من المجلة - الافتتاحية

ريادة الدور المصرى فى مواجهة محاولات تصفية القضية الفلسطينية

طباعة

   مارست الدبلوماسية المصرية، عبر السنوات العشر الماضية، العديد من السياسات، مرتكزة على الميراث التاريخى الممتد، الذى سمتها بالمواقف الراسخة المناصرة لحقوق الإنسان، والباحثة عن تحقيق الأمن والاستقرار والسلم الإقليمى والدولى، مؤكدة، عبر اشتباكاتها مع العديد من الأزمات الإقليمية، قدرتها، وصلابة موقفها، وحجتها القانونية، وهى جميعًا منبثقة من مئة عام من السلوك الرشيد العقلانى فى إدارتها. انطلاقًا من عمق وصلابة مؤسسات الدولة المصرية العميقة، لم تتأثر وزارة الخارجية المصرية بالتراجع الذى أصاب سياسات مصر الخارجية طوال الفترة من عام 2011 حتى عام 2013، ويكمن ذلك فى عمق التأسيس الهيكلى للوزارة، ومن الخبرات المتراكمة فى إدارة ملفات شديدة الارتباك، بالتعاون مع باقى الوزارات والهيئات والمؤسسات المعنية بإدارة السياسة الخارجية المصرية، إضافة إلى الدور المصرى التاريخى فى الاشتباك مع جميع قضايا الإقليم والعالم بحثًا عن حياة كريمة لشعوب العالم الثالث تتمكن فيها من التمتع بكامل حقوقها التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الصادر عام 1948 الذى كانت مصر من أوائل الموقعين عليه، بحيث تتمكن فى النهاية من مساعدة شعوب قارتها الإفريقية ودول وطنها العربى على تحقيق التنمية المستدامة بأكبر قدر ممكن من مؤشراتها السبعة عشر.

فمنذ أن تخلصت مصر من المخطط الشيطانى لتمكين تنظيم الإخوان الإرهابى من مفاصل الدولة ومؤسساتها، عادت وزارة الخارجية لتتصدر المشهد، وتحقق النجاح تلو الآخر. ولعل ذلك ارتبط بالتنفيذ الدقيق لاستراتيجية الرئيس السيسى والقدرة على ترجمتها لسياسات فعالة وفاعلة على الأرض، حيث اعتمدت فى ذلك على الدبلوماسية الرئاسية، وعلى قدرة ومهارة الدبلوماسيين فى الخارجية المصرية على تنفيذها وترجمتها عبر تدخلات بحسابات دقيقة وخطاب يتناسب مع تفاعل الأحداث من حولنا. ولعل من أنجح ما تحقق هو إعادة صياغة دوائر التفاعل للسياسة الخارجية المصرية، وابتكار دوائر جديدة من قلب الدوائر القديمة لسهولة التحرك وتحقيق الفاعلية اللازمة، بما يحقق فى النهاية صون الأمن القومى المصرى.

حرب باردة جديدة:
عادت الدبلوماسية المصرية لتمارس دورها فى وقت كان فيه الوضع الإقليمى والدولى فى غاية السيولة والتعقيد، إلى حد فشلت معه محاولات كثيرة لتحليله، وتوقع سيناريوهاته المستقبلية، نتيجة عوامل متشابكة تتعلق بالبنية الداخلية للدولة الوطنية فى الوطن العربى والقارة الإفريقية، ومحاولات تفكيكها، والقضاء على ملامحها، وهو الأمر المرتبط بمخططات كانت تسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بما يتواءم مع مصالحها. وبات واضحًا من تسلسل الأحداث حتى اليوم أن الهدف الأكبر كان القضاء على باقى دول المواجهة أو دول الطوق الأول فى الصراع العربى-الإسرائيلى بعد التخلص من العراق عام 2003، وهو الأمر الذى كان يتطلب تفكيك مؤسسات هذه الدول والقضاء على جيوشها الوطنية، وفى أضعف الإيمان إنهاكها عبر إدخالها فى أزمات داخلية من خلال التفجير الذاتى للدول. تزامن ذلك مع تفجر العديد من الأزمات المتشابكة التى ألقت بظلالها على شكل وطبيعة التفاعلات الإقليمية والدولية، ومنها الإرهاب، والأزمات الاقتصادية العالمية، وبزوغ قوى وتحالفات إقليمية جديدة تحاول أن تكون الأكثر نفوذا على الساحة، فضلًا عن أزمات نتيجة لاحتياجات تتعلق بأمن الطاقة، والمياه، والغذاء، والصحة، والقدرة على تحقيق التنمية المستدامة لشعوب الدول النامية، شكلت جميعها بتفاعلاتها الإطار الحاكم لشكل وطبيعة ومسار الأزمات الدولية، القائمة والمستقبلية.

