مع صدور العدد الجديد من مجلة السياسة الدولية ( يناير 2012) ، يكون قد مر على سقوط النظام المصري السابق، جراء ثورة 25 يناير 2011، نحو عام كامل، تحديداً أحد عشر شهراً. وبالنظر إلى حالة الاستغراق في التفاصيل والتطورات اليومية والمتسارعة عقب تلك الثورة، فقد ارتأت هيئة تحرير مجلة "السياسة الدولية" أن ذلك أفضى بدرجة كبيرة إلى إغفال علاقة التأثير والتأثر بين تلك الثورة وسياقاتها العالمية والإقليمية.
وفي الواقع، فإنه بقدر ما تمثل تلك الثورة استجابة لمعضلات داخلية، فإن تلك المعضلات ذاتها هي في جزء كبير منها نتاج لعمليات تحول كبرى تجري في إطار تلك السياقات. ومن هنا، تنبع أهمية دراسة علاقة الثورة المصرية بتلك السياقات، وما يمكن أن تقدمه تلك الثورة من نماذج استجابة –ناجحة كانت أو فاشلة- للمعضلات التي تطرحها عمليات التحول الجارية فى هذه السياقات.
"المشهد الملتبس"
وفي البدء، فإنه يلزم الإقرار بأنه رغم العديد من الإنجازات التي تحققت في سبيل إحداث تغيير حقيقي في السياسة والمجتمع في مصر، فإنها باتت تختلط بكثير من الفوضى والانقسامات الحادة التي تهدد ليس فقط بتعطيل مسار التقدم باتجاه إعادة تأسيس نظام جديد، بل بالنكوص عن كل ما تم، وإعادة تأويله تأويلاً تآمرياً.
والخلاصة أن صورة المستقبل باتت تبدو ملتبسة، والمحصلة النهائية لكل ما يعتمل في أرض مصر حالياً من تفاعلات وصراعات متسارعة وكثيفة، لا يمكن الزعم بوجود طرف يستطيع حسمها في اتجاه بعينه، وإلا كان قد فعل.
بل إنه لا يمكن إنكار أن قدراً كبيراً من حرية التظاهر والاعتصام بات متحققاً، وتكرر مراراً في صورة المظاهرات الحاشدة التي بات يتعارف على تسميتها بالمليونيات، وكذا في العديد من الاعتصامات التي تكررت في مناطق شتى من البلاد، بل وتحدت سلطة الدولة وجهازها، من خلال قطع الطرق والسكك الحديدية، وإغلاق الموانئ، فضلا عن تعطيل الأعمال.
وبغض النظر عن تباين التقييمات بشأن تداعيات تلك الأحداث على الاستقرار السياسي والأداء الاقتصادي، وبغض النظر عن مدى رشد وتنظيم ممارستها، فقد بات من المؤكد أن المصريين اقتنصوا حريات واسعة لم تتح لهم بهذا الشكل، منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر، باستثناء لحظات الثورات الشعبية العارمة، وهذه كانت في الأغلب لحظات عابرة لم تمتد، فيما عرفته مصر قبل ذلك من احتجاجات وانتفاضات شعبية، عبر ما يقرب من عام كامل متواصل، وباعتبارها حقاً مثلما هو الحال حالياً. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن الزعم بأن تلك الحريات قد استقرت بشكل نهائي لتصبح خصيصة ثابتة للنظام السياسي المصري، فضلاً عن حسن تنظيمها، ورشد توظيفها.
فقد شهد البعض الآخر من تلك الاعتصامات والتظاهرات صدامات تعد الأعنف، وقمعاً يعد الأكثر جسامة، مقارنة بما شهدته ثلاثون عاماً من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، والذي أجمع المصريون على ديكتاتوريته، وباستثناء الثمانية عشر يوماً التي امتدت عبرها ثورة 25 يناير 2011 وبالمثل، فقد تباينت بشدة مواقف المصريين من تلك المظاهرات والاعتصامات بين من يراها الأكثر شرعية في كل ما تشهده مصر من تطورات سياسية، وممارسة لحقوق اكتسبها المصريون بتضحياتهم ودمائهم، ومن يراها فوضى تهدد استقرار الدولة، ومسار إعادة بناء نظامها السياسي، بل ومؤامرة تقوم بها قوى داخلية، بدعم من أطراف خارجية، تحاول الانقلاب على الثورة ووأدها.
