من المجلة - تقارير

انقلاب،‮ ‬انتخاب،‮ ‬توريث‮ :| الأشكال المتحولة لتداول السلطة في القارة السمراء

  • 25-3-2012

داخلي
طباعة

أدت موجات الاستقلال التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية إلى ظهور عديد من القادة الوطنيين في إفريقيا‮. ‬وكان من بين هؤلاء‮: ‬عبد الناصر في مصر، ونكروما في‮ ‬غانا، ونيريري في تنزانيا، وهوفيه بوانيه في ساحل العاج، وجومو كنياتا في كينيا‮. ‬وكان لدي هؤلاء القادة كاريزما تجعلهم قادرين علي تعبئة الجماهير، والسير بهم نحو تحقيق أهداف مشتركة، وبالتالي كسب احترامهم وولائهم ‮)‬1‮(‬. ‬لما كان الوضع كذلك، فلماذا حدثت ظاهرة توريث الحكم وتعديل الدساتير في القارة الإفريقية؟، وما هو حجمها؟، وما هي العوامل التي ساعدت علي وجودها؟، وما هو مستقبل هذه الظاهرة؟، هل هي في ازدياد،‮ ‬أم أن مآلها إلي الزوال؟‮.‬

التطورات السياسية في أفريقيا

تستلزم الإجابة على تلك التساؤلات تناول التطورات التي شهدتها النظم السياسية ونظم الحكم الإفريقية، خصوصا في السنوات الأخيرة‮. ‬ففي عام ‮ ‬2009،‮ ‬جرت انتخابات رئاسية في كل من‮: ‬موريتانيا، ومدغشقر، وغينيا بيساو، والصومال‮. ‬وفي عام ‮ ‬2010،‮ ‬جرت انتخابات في كل من‮: ‬النيجر، وأرض الصومال‮ (‬غير معترف بها من كل الدول‮)‬، والسودان، وتوجو، وساحل العاج، ورواندا، وبوركينا فاسو، وغينيا كوناكري‮. ‬وفي عام ‮ ‬2011،‮ ‬جرت انتخابات رئاسية في كل من‮: ‬زيمبابوي، ونيجيريا، وأفريقيا الوسطي، والسنغال، والكاميرون،  والكونغو الديمقراطية، وتشاد، وزامبيا‮.

ويمكن من خلال تلك الحالات المتعددة للمشاركة السياسية رصد عدد من الملاحظات على التطور السياسي، وطريقة انتقال السلطة في إفريقيا، من أهمها أن بعض الرؤساء الذين فازوا في تلك الانتخابات وصلوا إلي الحكم عبر انقلابات عسكرية، إلا أنهم تقدموا للترشح لانتخابات الرئاسة بشكل مدني بعد ذلك، ومن هؤلاء‮: ‬فرانسوا بوزيز، الذي أتي لسدة الحكم في أفريقيا الوسطي عام ‮ ‬2003 ،‮ ‬بعد انقلاب عسكري أطاح فيه بالرئيس السابق بمساعدة مرتزقة من تشاد‮)‬2‮(‬، وعمر حسن البشير، الذي تولي الحكم في السودان عبر انقلاب‮ ‬30‮ ‬يونيو ‮ ‬1989،‮ ‬قبل أن يفوز لاحقا في انتخابات للرئاسة، أجريت في أبريل ‮ ‬2010،‮ ‬وهي أول انتخابات تعددية ديمقراطية بعد أكثر من عشرين عاما على وصول نظام الإنقاذ إلي السلطة‮). ‬3‮( ‬أما ولد عبد العزيز الذي كان قد استولي على الحكم في موريتانيا، بعد انقلاب عسكري على حكم الرئيس ولد الشيخ عبد الله في‮ ‬6‮ ‬أغسطس عام ‮ ‬2008،‮ ‬فقد فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في‮ ‬18‮ ‬يوليو ‮ ‬2009،‮ ‬بنسبة‮ ‬52‮ ‬٪‮ ‬من أصوات الناخبين‮).‬4‮(