فى إطار ما سبق، تأتى الإشكالية الأهم، وهى تلك المتعلقة بطبيعة تعقد وتشابك التفاعلات على مستوى الوطن العربى، ودول الجوار الإقليمى، وتنامى أدوار لاعبين دوليين، كانت لهم مخططات واضحة، برعاية لاعبين من قلب الوطن العربى، ودول الجوار الإقليمى، ترمى إلى تدمير مفهوم الدولة الوطنية، وصولًا إلى هدف تذويب الشخصية الوطنية، ومن ثم القضاء على القومية العربية، فى إطار مشروعات تحقق طموحات كل هؤلاء على حساب حق شعوبها فى الاستقرار والتنمية الحقيقية، تحت شعارات تبدو فى ظاهرها أخلاقية وإنسانية، وهى فى الواقع بعيدة كل البعد عن أدنى درجاتها.

عمليًا، تنطلق العلاقات الدولية فى مجملها من "النظرية الواقعية" المستندة إلى المصلحة الوطنية والقوة وتوازن القوى. تعد النظرية الواقعية هى التى تحكم العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، ونشوء الدولة الوطنية القائمة على مبدأ السيادة الوطنية. فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، وتسعى الدول المعبرة عن المصلحة الوطنية إلى البحث عن القوة فى عالم تسوده الفوضى والنزاعات المستمرة، ما يدفع كل دولة إلى تحصين ذاتها لمنع الدول الأخرى من الاعتداء عليها وتهديد أمنها. أما السلام والاستقرار، من وجهة نظر هذه الدول، فلا يمكن أن يتحققا إلا من خلال توازن القوى، وهو أيضًا الأمر الأكثر واقعية من مقولات "النظرية الليبرالية"، التى بحثت عن إمكانية التعاون بين الدول من خلال إنشاء مؤسسات ومنظمات معنية بتحقيق التعاون بهدف تقليص حدّة النزاعات. إن الأمن والاستقرار، بحسب الفكر الليبرالى، لا يتحققان إلا من خلال إيجاد القيم والمصالح المشتركة مقابل تقليص الأبعاد العسكرية، فتتشابك حينها المصالح الاقتصادية التى تؤدى بدورها إلى تحقيق الرفاهية لجميع الفاعلين الدوليين. ولعل تلك هى المعضلة العالمية، حيث ترفع الدولة العظمى وحلفاؤها من الدول الكبرى الشعارات البراقة لليبرالية وتؤسس المنظمات والهيئات اللازمة لذلك، فيما تمارس على الطبيعة الواقعية ببراجماتية تقترب إلى حد الدوجما.

وكما ذكر د. محمد كمال، فإن هانز مورغنثاو، أحد أبرز منظّرى المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية، يرى أن إدارة المصالح الوطنية هى جوهر السياسة. والحديث عن مفهوم المصلحة الوطنية لا يتم إلا فى إطار الدول ذات السيادة، التى تدرك وجوديًا حاجاتها فى عالم قلق، الصراع فيه هو القاعدة، والتعاون السلمى يشكل الاستثناء. لا ينفصل التأصيل النظرى لمصالح الدول عن واقعها العملى، تحديدًا فى لحظات الأزمات الكبرى، ودور صنّاع القرار فى التعامل مع تلك الأزمات، سواء تطوّرت الأوضاع أو لا. هنا، يجب أن تلاقى اعتبارات الدولة وبقاؤها جميع الاحتمالات، فحيث المصالح الوطنية، ينتفى الارتجال ويضمحل تأثير المصادفة.

