاص للميدان فإنه لا حاجة بعد ذلك لأخذ وعطاء، فالقوانين يمكن صنعها على طريقة الوجبات السريعة والتي يجري توصيلها للمنازل في التو واللحظة.
ولكن الثوار كان لديهم مشكلة أخرى، وهي أنهم لا يريدون تحمل أي من مسؤوليات ما جرى وأطال الفترة الانتقالية، فلا كانوا هم الذين خسروا استفتاء 19 مارس عندما عجزوا عن إقناع الناس بمسار مختلف، ولا كانوا هم الذين طالبوا بإطالة الفترة الانتقالية حتى تستعد «أحزاب» الشباب للانتخابات العامة. المدهش بعد ذلك أنهم أنحوا باللائمة على المجلس العسكري لأنه أطال الفترة الانتقالية، ومن بعدها وضع قانونا للانتخابات أدى إلى فشل جميع الأحزاب الثورية. بالطبع فقد وضع القانون تحت أعين قوى الثورة، وفاز الإخوان المسلمون بالمقاعد سواء كان الانتخاب بالقائمة أو بالنظام الفردي، ولم يعلم أحد أبدا ما هو النظام الذي كان يفضله الثوار للفوز بمقاعد في مجلس الشعب. المعضلة أن النتيجة باتت مولدة بالغضب، فقد قام الشباب بالثورة لكي يحصدها الإخوان المسلمون والجماعات السلفية، وبدأ كلاهما يتجه نحو الاعتدال، ولكن الثوار الذين باتوا يشعرون بالندم من كارثة تاريخية لم يجدوا إلا استئناف الثورة مرة أخرى بشعارات شعبوية ضد المجلس العسكري مرة، وضد سيادة القانون في المحاكمات مرة، وضد الديمقراطية المزيفة مرة ثالثة. سكة الندامة هذه هي أن تبقى الثورة مغدورة دائما، والدولة محبطة في كل الأوقات، ويبقى الجميع في انتظار لحظة صدام يجري حاليا على الفضائيات التلفزيونية ومن الجائز أن يتحول إلى الشارع ذات لحظة يأس من طرف أو آخر.
تلك هي اللحظة التي تصل فيها المحروسة إلى «سكة اللي يروح ما يرجعش»، وهي لحظة ربما تكون مستبعدة حاليا لما عرف عن المصريين من اعتدال يحرص ألا يأخذها إلى مسارات التهلكة، وهناك في النهاية دولة عززها دخول معارضين سابقين إلى ساحة صنع القرار، وربما وصل المصريون إلى حالة من الإرهاق الثوري والانتخابي في آن واحد. ولكن كل ذلك أمر وما يجري في ذهن الثوار أمر آخر، فالشباب الذي يشكل الكتلة الغالبة من قوى الثورة بات في حالة من الجرح العميق بل والإهانة لأن الشعب صفق لهم ساعة الثورة وذهب إليهم ووقف معهم، ولكن موقفه أمام صندوق الانتخاب كان موقفا آخر. حل هذا اللغز ظل محيرا، وعندما لا يكون للحيرة آخر فإنها تتحول إلى إحباط، وعندما يزيد الإحباط عن حده فإنه يتحول إلى ميول عنيفة، وفي أحسن الأحوال تبقى الثورة مستمرة.
وهكذا مضى عام على الثورة المصرية ومعها ما بات معروفا بالربيع العربي تغيرت فيه الأحوال بما لم يكن مقدرا قبله، ولا بات متوقعا بعده. ما نعرفه أن الرومانسية الأولى تفتحت عن واقع لم يعد رومانسيا على الإطلاق. ولكن ما جرى كان ضروريا وحتميا ربما لأن الأحوال كانت قد وصلت فعلا إلى طريق مسدود، وما نشاهده الآن في سوريا من تشبث لنظام الأسد بالسلطة حتى ولو على أجساد شهداء وجرحى بالآلاف، يشهد على أن التغيير المطلوب لا يمر على بلد دون ثمن من زمن ومن أرواح تزهق ومعها تأتي لحظات مرهقة من البحث عن طريق أو طرق تنقل البلاد إلى البلاد ولا تأخذها بعيدا إلى الخلف.
السيناريوهات كلها تأخذنا إلى مكان آخر سوف يكون له دينامياته وأحواله، وما علينا إلا المتابعة والانتظار، فإن عام 2012 لن يكون أقل إثارة من سابقه!
----------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء 1/2/2012.