وفي بوركينا فاسو، حصل الرئيس بليز كومباور على نسبة‮2.08‬٪‮ ‬في انتخابات نوفمبر‮ ‬2010،‮ ‬وكان قد فاز قبلها ثلاث مرات أعوام‮ ‬1991‮ ‬و‮ ‬1998‮ ‬و2005،‮ ‬بعد أن وصل إلي الحكم أيضا بانقلاب عسكري عام 1987 ‮) ‬5‮(‬وفي تشاد، يحكم الرئيس إدريس ديبي منذ انقلاب عسكري تم عام ‮ ‬1990،‮ ‬وفاز أخيرا بفترة رئاسية رابعة لمدة خمس سنوات في انتخابات‮ ‬2011‮ ‬بنسبة‮ 66.88 ‬٪‮(6‮).

كما يلاحظ أن بعض هؤلاء الرؤساء تولي حكم بلاده، إما بسبب زعامته أو مشاركته في حركات التحرر، وإما بسبب قيادته لحركات التمرد المسلحة، مثل بول كاجامي‮ - ‬الذي كان زعيما‮ "‬للجبهة الوطنية الرواندية‮" ‬ووضع حدا لعمليات إبادة التوتسي‮- ‬حيث تولي الحكم في رواندا، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في ‮ ‬9 ‮ ‬أغسطس عام‮‮ 0102 (7)، ‬وشريف شيخ أحمد الذي كان زعيم‮ "‬اتحاد المحاكم الإسلامية‮" ‬في الصومال، قبل أن ينتقل إلي المسار السياسي، ويفوز في الانتخابات الرئاسية في أغسطس‮9002. ‬وكذلك الأمر بالنسبة لكل من مليس زيناوي في إثيوبيا، وأسياسي أفورقي في إريتريا‮.‬

الملاحظة الثالثة أن‮ ‬غالبية هؤلاء الرؤساء لا يزالون مستمرين في الحكم منذ فترة طويلة، وبالتالي تقدم بهم العمر، حيث تتراوح أعمارهم بين السبعينيات والثمانينيات، مما ينعكس بالسلب على أدائهم‮. ‬وعلى سبيل المثال، فإن عمر البشير يحكم منذ‮ ‬22‮ ‬عاما، ودوسانتوس‮ (‬البالغ‮ ‬من العمر‮ ‬69‮ ‬عاما‮) ‬يحكم أنجولا منذ‮ ‬30‮ ‬عاما، وروبرت موجابي لا يزال يحكم زيمبابوي منذ‮ ‬31‮ ‬عاما‮. ‬ويبلغ‮ ‬ألفا كوندي، رئيس‮ ‬غينيا كوناكري، 72 عاما‮. ‬أما عبد الله واد، الذي يحكم السنغال منذ‮ ‬21‮ ‬عاما، وعمره حاليا ‮ ‬85  ‮ ‬عاما، فقد أعلن أنه لا توجد لديه خطة لترك السلطة، مادامت حالته الصحية جيدة، وأنه سيتقدم للترشح للرئاسة لفترة ثالثة في فبراير ‮ ‬2012،‮ ‬وأن العمر لا يزال أمامه، حيث إن والده عاش‮ ‬105‮ ‬سنوات، وجدته عاشت‮ ‬120‮ ‬سنة‮ (8).

في المقابل، فإن رؤساء آخرين استمروا طويلا في الحكم دون إجراء انتخابات، مثل ماسيا نجيما، رئيس‮ ‬غينيا الاستوائية، الذي استمر في الحكم لمدة‮ ‬30‮  ‬سنة، ودنيس ساسو نجسو الذي يحكم الكونغو برازافيل منذ‮ ‬30‮ ‬سنة، والرئيس الكيني، آراب موي، الذي عين نفسه مدي الحياة، والرئيس الكاميروني السابق، أياديما، الذي مكث في الحكم‮ ‬38‮ ‬عاما، ورئيس ملاوي باندا الذي عين نفسه رئيسا مدي الحياة، بعد أن أجري استفتاء حول قبول الشعب تطبيق التعددية الحزبية‮).‬9‮(‬