لعل ذلك هو الواقع الذى نعيشه. فمن حولنا وفى شتى بقاع العالم، هناك نزاعات ومتغيرات تدل على أن العالم بالفعل فى مرحلة حرب باردة جديدة، قد لا نراها، ولكننا نتلمس ملامحها ونتأثر بنتائجها، عالمًا يخوض مرحلة مخاض لنظام عالمى جديد، يصعب على الكثيرين التوصل إلى اتجاه التفاعلات التى ستكون حاكمة فيه، وترتيب القوى الدولية التى سيكون لها الصوت الغالب داخله، وكل ذلك بفضل تنامى مدخلات ومتغيرات لم تكن كثيرًا لتدخل فى موازين القوى الدولية، لكنها باتت حاكمة له، ولاتجاه التفاعل داخله. ولعل جائحة كورونا جاءت كاختبار عالمى لقدرات النظام الدولى بدوله ومنظماته ومؤسساته العالمية على إدارة تبعاتها، والمساعدة على تعافى الدول الأقل قدرة بصورة عادلة، سواء فى إدارة الأزمة من حيث توفير اللقاحات، أو المساعدة على دعمها لمواجهة تحديات وتبعات ما بعد الجائحة اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا. لا يخفى، فى هذا السياق، أن هناك إشكاليات كان يتم تصديرها لكى تمثل عنصر الحسم لشكل النظام العالمى والإقليمى، الذى يجرى الترتيب له، على حساب الدولة الوطنية، وإخفاء هوية وشخصية المجتمع بداخله، وجعله يدور فى حلقة لا مفرغة من التهديد، وعدم الاستقرار، وتغليب نموذج الحكم الغربى، عبر دساتير مدنية يتم التقليص فيها من فرص ظهور شخصيات كاريزمية يمكن أن يكون لها دور فاعل فى تقرير مصير وهوية دولها وأولوياتها.

لعل أبرز هذه الإشكاليات تتمثل فى التنظيمات الإرهابية العابرة لحدود الدولة الوطنية، التى يمكن أن تتمدد عبر حدود الدول التى تم تقويضها وتمهيدها لكى تكون دولًا فاشلة، بحيث تتمكن هذه التنظيمات، عبر الدعم المباشر أو غير المباشر من دولة داخل الوطن العربى، أو دول الجوار المتاخمة له، من تنفيذ هذه المخططات، عبر نشر أفكار التطرف، وتأجيج الصراعات والحروب.

كذلك، لا يخفى على أى متابع لتطور التفاعلات الدولية، ونتيجة ما آل إليه تفجير العديد من الأزمات الحدودية والاقتصادية والداخلية والوجودية فى توقيتات محسوبة، أن يتيقن من زيف الادعاءات والشعارات الليبرالية البراقة، ويتيقن من جهة أخرى من ازدواجية المعايير فى التعامل مع أدنى الحقوق الإنسانية للشعوب فى الحياة، والحياة فقط.

حرب إبادة فى الأراضى الفلسطينية:
بعد تفجر الأحداث فى الأراضى الفلسطينية فى السابع من أكتوبر 2023، نجد التفاعلات تفسر كثيراً ما أشرنا إليه. هنا، دعونا نتوقف أمام تقرير لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأدنى (الأونروا)، الصادر بتاريخ 12 ديسمبر 2023، وقت كتابة هذه الافتتاحية، وتضمن نصًا ما يلى:

1- قطاع غزة:
- حتى تاريخ 12 ديسمبر، تؤكد الأونروا أن زميلا آخر قد قتل، ما يرفع العدد الإجمالى للزملاء العاملين فى الأونروا الذين قتلوا منذ بداية الأعمال العدائية إلى 135 زميلًا.

- منذ يوم 7 أكتوبر، نزح ما يصل إلى 1٫9 مليون شخص (أو أكثر من 85 فى المئة من السكان) فى مختلف أنحاء قطاع غزة، بعضهم عدة مرات. ويتم إجبار العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثًا عن الأمان.