بل إن مدى التباين يصل إلى أن البعض بات يمايز بين عناصر الحدث الواحد، ليصنف بعضها في الإطار الأول، وبعضها الآخر في الإطار الثاني. وبالمثل، فقد أتم المصريون، حتى كتابة هذا التقديم، جولتين من ثلاث جولات تشتمل عليها أول انتخابات تشريعية تشهدها البلاد بعد ثورة 25 يناير، بنسب مشاركة غير مسبوقة في أي انتخابات عرفتها مصر في تاريخها الحديث. وبرغم كل ما شاب هاتين الجولتين من مخالفات أو عثرات، فإن أحدا من القوى السياسية المشاركة فيها لم يجرؤ على الطعن في نزاهتها، انطلاقاً من أن تلك المخالفات أو العثرات تعكس في جزء كبير منها طبيعة المجتمع المصري وخصائصه الراهنة، التي لم يكن من الممكن، بأي حال، تجاوزها في أي عملية انتخابات يتم تنظيمها حالياً.
وبالرغم من ذلك، تتباين المواقف داخل مصر بشدة من تلك الانتخابات ونتائجها، بين من يراها مدخلاً لشمولية دينية تعيد إنتاج استبداد يفوق كل ما ثار المصريون ضده، ومن يرى نتائجها "خديعة كبرى" استغلت جهل قطاعات واسعة من المصريين وعوزهم المادى، ومن يعارض نتائجها، لكنه يحترم المسار الانتخابي من منطلق احترام المبدأ الديمقراطي، فى حين أن الأغلبية بكل تأكيد تراهن على خيارها فى تلك الانتخابات للخروج بالبلاد من حالة عدم الاستقرار الراهنة، وتأسيس نظام جديد يحقق لها درجة أكبر من إشباع الحاجات، وكرامة العيش. وأخيراً، فإن هناك من يحاول الانتقاص من شرعية تلك الانتخابات لمصلحة ما يعده شرعية الثورة وشرعية الميدان.
وبالإضافة إلى تلك التباينات في الموقف من الحقيقة الموضوعية الواحدة، ألا وهي الانتخابات ونتائجها، فإن الموقف يبدو أكثر التباساً بشأن ما يترتب عليها من استحقاقات سياسية تتعلق بصلاحيات البرلمان ودوره وموقعه من السلطة التنفيذية، وعملية صياغة الدستور، فضلاً عن احتمالات استمراره لدورة برلمانية كاملة. والخلاصة أنه حتى تلك الانتخابات التي تعد للناظر من بعيد مؤشراً على عملية بناء نظام ديمقراطي، وانتقال منظم وسلس للسلطة، لا توفر بذاتها ضماناً لأي من هذه الغايات، ولا ضماناً لعدم الانقلاب عليها لاحقاً.
وبغض النظر عن الإشادة والإعجاب اللذين نالتهما الثورة المصرية عبر العالم، إبان تفجرها، وباستثناء توجس وتحفظ بعض أنظمة الحكم المحيطة، فقد حظيت تلك الانتخابات التشريعية المشار لها بإشادة واسعة كذلك من مختلف دول العالم، وإن كانت الإشادة تتراجع كثيراً، إذا ما ركزنا النظر على الإقليم المحيط بنا، سواء في العالم العربي، أو الشرق أوسط. وتتباين التفسيرات داخل مصر بشأن المواقف الإقليمية من الثورة المصرية، بين من يراها تحتذي بتلك الثورة، ومن يراها تترقب ما ستسفر عنه، ومن يراها تتآمر عليها.
وتنطبق التفسيرات ذاتها على المواقف العالمية، حتى إن البعض، بما في ذلك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم ذاته، يربط بين ذلك التفسير التآمري، وما تشهده مصر من اضطرابات، يتحمل هو على الأقل المسئولية عن كيفية التعاطي معها، فضلاً عن إحباط أي مؤامرة ضد الثورة والبلاد، إن وجدت حقاً. لكن المؤكد هو وجود درجة عالية من الإحباط والتوجس لدى الجميع في مصر، شعباً وحكومة، من المحصلة الفعلية والواقعية للمواقف العربية والدولية من مصر وثورتها، وعملية إعادة التأسيس الجارية في البلاد حالياً. ويتجلى ذلك واضحاً في التردد منذ انطلاق الثورة في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي كوسيلة لتجاوز العجز المتنامي في الميزانية، وربط ذلك في كثير من التصريحات الرسمية برفض شروط خارجية.
كما يبرز في تصريحات رئيس الوزراء المصري، الثالث بعد الثورة، د. كمال الجنزوري، الذي أكد، في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر 2011، أنه في مقابل 9 مليارات دولار غادرت البلاد منذ انطلاق ثورة 25يناير، فإن مصر لم تتلق سوى مليار واحد من مليارات الدولارات التي وعدت بها مصر لدعمها بعد الثورة، في إشارة إلى ما يمكن اعتباره، في أفضل التفسيرات حسنة النية، ترددا وتوجسا عربيا ودوليا تجاه الثورة المصرية.