وكانت ظاهرة تعديل الدساتير في الدول الأفريقية‮  ‬قد استشرت، سواء‮  ‬لتلبية طموحات الرؤساء الأفارقة للبقاء في السلطة والترشح لفترات متعددة للرئاسة، أو تمهيدا لعملية توريث الحكم‮. ‬ومن الرؤساء الذين أجروا تعديلات على دساتير بلادهم‮: ‬السادات ومبارك في مصر، ودوس سانتوس في أنجولا الذي أعلن اعتزامه إجراء انتخابات عامة في البلاد عام ‮ ‬2012،‮ ‬وذلك أثناء تصديقه على دستور جديد يسمح له بتجديد حكمه المستمر منذ ثلاثة عقود، ويلغي إجراء انتخابات رئاسية مباشرة، بمنح المنصب لمن يتصدر قائمة الحزب الفائز في أي انتخابات برلمانية‮. ‬

وفي زيمبابوي، كان روبرت موجابي رئيسا للوزراء من عام ‮ ‬1980،‮ ‬ثم قام بتعديل الدستور عام‮ ‬1987‮ ‬لينصب نفسه رئيسا، وتمكن حزبه من الفوز في جميع الانتخابات منذ الاستقلال في أبريل عام‮ ‬1980‮ ‬حتى مارس ‮ ‬2008، وواجه أزمة خلال استفتاء شعبي أجري في فبراير‮ ‬2000،‮ ‬حيث رفض أغلبية الناخبين التعديلات التي كان موجابي قد اقترحها بشأن الدستور، والتي تمكنه من البقاء في السلطة، بعد انتهاء فترة رئاسته‮. ‬لوحظ أيضا على آليات تسيير الحياة السياسية الإفريقية وجود ارتباط واضح بين نتائج الانتخابات الرئاسية والعصبية الدينية من جهة أخري‮ . ‬ففي نيجيريا، أبرزت نتائج الانتخابات التي جرت عام‮ ‬2011‮ ‬انقساما واضحا بين الشمال المسلم الذي صوت للرئيس السابق للسلطة العسكرية محمد بهاري، والجنوب المسيحي المؤيد لجوناثان‮‮(11). ‬وأعقبت الانتخابات موجات عنف في شمال البلاد بعد فوز جوناثان‮.‬

    من جانب آخر، ظهرت ملامح إيجابية في الانتخابات الرئاسية التي جرت في بعض الدول، مثل التي جرت في النيجر في مارس1102،‮ ‬وأسفرت عن فوز المعارض محمد ايسونو‮ - ‬95 ‬عاما-  ‬بنسبة‮ ‬58‮ ‬٪‮ ‬في الجولة الثانية منها، حيث أثني المراقبون الدوليون على سير العملية الانتخابية فيها، والتي ترمي إلى إرساء حكم مدني في البلاد، بعد أكثر من عام على الانقلاب الذي نفذه الجيش في فبراير عام 0102‬ضد الرئيس السابق مامادو تانجا، الذي حكم البلاد لمدة عشر سنوات، انتهت بأزمة خطيرة نجمت عن رغبته في البقاء في السلطة، بعد انتهاء ولايتين قانونيتين‮ ‮(21). ‬وكذلك انتخابات الرئاسة التي جرت في أرض الصومال في يونيو‮ 0102 ،‮ ‬التي فاز فيها أحمد محمد سيلانبو، مرشح حزب كلامبه المعارض، والتي وصفها المراقبون الدوليون‮ - ‬ومعظمهم من الاتحاد الأوروبي‮- ‬بأنها نزيهة‮ (‬31‮). ‬أما في زامبيا، فإن ما حدث بعد إعلان نتائج الانتخابات في‮ ‬32 ‬سبتمبر‮1102  ‬نادر الحدوث في الدول الإفريقية‮. ‬فقد فاز مرشح المعارضة، مايكل ساتا، الذي يناهز عمره‮ ‬47‮ ‬عاما، وهو زعيم الجبهة الوطنية، وكان وزيرا سابقا لفترة رئاسية مدتها خمس سنوات‮. ‬وتقبل الرئيس السابق روفيا باندا نتيجة الانتخابات، بل وطالب مؤيديه بتأييد الرئيس المنتخب، ممهدا لانتقال سلمي للسلطة‮ (‬41‮).‬