- حتى تاريخ 11 ديسمبر، كان ما يقرب من 1٫3 مليون نازح يقيمون فى 155 منشأة تابعة للأونروا فى جميع محافظات قطاع غزة الخمس، بما فى ذلك فى الشمال وفى مدينة غزة. ويتم العمل على تحديث معلومات الأونروا عن الملاجئ يوميًا إلى أقصى حد ممكن. كان آخر تحديث للمعلومات المتعلقة بشمال غزة ومدينة غزة قد تم فى 12 أكتوبر بسبب القيود المفروضة على سبل الوصول والوضع الأمنى.

- أكثر من 1٫1 مليون نازح يقيمون فى 98 مرفقًا فى مناطق الوسط وخان يونس ورفح.

- وفقًا لوزارة الصحة فى غزة، قُتل 18205 فلسطينيين فى غزة خلال الفترة الواقعة بين 7 تشرين الأول (أكتوبر) وحتى ظهر يوم 12 كانون الأول (ديسمبر)، وأفادت التقارير بأن نحو 70 فى المئة منهم من النساء والأطفال، كما تفيد التقارير بأن أكثر من 50٫100 شخص أصيبوا بجراح.

- تقوم الأونروا بالتحقق من التقارير التى تفيد بوقوع حوادث أثرت فى مرافق الأونروا يومى 11و12 ديسمبر.

- فى 11 ديسمبر، تم الإبلاغ عن وقوع حادث أثَّر فى منشآت الأونروا والنازحين الذين لجأوا إليها، ولا يزال التحقق جاريًا من التفاصيل وأعداد الضحايا، فقد أفادت التقارير بإطلاق النار على أحد النازحين ومقتله فى ملجأ تابع للأونروا فى خان يونس.

- حتى 12 ديسمبر، تم الإبلاغ عن قصف أثَّر فى منشآت الأونروا، وفى النازحين الذين لجأوا إليها، ولا تزال عملية التحقق مستمرة. هنالك شريط فيديو تم نشره على الإنترنت تبدو فيه مدرسة تحمل علامات الأمم المتحدة الزُرق والبيض يتم تفجيرها اليوم من جانب الجيش الإسرائيلى فى بيت حانون، شمال غزة. وقد تم تسجيل 156 حادثة مماثلة أثرت فى مبانى الأونروا والأشخاص الموجودين بداخلها منذ بداية الأعمال العدائية (بعضها تعرضت لحوادث متعددة أثرت فى الموقع نفسه)، ويشمل ذلك ما لا يقل عن 12 حادثة استخدام عسكرى و/أو تدخل عسكرى فى مبانى الأونروا. وقد أصيبت 43 منشأة مختلفة تابعة للأونروا إصابة مباشرة، فيما تعرضت 60 منشأة لأضرار جانبية.

- تقدر الأونروا أن ما لا يقل عن 288 نازحًا يلتجئون فى ملاجئ الأونروا قتلوا وأصيب 998 آخرون على الأقل منذ السابع من أكتوبر. وتعمل الأونروا على التحقق من عدد الإصابات الناجمة عن الحوادث التى أثرت فى منشآتها، وتشير إلى أن هذه الأرقام لا تشمل بعض الإصابات التى تم الإبلاغ عنها، حيث لم يتسن تحديد عدد الإصابات.

2- الضفة الغربية التى تشمل القدس الشرقية:
- فى يوم 12 ديسمبر 2023، نفذت القوات الإسرائيلية عمليات تفتيش واعتقال فى مدينة جنين ومخيم جنين للاجئين فى شمال الضفة الغربية. وحتى وقت كتابة هذا التقرير، قتل سبعة فلسطينيين، من بينهم طفل، بسبب الصواريخ التى أطلقتها الطائرات المسيّرة للقوات الإسرائيلية وتبادل إطلاق النار بين تلك القوات والفلسطينيين. كما قصفت القوات الإسرائيلية منزلًا داخل مخيم جنين للاجئين، بالقرب من مكتب خدمات المخيم والمجتمع التابع للأونروا. وأفادت التقارير بأن القوات الإسرائيلية أطلقت صاروخًا على منزل فلسطينى فى الجزء الشرقى من مدينة جنين، وجرفت البنية التحتية والممتلكات الخاصة التى يملكها الفلسطينيون. وأفادت التقارير باعتقال نحو 70 فلسطينيًا من المخيم، من بينهم امرأة، ولا تزال العملية مستمرة. وقد تأثرت عمليات الأونروا فى المخيم بشدة، وهى معلقة حاليًا.