سؤال النموذج والسياقات المأزومة
في ظل هذا المشهد شديد الالتباس، يصبح السؤال: هل يمكن أن تنتج الثورة المصرية نموذجاً؟ سؤال محوري ليس فقط من منطلق الدور المركزي الذي لعبته مصر تقليدياً في المنطقة منذ مطلع القرن التاسع عشر، باعتبارها المصدر الرئيسي لإنتاج النماذج السياسية والاقتصادية والثقافية التي انتشرت منها لتصبغ الإقليم بتوجهات عامة في كل من هذه الفضاءات، سواء بالتماهي مع هذه النماذج، أو برفضها، والصراع معها، ولكن كذلك بالنظر إلى طبيعة الأزمة التي تمثل الثورة المصرية محاولة للاستجابة لها.
إن تلك الأزمة لا تختص فقط بالدولة المصرية في ذاتها، ولكنها تعكس، مثلما أشرنا آنفا، أزمة الدولة المصرية في مواجهة موجات تحول أوسع نطاقاً يشهدها العالم والإقليم.وفي تفصيل ذلك، يمكن ملاحظة أن الثورة المصرية لم تكن ثورة ضد حكم فرد محدد بعينه، لكنها كانت ضد نظام كامل يعكس نمطاً لبنية الدولة، فى ظل نظام جديد يعمل على بناء تحالف لقوى رأس المال المعولم.
في ظل هذا النظام، تعمل الدولة وسياساتها على تيسير عملية اندماج رأس المال الوطني في إطار رأس المال العالمي، باعتبار ذلك هو المدخل الرئيسي للنمو الاقتصادي في المرحلة الحالية. بموجب هذا الدور الجديد، يشهد هيكل الدولة والحكم فيها تحولاً جوهرياً، من خلال ما يمكن تسميته عملية "خصخصة واسعة للدولة والحكم على السواء".
فنجد انخراطاً متزايداً لعناصر الرأسمالية الوطنية في مؤسسة الحكم بشكل مباشر كوزراء ومسئولين حكوميين، وكذلك لعناصر الرأسمالية الأجنبية كمستشارين يسهمون في صياغة، ليس فقط السياسات الاقتصادية، ولكن كذلك السياسات الاجتماعية. وبالتالي، نلاحظ كذلك أن ما كان يعد سياسات اجتماعية خالصة، أو فضاء فردياً خاصاً، بات جزءاً من سياسة اقتصادية معولمة تستجيب بالأساس لاحتياجات ومعايير خارجية أكثر مما تستجيب لاحتياجات محلية ووطنية. وبتحليل النظام السياسي المصري خلال السنوات العشر الأخيرة السابقة على ثورة 25يناير، سنجده يمثل نموذجاً جلياً لهذا التحول في دور الدولة وهيكلها.
ولا يمكن فصل ثورة 25 يناير عن هذا النموذج، حيث يمكن اعتبار تلك الثورة، ومن خلال المطالب التي رفعتها، سواء على مستوى التفكيك (محاكمة رموز النظام السابق)، أو على مستوى التأسيس (إعادة النظر في السياسات الاجتماعية ودور الدولة)، تعبيراً عن أزمة هذا النموذج الرأسمالي المعولم، والتي يمكن أن تتكرر في غير مكان من العالم.
في ضوء هذا التحليل، يمكن فهم أسباب انسحاب رأس المال الأجنبي الذي شهدته مصر خلال الأشهر الماضية، وكذلك أسباب الترقب والتردد الدوليين لما يمكن أن تنتجه تلك الثورة على هذا الصعيد. وكذلك، يمكن فهم كثير من الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تعكس محاولة لإعادة هيكلة طبقية تعيد تحديد آلية توزيع قيم الدولة المصرية وكيفية إدارتها. وهنا، يصبح ما يمكن أن تنتجه الثورة المصرية اقتصادىا واجتماعيا وسياسياً موضع ترقب واختبار، باعتباره نموذجا للتعاطي مع أزمة هذا المستوى من التحولات العالمية.