    وبين الظواهر السلبية والأخري الإيجابية، شهدت دول القارة حالات لتقاسم السلطة، باعتباره حلا للخلافات والمشكلات السياسية والداخلية في القارة، جاء نتيجة عدم وجود نظم ديمقراطية حقيقية في هذه الدول‮. ‬ففي ساحل العاج، عندما حدثت أزمة سياسية بسبب تمسك كل من مرشحي الرئاسة بحقه في الفوز في انتخابات عام‮ 0102،‮ ‬صرح وزير خارجية ساحل العاج، بإمكانية التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة، باعتباره طريقا محتملا للخروج من الأزمة، وأن الرئيس وأنصاره مستعدون لكل المناقشات في هذا الصدد‮. ‬وفي مدغشقر، توصل الزعماء السياسيون الأربعة الرئيسيون إلى تسوية حول تقاسم السلطة والاتفاق على إدارة المؤسسات الانتقالية، وتوزيع الحصص في الحكومة والمؤسسات، بما يعني وجود رئيس توافقي وحكومة وحدة وطنية‮.

    ‬وفي عام ‮ ‬8002،‮ ‬وقع الرئيس كيباكي في نيروبي اتفاقية تقاسم السلطة بينه وبين رائلا أودينجا‮. ‬وفي زيمبابوي، وقع الرئيس روبرت موجابي اتفاقا لتقاسم السلطة مع زعيم المعارضة، مورجان نجيراي، بموجبه يحتفظ‮ "‬موجابي‮" ‬بمنصبه رئيسا للبلاد وسيطرته على الجيش، في حين يصبح مورجان رئيسا للوزراء، وتتولي المعارضة أجهزة الشرطة‮ (51).‬    

ظاهرة التوريث في إفريقيا‮:‬

على الرغم من عدم وجود نظم ملكية في الدول الأفريقية سوي في المغرب، فإن بعض الرؤساء الأفارقة عملوا بكل السبل لتوريث الحكم لأبنائهم‮. ‬ومن أمثلة ذلك‮: ‬اتخاذ الرئيس السابق مبارك عدة تدابير لتمكين ابنه من تولي الحكم في مصر، وكذلك القذافي وابنه سيف الإسلام، ورغبة عبد الله واد، رئيس السنغال، في المجيء بابنه ومستشاره الخاص للسلطة، في الوقت الذي تطالبه فيه المعارضة بالتنحي وتجنب توريث السلطة لابنه ‮(61)‬وقد يقوم الجيش بتنصيب أبناء الرؤساء في الحكم، بعد اغتيال أو موت الأب، مثل قيام الجيش في الكونغو الديمقراطية بتنصيب جوزيف كابيلا في الحكم بعد اغتيال والده لوران كابيلا عام‮ ‬‭.‬1002 ‬وقد فاز كابيلا الابن بدورة رئاسية ثانية في انتخابات رئاسية جرت مارس ‮0102 (71).
    
وبالنظر إلى حجم ظاهرة توريث الحكم وتعديل الدساتير في الدول الإفريقية، يمكن القول إنها ليست مستشرية بدرجة كبيرة‮. ‬فعدد الدول الأفريقية‮ ‬54‮ ‬دولة، بينما بلغ‮ ‬عدد الدول التي عدلت فيها الدساتير سبع دول، بدأت في مصر عندما عدل الدستور عام‮ ‬1791 ‬في عهد السادات، ثم في عهد مبارك، وتبع ذلك تعديلات للدساتير في الدول السابق ذكرها‮. ‬أما عدد الدول التي اتخذت إجراءات، تمهيدا لتوريث الحكم أو تم التوريث فعلا، فبلغ‮ ‬أربع دول‮. ‬فالظاهرة بدأت وتكررت في أكثر من دولة، وكان من الممكن أن تستمر في التكرار، لولا حدوث الربيع العربي‮. ‬