- كما تم الإبلاغ عن عمليات تفتيش واعتقال نفذتها القوات الإسرائيلية فى الصباح فى نابلس، وفى مخيمى بلاطة وعسكر للاجئين.

- وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، قتلت القوات الإسرائيلية فى الضفة الغربية 261 فلسطينيًا، من بينهم 69 طفلًا، إضافة إلى مقتل ثمانية فلسطينيين، من بينهم طفل واحد، على يد مستوطنين إسرائيليين.

- يعد هذا العام (2023) الأكثر دموية من حيث عدد الفلسطينيين الذين قتلوا فى الضفة الغربية منذ أن بدأت الأمم المتحدة بتسجيل أعداد الضحايا فى عام 2005.

إن الأمم المتحدة بكل منظماتها ووكالاتها التى هى فى تفاعل مع تطورات الأحداث فى الأراضى الفلسطينية تجد نفسها عاجزة أمام هذه الجرائم التى يرتكبها جيش الاحتلال، وهو العجز الذى تجد نفسها غير قادرة على مواجهته بفعل ازدواجية المعايير والاختلال الوظيفى لمجلس الأمن. ولعل ذلك ما دفع أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للمنظمة، إلى تفعيل المادة 99 من ميثاق المنظمة، حيث اتخذ خطوة نادرة يوم الأربعاء 7 ديسمبر 2023 عندما نبه مجلس الأمن الدولى فى رسالة رسمية إلى التهديد العالمى الذى تمثله حرب غزة.

وقد وردت المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة فى الفصل الخامس عشر الذى يتعلق بالأمانة العامة للمنظمة ومهام الأمين العام، وتنص على: "يحق للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أى مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين"، وهو الأمر الذى مما لا شك فيه يعظم كثيراً من قيمة الأمين العام، ويجعله يمارس دورًا سياسيًا فاعلًا وأخلاقيًا عادلًا فى الوقوف أمام أكبر محاولة لتصفية القضية الفلسطينية واستكمال إهدار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، عبر جرائم حرب هى الأكبر حتى الآن ويتابعها الملايين عبر الشاشات، فى ظل انعدام العدالة الدولية وممارسة التمييز وازدواجية المعايير فى إدارة الصراعات، وذلك إذا وضعنا هذه المواقف للقوى الدولية فى مقارنة بالمواقف نفسها من الحرب الروسية-الأوكرانية.

لعل ذلك ما أوضحه جوتيريش فى كلمته أمام منتدى الدوحة بتاريخ 11 ديسمبر 2023، حيث أشار إلى أن مجلس الأمن "مشلول بسبب الانقسامات الجيوستراتيجية"، مضيفًا أن المؤسسات العالمية "ضعيفة وعفّى عليها الزمن، ولمّا تزل عالقة فى فترة زمنية مضى عليها 80 عاما". وأوضح جوتيريش سبب استخدامه المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، فقال "حثثت مجلس الأمن على الضغط من أجل تجنب وقوع كارثة إنسانية. للأسف، فشل مجلس الأمن فى القيام بذلك بسبب الفيتو، لكن، لن أستسلم".

هذا الموقف السياسى للأمين العام للأمم المتحدة يلخص العوار الذى تعانيه المنظمة، حيث توجد قواعد أخلاقية وإنسانية حاكمة لديه، بدأت تتضح مع جلسة مجلس الأمن بتاريخ 24 أكتوبر 2023، حين دعا إلى "وقف إطلاق نار إنسانى" فى قطاع غزة، وقال إن هجمات المقاومة الفلسطينية (حماس) لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعى الذى تشهده غزة. وأضاف جوتيريش نصًا: "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعى الذى تشهده غزة". وأشار إلى أنه "من أجل التخفيف من هذه المعاناة الهائلة، وتسهيل توزيع المساعدات بشكل مضمون، وتسهيل الإفراج عن الرهائن، أكرر دعوتى إلى وقف إطلاق نار إنسانى فورا". وأعرب عن "قلق عميق بشأن الانتهاكات الواضحة للقانون الإنسانى الدولى التى نراها فى غزة"، متابعًا "لنكن واضحين: كل طرف فى أى نزاع مسلح ليس فوق القانون الإنسانى الدولى".

