لعل من أكبر التحديات التي فرضتها ثورة 25 يناير في مصر طبيعة نظام الحكم الذي يرقى إلى مستوى تحدي الثورة ذاتها، وعاد هذا التحدي على غرار الجهاد الأكبر، وهو بلا شك الجهاد السياسي الأكبر في مصر، يطل برأسه وبقوة ويثير حالة من الجدل والقلق والتخوف من المستقبل بعد الانتخابات وما كشفت عنه من فوز أكيد للقوى الإسلامية وسيطرتها على البرلمان المصري، والتخوف هنا هذه المرة من الديمقراطية أو ما يسمى باستبداد الأغلبية التي تأتي بها الانتخابات الديمقراطية . ولهذا التخوف مبرراته من غياب المحددات والقيود التي تفرض على الديمقراطية حتى لا تذهب الأغلبية الفائزة بالتحول إلى استبداد جديد، وكأن الانتخابات بل والثورة لم تفعل شيئاً إلا أنها استبدلت استبداداً باستبداد .
من هنا أهمية المعالجة الدستورية ووضع كل التصورات التوافقية في صورة دستور عصري حضاري ديمقراطي يعكس خصوصية الحالة المصرية، وليس خصوصية الأخوان أو “السلفيين” أو أي قوة أو تكتل سياسي آخر، ومن دون ذلك ستبقى الثورة قائمة ولكن هذه المرة في صورة قد تقود إلى حالة من العنف التي تقتضي التدخل العسكري والعودة بالحكم لأوضاع قد تكون أسوأ مما سبق، وتنسف معها كل إيجابيات الثورة .
ونعود إلى التحدي الأكبر وهو تحدي الحكم وماهية النظام السياسي الملائم والمناسب والذي من خلاله يمكن أن تتحول مصر من معادلة الدولة الضعيفة أمام نظام حكم قوي، إلى مصر الدولة القوية مقابل نظام حكم ضعيف . إذن المطلوب دولة قوية مقابل نظام حكم ضعيف، وليس نظام حكم قوياً مقابل دولة ضعيفة . ومصر الثورة التي أسقطت حكماً سلطوياً سيطر عليه حكم الفرد وهيمنة الحزب الواحد في حاجة إلى نظام حكم جديد يدخل بها إلى منظومة الدول الأكثر ديمقراطية لما يتوفر لمصر من كل مقومات الحكم الديمقراطي، وكل معطيات الدور والمكانة الإقليمية المتميزة .
ومن دون حكم ديمقراطي ينبع من الحالة المصرية بكل معطياتها التاريخية والجغرافية والحضارية والسكانية لن تتمكن مصر من استعادة هذا الدور الذي فقدته لسنين طويلة بسبب نظام الحكم الذي سادها على مدار عقود طويلة . وفي البداية لا بد من التأكيد على أنه لا يوجد نظام حكم مثالي، بل المثالية مرهونة بالقدرة على الأداء والإنجاز والتكيف السياسي مع بيئة متغيرة متحركة . والأمر الثاني أن نظام الحكم المطلوب هو نظام الحكم الذي فرضته وتفرضه البيئة السياسية الجديده التي خلقتها الثورة المصرية، وهي بيئة بطبيعتها متحركة وهائجة، وعناصرها كثيرة ومتشابكة، ولا يمكن إقصاء إحداها عن المشهد السياسي . والأمر الآخر يتعلق بسيادة الشرعية الثورية التي قد تأخذ وقتاً طويلاً حتى تفسح المجال للشرعية الانتخابية، ثم الرغبة القوية التي صاحبت الثورة وهي الدعوة لحكم تكون السيطرة فيه للبرلمان، ولقد جاءت هذه الدعوة متسرعة بعض الشيء وكرد فعل قوي لحكم الفرد .
وهكذا وبعد ما أفرزته الانتخابات البرلمانية من احتمالات فوز كبيرة للقوى الإسلامية عاد من جديد الحديث عن أي نظام حكم تريده مصر وتريده الثورة؟ وهنا بدأت المفاضلة والمقاربة بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي الذي ساد مصر منذ ثورة يوليو 1952 .
وأعود للتساؤل ماذا تريد مصر: البرلمانية أم الرئاسية؟ في ضوء الخبرة البرلمانية والرئاسية التي مر بها النظام السياسي المصري، وفي ضوء الثورة وما أفرزته من متغيرات كبيرة على بيئة النظام السياسي، وفي ضوء استحالة العودة للنظام السابق، وفي ضوء ضعف الثقافة الديمقراطية، وهيمنة عامل الدين في السلوك السياسي للمواطن المصري، ثم التركيبة السكانية لمصر ودور الأقباط في الحياة السياسية المصرية على امتداد تاريخها، والتخوف من استبداد الأغلبية البرلمانية، فقد يكون نظام الحكم الرئاسي المقيد ببرلمان قوي هو الأكثر مناسبة لدور مصر والخروج بها من أزمة الثورة المستمرة والهائجة والمنفلته . ويبقى جدل الحكم ماذا لو جاء رئيس من الأخوان أو السلفيين أو مدعوماً منهما؟ والإجابة تبقى في قوة وتفعيل عناصر ومكونات الديمقراطية في المجتمع المصري وهي كثيرة .
-------------------
* نقلا عن الخليج الأربعاء، 4/1/2012.