    فالبقاء في السلطة فترة طويلة أصبح من سمات نظم الحكم في الدول الإفريقية، حتى إنه يقال‮ "‬إن التشبث بالسلطة حتى آخر رمق موروث ثقافي في إفريقيا والعالم العربي‮". ‬ووصل الأمر إلى درجة تهيئة الرئيس الأب أحد أبنائه لتولي السلطة من بعده، كأنه نظام ملكي‮. ‬ولا توجد سوي حالات قليلة ترك فيها الرؤساء السلطة طواعية‮. ‬ومن أمثلة ذلك الرئيس السنغالي الأسبق‮ "‬ليوبولد سنجور‮"‬، الذي كان أول رئيس إفريقي قرر ترك الحكم اختياريا عام 0891،‮ ‬ثم تبعه بعد ذلك‮ "‬أحمد هيجو‮"‬، رئيس الكاميرون سابقا عام 2891،‮ ‬وقرار‮ "‬نيلسون مانديلا‮"‬، رئيس جمهورية جنوب إفريقيا الأسبق، اختياريا التنحي عن السلطة، بعد فترة رئاسية واحدة انتهت في يونيو9991 ‬ووضع في قائمة الشرف بعد ذلك‮‬، والرئيس‮ "‬أحمد توري‮" ‬في مالي، والذي كان قد ترك السلطة بعد41شهرا من الفترة الانتقالية عام ‮‬2991 ،‮ ‬وقرار رئيس‮ ‬غانا‮  "‬جيري رولينجر‮" ‬عدم ترشيح نفسه، والتخلي عن السلطة بمحض إرادته عام 0002،‮ ‬وكذلك الجنرال‮ "‬أبو بكر عبد السلام‮"‬، رئيس الأركان سابقا، والذي تولي الحكم في نيجيريا بعد وفاة الرئيس‮ "‬ساني اباشه‮" ‬عقب إجراء الانتخابات التعددية الحرة عام‮ ‬0002،‮ ‬وفوز‮ "‬أوباسانجو‮" ‬فيها‮ .

     ‬وعلى الرغم من مقولة‮ "‬في الطريق بعد الرئاسة في إفريقيا يؤدي إما إلى القبر أو إلى السجن‮"- ‬وهذا ينطبق على مبارك الذي يخضع للمحاكمة والقذافي الذي قتل‮ - ‬فإن الأمور تغيرت مع بدء الإصلاح الديمقراطي في بعض الدول الأفريقية، حيث يوجد أكثر من عشرة رؤساء دول سابقين يعيشوا أحرارا دون ملاحقة قضائية‮ (81).

أما العوامل التي أدت إلى حدوث الظاهرة، فيمكن إجمالها في عاملين‮:‬

الأول‮: ‬مجيء معظم الرؤساء الأفارقة للحكم، إثر انقلابات عسكرية، وعدم قدرتهم على المواءمة بين البيئة الواقعية محليا ودوليا، والبيئة النفسية في المحيط الذي يعملون فيه‮. ‬والآخر‮: ‬عوامل محلية ودولية‮. ‬ويمكن عرض أهم عناصر هذين العاملين كما يلي‮:‬

أولا‮: ‬تعد قارة أفريقيا أكثر القارات تعرضا للانقلابات العسكرية، طبقا لدراسة أجراها معهد الأبحاث الدولية التابع لجامعة‮ '‬هيدلبيرج‮' ‬الألمانية‮. ‬إلا أن مواقف القادة الأفارقة الرافضة للانقلابات العسكرية حدت بشكل كبير من تعرض الدول الإفريقية لهذه الظاهرة، خاصة بعد أن تعهد‮ 34  ‬رئيسا أفريقيا في القمة الإفريقية، التي عقدت في الجزائر عام ‮ ‬9991،‮ ‬بإنزال أقصي العقوبات على الانقلابيين لوضع حد لمطامع العسكريين في السلطة‮. ‬وكان إعلان الاتحاد الإفريقي عدم اعترافه بأي حكومة تصل إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري أثره في الحد من لجوء العسكريين للانقلابات‮. ‬ومعروف أن هناك أسبابا كثيرة للانقلابات، منها‮ ‬غياب الحكم الجيد، والرغبة في السيطرة على الثروات الطبيعية والاقتصاد، من خلال السيطرة على السياسة، ومساندة المجتمع السياسي الغربي للانقلابات التي تخدم مصالحه‮. ‬وغالبا ما يفتقد القادة العسكريون القدرة على رؤية سياسية متكاملة تمكنهم من فهم الواقع المحيط بهم، وبالتالي تتضاءل قدرتهم على قيادة بلادهم والنهوض بها‮.