الواقعية وغطرسة القوة فى تفسير سلوك الكيان المحتل:
لعل ما ورد من عرض لجرائم الحرب التى تصل إلى حد الإبادة التى يمارسها جيش الاحتلال، لا يمكن أن يكون هدفها تحقيق أهداف دولة الكيان المحتل المعلنة؛ تدمير قوة حماس العسكرية والقضاء على عناصرها، وإخلاء غزة ومحيطها من جميع العناصر التى يشتبه بانتمائها لحماس، وتأمين دولة الكيان المحتل من أى عدوان مستقبلى، واستعادة الهيبة لجيش الاحتلال بعد الصدمة التى لحقت بعناصره فى السابع من ديسمبر. هذه كلها أهداف معلنة، غير أن الهدف الحقيقى هو تصفية القضية الفلسطينية وفقًا لمخطط واضح، وتحقيقًا لعقيدة دينية هى التى تتحكم فى عقول قادة دولة الاحتلال بهدف إعلان دولتهم الدينية، وهو الأمر الذى نستشفه من تحليل مضمون تصريحات خبراء ورموز دولة الكيان المحتل فى كافة وسائل الإعلام.

إن دولة الكيان المحتل تمارس وتطبق نظرية الواقعية فى أجلّ صورها، وإن كانت قد ظلَّلت ذلك بمدخل إنسانى زائف حاولت به أن تضلل الرأى العام العالمى عبر سرديات فشلت فى أن تجمّل حربها العنصرية. يعود الفضل فى إدخال الواقعية كمقترب لدراسة العلاقات الدولية إلى "هانز مورجنثاو" (Morgenthau) فى عمله الشهير “PoliticsAmongnations: thestruggleforpowerandpeace”سنة 1948، الذى أحدث ثورة فى الدراسة الأكاديمية للعلاقات الدولية.

فالواقعيون لا يؤمنون بفضائل الطبيعة البشرية ولا بالعمل السياسى الذى يتم بوحى منها، وقد حددوا مجموعة من المبادئ التى تقوم عليها السياسة الدولية، هى:
- الكائن الإنسانى شرير فى وجوده، وهو يميل إلى ارتكاب الذنوب.
- الرغبة فى السيطرة والقوة جزء من غريزة الإنسان.
- هذه الرغبة فى السيطرة تتجلى فى النزاعات والحروب والصراع من أجل السلطة.