تحول آخر، عالمي وإقليمي هذه المرة، يتضح أن الثورة المصرية وما تلاها يمثلان استجابة له، ألا وهو صعود السياسات الثقافية، وأزمات الهوية، في حركة يمكن وصفها بالعولمة المضادة. إذ لا يمكن فهم صعود التيارات الدينية القوي في الانتخابات التشريعية في مصر، وفي أكثر من دولة عبر الإقليم، إلا باعتباره يندرج في إطار هذا التحول. موجة العولمة الواسعة، وما تضمنته من فرض نموذج تغريب، بل -وحسب كثير من التحليلات- "أمركة"، لكثير من مناطق العالم المتمايزة ثقافياً وقيمياً،أفرزت أزمات داخلية في كثير من الدول التي إما تعارضت أنساقها القيمية والمجتمعية مع هذا النموذج المعولم، أو افتقرت إلى أدوات وإمكانيات التعاطي مع متطلبات هذا النموذج بشكل كلي وشامل، فشهدت انقسامات اجتماعية، وحالات اغتراب حادة.
وهنا، يصبح ما قد ينتجه هذا الصعود للتيارات الدينية مؤشراً على مستقبل ما عد في لحظة من اللحظات "صداماً للحضارات"، وتجسيداً لمدى صدق هذه المقولة أو نفيها. كان محور هذا الصدام تقليدياً، خلال السنوات العشر التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 هو الصدام بين الولايات المتحدة وحلفائها عبر العالم، وتنظيمات سرية، أغلبها إسلامية، وصفت بـ "الإرهابية"، أو بين هذا التحالف ذاته وأنظمة اتهمت بدعم الإرهاب، أو بالديكتاتورية. هنا، يصبح هذا الصعود السياسي للتيارات الدينية، في ظل أجواء ديمقراطية بدرجة كبيرة، معياراً مهماً للحكم على الشكل المحتمل للعلاقة بينها وبين الطرف القائد لعملية العولمة.
هل يمكن أن نجد نموذجاً عولمياً رحباً يتسع لفكر ديني سياسي ينتمي إلى الإطار الحضاري الإسلامي، وينعكس عبر هذا الحضور السياسي في فضاءات مختلفة جتماعية وثقافية واقتصادية، بل وحتى على مستوى السياسات الخارجية والسياسات الدولية؟. وكذلك، هل يمكن أن يعيد هذا التيار الديني الإسلامي إعادة إنتاج منهجه وخطابه ليصبح بدوره أكثر انفتاحاً وقبولاً للاختلاف والتعدد العالمي، استناداً إلى المشترك الإنساني العقلاني؟.
أخيراً، فعلى مستوى الإقليم، فقد بات من الجلي أن الموجتين الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي كشفتا عن تحول عميق سيغير طبيعة الحكم والسلطة في المنطقة، مع تباين المسار إلى التغيير، وحدوده.
وخلال العام الماضي، شهدت المنطقة ثورات شبه بيضاء في بعض الحالات (مصر وتونس)، وصدامات عنيفة بلغت حد الحروب الأهلية في حالات أخرى (ليبيا، واليمن، وسوريا، والبحرين)، وانفتاحا سياسيا نسبيا، وإعادة توزيع اقتصادي-اجتماعي في حالات ثالثة (دول الخليج العربية والمغرب). أما نتاج التغيير، سواء كان شاملا وجذريا، أو إصلاحيا توافقيا، أو فشلاً يتمثل في انهيار لدول أو إعادة إنتاج للاستبداد، فلا يزال غير مكتمل، فضلاً عن كونه موضع اختبار حالياً وفي المستقبل المنظور.
في هذا الإطار، يمثل ما قد ينتج عن الثورة المصرية، مرة أخرى، نموذجاً لما يمكن أن ينتشر عبر الإقليم، حيث يمكن أن نشهد موجة محاكاة لمسار التغيير في مصر أو توجهاته، في حال أنتجت الثورة المصرية نموذجاً إيجابياً في الفضاءات المختلفة، سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو حتى ثقافية. وبالعكس، فقد نشهد عزوفاً عنه في حال كان نموذج الاستجابة فاشلاً، مع اختلاف مظاهر هذا الفشل وأسبابه. ولعل هذا يفسر بدرجة كبيرة الجدل حول وجود تدخلات خارجية لإفشال الثورة المصرية.
في ظل هذه التساؤلات الواسعة والمحورية، تصبح الثورة المصرية، وما يمكن أن تنتجه، في موضع بناء النموذج بالفعل، نجاحاً أو فشلاً، ليس فقط للدولة المصرية، وليس فقط لإقليمها، ولكن للعالم. وفي هذا الإطار، يأتي هذا الملحق لمحاولة طرح رؤى أولية تبحث في العوامل الحاكمة الكبرى التي يمكن أن تشكل مستقبل ما ينتج عن ثورة 25 يناير في المديين المتوسط والبعيد.
(*) تقديم ملحق " تحولات استراتيجية" ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012