‬هذا فضلا عن التأثر بالانتماءات العرقية والقبلية التي تنعكس على طريقة تسيير السياسة الداخلية‮. ‬كما لوحظ تلقي معظمهم تعليمه في الدول التي كانت تستعمر دولهم، وتأثير ذلك في اتجاه سياساتهم الخارجية إزاء تلك الدول‮. ‬وقد أدي بقاء هؤلاء الحكام فترات طويلة في الحكم إلى تحجر القيادة السياسية، بمعني أن تكون تلك القيادة مقصورة على أشخاص محددين، أو تحجرها في صفوة معينة‮. ‬ووفقا لعلماء الاجتماع السياسي، ففي هذه الحالة ينقسم المجتمع إلى قسمين‮: ‬قادة متحكمين، وجماهير خاضعة، وتصبح الديمقراطية أمرا زائفا، ويصبح اتخاذ القرارات المهمة في أيدي القادة الذين يراعون مصالحهم أولا، وليس مصالح الجماهير‮‮(91).‬

وليس العلماء وحدهم الذين يتبنون هذا الرأي، فبعض الساسة أنفسهم ينتقدون الاستمرار في الحكم لفترة طويلة، ومنهم مهاتير محمد‮ (‬رئيس وزراء ماليزيا سابقا‮) ‬الذي ترك الحكم اختياريا، حيث‮  ‬يري أن شعبية القائد السياسي، مهما بلغت، لن تحول دون مطالبة الشعب له بالتنحي، إذا استمر فترة طويلة في السلطة‮)‬20‮ (‬، وقد ثبتت صحة هذه المقولة في مصر وتونس وليبيا‮. ‬فقد ثارت شعوب هذه البلاد في بدايات عام‮ ‬2011‮ ‬مطالبة بتنحي رؤسائهم عن الحكم‮. ‬وقد تكللت مطالبهم بالنجاح، حيث تنحي مبارك، ورحل زين العابدين، وقتل الثوار الليبيين القذافي‮.‬

ثانيا‮- ‬يميز علماء السياسة بين بيئتين رئيسيتين تواجهان القائد السياسي، هما‮: ‬البيئة الواقعية، والبيئة النفسية للقائد نفسه‮. ‬ويقصد بالبيئة الواقعية مجموعة العوامل الموضوعية الكائنة في المحيط الذي يعمل فيه القائد السياسي كحجم الموارد، ومستوي التطور التقني، والقوي الاقتصادية والعسكرية، والتركيب السكاني، وتركيبة النظام الدولي، وغيرها من العوامل التي توجد في ذلك المحيط، مستقلة عن إدراك القائد السياسي‮. ‬وهذه البيئة شديدة التعقيد، كما أن المعلومات المتدفقة منها إلى القائد السياسي شديدة الاتساع والغموض، بل والتناقض‮.‬

وتشمل البيئة الواقعية الداخلية عدة ظواهر، أبرزها‮: ‬الفساد، والحروب الأهلية، واللاجئون‮. ‬وقد اكتسبت قضية الفساد زخما دوليا متصاعدا خلال الأعوام القليلة الماضية‮. ‬وتشير تقارير العديد من المؤسسات الدولية إلى شيوع الفساد في كثير من الدول الإفريقية، وإن تباينت درجته من دولة إلى أخري، إلا أنه يظل من أعلى المعدلات، والأكثر فسادا في العالم‮).‬21‮(‬ كذلك، تعد مشكلة اللاجئين واحدة من أخطر الظواهر السياسية في القارة الإفريقية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بسبب ما يترتب عليها من آثار ونتائج إنسانية، وسياسية، واقتصادية، وأمنية، واجتماعية، وأيضا بسبب ما تحدثه من تغيرات في الخريطة البشرية في القارة‮) ، ‬22‮( ‬فضلا عن أن وجود العديد من الصراعات الإثنية وغير الإثنية في القارة الأفريقية يؤدي لعدم استقرار سياسي، وبالتالي يدفع إلى حدوث انقلابات عسكرية، وما يتبعها من محاولة القادة العسكريين البقاء في الحكم‮. ‬وتزداد خطورة هذه الحالة في ظروف الندرة الاقتصادية النسبية، خاصة إذا ما تبنت الدولة سياسات تنمية‮ ‬غير متوازنة بين الأقاليم والجماعات الإثنية‮).‬23‮(‬