يقود هذا الأمر الدولة، وهى التعبير القانونى والسياسى لهذه الغريزة الأنانية، إلى محاولة اكتساب القوة وممارسة السيطرة على الساحة الدولية التى تعمها نتيجة لتلك الفوضى وانعدام النظام. فالقوّة هى إحدى المفردات التى توقف عندها كل رواد المدرسة الواقعية، وذهبوا إلى أن معناها القدرة على الفعل والاستطاعة، وعلى التأثير والنفوذ والسلطة، هكذا تتوهم دولة الكيان وداعموها.
وقد عرّف علم الاجتماع القوة بأنها القدرة على إحداث أمر معيّن مؤثر فى سلوك الآخرين. وفى رأى (كارل فريدريك) أن القوة هى "القدرة على إنشاء علاقة تبعية". والقوّة هنا لا تأتى مرادفة لمفهوم التسلّط فقط، ولكنها تتضمن أيضا القدرة على الاستمالة والنفوذ لدى الآخرين. ويرى (فريدريك) أنه بالاستخدام الماهر والذكى للقوّة، يتمكن الطرف (أ) من أن يجعل الطرف (ب) يفعل ما يريد دون قهر أو إرغام، ويمكن تحويل القهر إلى اتفاق وتزامن كنفوذ جماعات الضغط فى المجتمعات المتحضرة.
أما (سبيكمان)، فيرى أن القوّة تعنى البقاء على قيد الحياة، وقدرة الفرد على فرض إرادته على الآخرين، والمقدرة أيضا على إملاء هذه الإرادة على أولئك الذين لا قوّة لهم، وإمكانية إجبار الآخرين ذوى القوّة الأقل على تقديم تنازلات.
أما (ميكافيللى وهوبز ومورجنثاو)، فقالوا إن القوّة هى الوسيلة والغاية النهائية التى تعمل الدولة للوصول إليها فى مجالات العلاقات الدوليّة. فى حين بلور علماء الجيوبوليتيكا مفهوم القوّة بأنه مرادف لمفهوم السيطرة، ومنهم (راتزل) الذى رأى أن الدولة هى كائن حى يحتاج إلى النمو والتطور، حتى لو كان عن طريق القوّة.
تهتم هذه النظرية بدراسة سلوك الدول بوصفها "أدوارًا سياسيّة" تقوم بها على ساحة العلاقات الدولية. وتوجه نظرية الدور فى كثير من الأحيان الصورة المتشكلة فى ذهنية النخب وصناع القرار، بالإضافة إلى أن تشكيل الدور ناتج فى الأساس عن نسق من العوامل والمحددات الموجهة لهذه النخب، وعلى رأسها الهوية الاجتماعية فى الدول، والقيم السائدة بين أفرادها، وخصائصها القومية من الأيديولوجيا والتاريخ والقدرات السياسيّة والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودراسة بنيتها وتركيبها السوسيولوجى والمجتمعى. كل ذلك لأن الدور وفقًا لـ (كامبل) هو فى الأساس "موقف واتجاه سياسى، ناتج عن منظور تتداخل فى تشكيله جملة من المحددات الأساسية، منها هوية المجتمع ووصفه السياسى والاجتماعى وبنيته والقيم السائدة فيه، ومدى استجابة الأفراد لهذه البنية فى تدعيم الاستقرار السياسى للمجتمع والدولة".

بسبب اختلاف هذا المنظور، تختلف أدوار الدول على ساحة العلاقات الدولية، إذ يعدّ منظور الدور الموجّه الأساسى لتشكيل مواقف الدول من القضايا العالمية، وأدوار هذه الدول على الساحة الدولية، وتحديد الاتجاهات التى تتبعها النخب السياسية المسئولة عن صناعة القرار السياسى فيها، عبر وضع إطار عام محدد لهذا السلوك. أيضًا، يتشكل أداء الدور نتيجة لرؤية سياسية واضحة لمصالح الدولة وأهدافها الوطنية، فى حدود ما توفره إمكاناتها والقدرات التى بحوزتها.
يعد تشكيل جوهر الدور العامل المحدد لمدى قدرة النخب فى الدولة على توظيف قدراتها لتشكيل الدور وبناء إطاره وهيكله، وتعبر عن مدى نجاحها فى إدراك دور دولتهم المتناسب مع تلك الإمكانات.
لقد درس المفكرون السياسيون من أمثال (جورج ميد) و(جوزيف مورينهو) نظرية الدور من حيث ارتباطها بالطابع السلوكى والوظيفى الذى تقوم بها الدول لحل مشكلاتها، تمامًا كما يفعل الأفراد. كما أضافوا العوامل النفسية التى تتحكم بصانع القرار السياسى (ولنا أن نتخيل الوضعية التى بها رئيس وزراء الكيان المحتل مع كل مراحل تطور الأحداث منذ 7 أكتوبر). لذلك أناطوا، فى كثير من مقارباتهم، تشكيل الدور بكونه جملة من المواقف والسلوكيات السياسية التى تتخذها النخب السياسية المسئولة عن إدارة الدولة داخليًا وخارجيًا، حيث تقود هذه القرارات الصادرة عن الصور المتشكلة فى أذهان صناع القرار إلى رسم دور الدولة وتشكيله. فيما ذهب آخرون إلى القول إن الدور هو موقف وطنى، وعليه فإن العبرة منه هى فى نتائجه، والمكانة التى تحدد المواقف والمفاهيم الصادرة عن الدولة عبر أداء الدور. أما المفكر (بروس بيدل)، فيرى أن الدور يعبّر عن مجموعة من التصرفات والقرارات والسلوكيات الصادرة عن النخب السياسية والهيئات الرسمية فى الدولة، التى تحدد المواقف والمفاهيم الصادرة عنها عبر أداء الدور. كما تبرز أهمية تحديد قدرة الدولة على إدراك نتائج قيامها بدور ما أو جملة أدوار معيّنة، بحسب قدرتها على إدراك الدور وحساب نتائجه، والاستعداد للتعامل مع جميع الاحتمالات الناتجة عنه.