وعلى المستوي الدولي، يتسم عالم اليوم بتداخل متزايد فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والثقافة، دون اعتداد بحدود الدول السياسية، ودون حاجة إلى تدخلات حكومية(‮42). ‬وقد انعكست ظاهرة العولمة على القارة الإفريقية سياسيا في عدة نواح، منها‮: ‬الأمن الإقليمي للقارة، وتهميش القارة، وقضية التحول الديمقراطي‮. ‬وفيما يتعلق بأثرها على قضية التحول الديمقراطي، فلا شك في أنه يوجد ارتباط وتداخل بين ما هو داخلي وما هو خارجي في ملامح النظم السياسية الإفريقية‮. ‬فإذا كان التحول نحو الديمقراطية نابعا من سمات محددة لبيئة النظام السياسي الداخلي في إفريقيا، والتي تمثلت في‮: ‬انتشار الفساد السياسي، وفشل القيادات، والإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية، والتي عجز نظام الحزب الواحد والعسكريون عن معالجتها، فقد فرضت العولمة على دول القارة الإفريقية أن تنفتح على ما هو خارج حدودها‮. ‬وأسهمت العولمة في نشر ثقافة الديمقراطية بالمفهوم الغربي من منظور التعددية السياسية الشكلية، دون الاهتمام بمؤشر المشاركة السياسية للمواطن الإفريقي، الذي يعد بمثابة الوجه الآخر للديمقراطية الحقيقية‮).‬25‮(‬

ولا تزال الديمقراطية في إفريقيا في أطوارها الأولي، حيث لم تنضج التجربة الديمقراطية بعد، مثلما حدث في الدول الغربية‮. ‬فالدول الإفريقية التي تتطلع إلى انتهاج النهج الديمقراطي لا تهتم بجوهر الممارسة الديمقراطية نفسها ‮)‬26‮(‬ولكي تنجح الدول الإفريقية في تطبيق الديمقراطية،‮ ‬فلابد من توافر الاستقرار السياسي، ولن يتأتي هذا الاستقرار بدون حل مشكلاتها المزمنة من لاجئين، وحروب أهلية، وفساد‮. ‬فإذا نعمت بالاستقرار السياسي، فإن ذلك سوف ينعكس إيجابيا على جهود التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي فيها‮. (72)

أما عن مستقبل الظاهرة، فقد لوحظ بعد الربيع العربي تراجع مساندة الدول الكبري بمساندة نظم الحكم الديكتاتورية، التي تمكنت بمساندة المال والسلاح الغربيين من أن تقهر شعوبها، وكون أفرادها ثروات هائلة من موارد البلاد الطبيعية والمعونات الأجنبية‮. ‬فقد أدت رياح التغيير التي أحدثها الربيع العربي إلى نتائج إيجابية ظهرت جلية في أول انتخابات رئاسية تحدث بعد اندلاع الثورات العربية، هي انتخابات الرئاسة في زامبيا في سبتمبر‮ ، ‬2011‮ ‬فقد حدث انتقال سلمي للسلطة، بعد فوز مرشح المعارضة على الرئيس السابق‮. ‬وبعد أن كانت الدول الكبري تؤيد النظم الديكتاتورية، أصبحت تطالب برحيل هذه النظم، كسبا لتأييد الشعوب الثائرة‮. ‬فعلى سبيل المثال، كانت الصين قد أعلنت أنها ستقطع علاقتها مع زامبيا، إذا فاز"ساتا‮" ‬في انتخابات ‮ ‬2006،‮ ‬بسبب انتقاداته الحادة للاستثمارات الصينية، إلا أنها رحبت بنتيجة الانتخابات عام‮ ‬2011‮ ‬برغم فوز‮ "‬ساتا‮".‬

الهوامش‮ :‬

(1) Monte Palmer Dilemmas of Political Development، (F.E.PEACOCA PUBLISHERS،Inc،1980) pp130 -132.

  (٢) إفريقيا الوسطي تشهد انتخابات رئاسية ونيابية .

http://arabic.rt.com/news_all_news/news/61988

(٣) التقرير الاستراتيجي العربي 2010، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، ص187 .

( 4) التقرير الاستراتيجي العربي 2010، مرجع سبق ذكره،  ص 223 .

(5) نسبة مشاركة ضئيلة في الانتخابات الرئاسية ، والرئيس كومباوري الأوفر حظا:

www.france.24com/ar/20101120-apthetic-voters-likly-hand-comaore-landslide-            victory-burcina-faso-election

(٦) الرئيس التشادي يكتسح معارضيه.

www.moheet.com/show_news.aspx?nid=466978&p9=1

(٧) رئيس رواندا يعلن عن فوزه في الانتخابات الرئاسية

www.amelboucha.net/t50237-topic?tt=1

(8) Reuters, Senegal :President, 85, Sees No Need to Step Down

www.nytimes.com/22/04/2011/world/africa/22briefs-ART-Senegal.html? r=1

(٩) أحمد حجاج ، الديمقراطية والتعددية الحزبية والانتخابات في أفريقيا، السياسة الدولية، العدد (153)، يوليو 2003،  ص 47 .

(10) سامية بيبرس، أزمة الديمقراطية في زيمبابوي، السياسة الدولية، العدد (149)، يوليو 2002، ص 140 .

(11)  جوناثان يتصدر نتائج الانتخابات الرئاسية في نيجيريا.

www.masrawy،com/news/world/afp2011/april../.4577085aspv?_election_2011

(21) www.mw.nl/arabic/bulletin%d9%81%d9%88%d8%b2

(31) حول الانتخابات الرئاسية في أرض الصومال.

www.redseatoday،net/index.php?option=com..view

(14)Jeffrey Gettlman، Opposition Leader Is Handed Reins in Zambia،The New York Times

http:// www.nytimes.com/24/09/2011/world/africa/zambias-presidency-changes-hands-..

(15 أحمد جمعة ومي مجاهد، تقاسم السلطة .. هل يخرج إفريقيا من الأزمات السياسية

http://213.158.162.44/~gomcom/index.php?actio=news&id=78157

(16 السنغال: بدء الاستعدادات والتحالفات لانتخابات 2012 الرئاسية المثيرة.

http://www.sahamedias.net/smedia/index.php/2008-12-24-00-08-11552/06--2012-html

(17)Joshua ،2010 Togo Presidential Elections،

http://themonkeycage.org/blog/2010/15/03/2010_tog0_presidental_electio

(18) السفير بكاري درامي، آفاق التجربة الديمقراطية التعددية في إفريقيا، السياسة الدولية، العدد (153)، يوليو 2003،  ص ص57-58.

(19) فاروق يوسف، دراسات في الاجتماع السياسي .. القوة والقيادة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1967، ص63.

(20) د. محمد السيد سليم، (محرر) الفكر السياسي لمحاضير محمد، (برنامج الدراسات الماليزية، جامعة القاهرة، 2006 ، ص 6.

(21) هشام هيبة، الفساد في إفريقيا جنوب الصحراء، السياسة الدولية، العدد (160)، أبريل 2005 ، ص 206.

(22) إبراهيم محمود، الحروب الأهلية ومشكلة اللاجئين في إفريقيا، السياسة الدولية، العدد (143)، يناير 2001، ص50.

(23) المرجع السابق،  ص 51.

(24) د. إسماعيل صبري عبد الله، توصيف الأوضاع العالمية، أوراق مصرية 2020، منتدي العالم الثالث، مكتب الشرق الأوسط، القاهرة، ص ص37-40.

(25) د. نيفين حليم، التأثيرات السياسية للعولمة على إفريقيا، في د.حمدي عبد الرحمن (محرر)، إفريقيا والعولمة، (جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، برنامج الدراسات المصرية - الإفريقية)، ص ص145-151.

(26) أحمد حجاج، مرجع سبق ذكره، ص53.

(27)Severine M. Rugumamu، Globalization and Africa،s Future: Occasional Paper      Series, volume 5, number 2,.2001ISSN 1561-.9478 p.78.

http://213.158.162.44/~gomcom/index.php?actio=news&id=78157

(*) نشر في مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012

طباعة

تعريف الكاتب