هناك ثلاثة أشكال رئيسية مرتبطة بدور الدولة، هى:تغيّر الدور، وتطور الدور، وصراع الدور. وهناك مَن يضيف الإفراط فى تصور الدور، ويعنى ذلك عدم تقديم أصحاب القرار أى فرصة لبناء أدوار عقلانية تحافظ على المصالح المتبادلة مع الطرف الآخر، وبالتالى يغلب على مواقف هذه الدول الطابع الراديكالى والغلو المفرط بشكل يصعّب عملية التفاهم وقيام التعاون، ما يقود إلى ما يمكن أن نطلق عليه "غطرسة القوة" التى تمارسها دولة الكيان بكل جلاء غير عابئة بتبعات ذلك على الأمن الإقليمى والعالمى.

فى السياق ذاته، برزت أهمية دراسة "عامل الشخصيّة" فى إدارة الدول وأثرها على النظام الدولى، بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك بعد أن ظهرت مجموعة من القيادات والزعامات (نابليون، وبسمارك، ولينين، وهتلر، وموسولينى، وستالين، وأيزنهاور، وشارل ديجول، وويلسون، وتيتو، ونهرو وغيرهم) أدت قراراتهم إلى إحداث تغييرات كبيرة على الساحة الدولية وعلى العلاقات بين الدول، سواء كان ذلك سلبًا أو إيجابًا. من هنا، برزت إثراءات نظرية الدور فى مجال دراسة الشخصية وعلم النفس الاجتماعى، وعلم النفسى السياسى. وعليه، فإن مجالات استخدام نظرية الدور فى علم السياسة المعاصر تتضح من خلال مستويين من التحليل؛ أولهما يبحث الأدوار السياسية فى إطار الأنساق الإنسانية داخل الوحدة السياسية (الدولة) عبر محور تحليل أدوار صانع القرار السياسى وعلاقته وتفاعلاته مع أبنية النسق، ومحور دراسة علاقات الأدوات وتوزيعاتها وتفاعلاتها بين أبنية هذا النسق، ومحور دراسة أثر التركيب الاجتماعى وانعكاساته على أداء الأدوار السياسية. أما المستوى الآخر، فيبحث فى الأدوار السياسية فى إطار النسق السياسى الدولى. وقد بدأ التنظير لهذين المستويين فى حقبة الستينيات من القرن العشرين عبر علم النفس السياسى واهتماماته الرئيسية بنظرية الدور. فى حين جاء مجال نظرية الدور والعلاقات الدولية متأخراً وبصورة بطيئة فى حقبة الثمانينيات من القرن الماضى، حيث تم التركيز على دراسة علاقات الدور وتوزيعها وتفاعلاتها فى العملية السياسية، ودراسة أثر التركيب الاجتماعى على حركة العملية السياسية.

وهكذا، فإن نظرية الدور تقوم فى الأساس على وجود تفاعلات وتوجهات ونشاطات ورغبات وعلاقات تقوم الدولة بالالتزام بها فى إطارها الإقليمى أو الدولى. يمكن عدّ مفهوم الدور من منظور صانعى السياسات بالأطر العامة للقرارات التى تلائم دولهم. أما مفهوم الأدوار الوطنية، فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتوجهات والقواعد الأساسية، ويعكس شكل الميل نحو العالم الخارجى.

إن مفهوم الدولة ومفهوم الدولة الصغيرة بالتحديد، إنما يجيء فى سياق المعايير التى تفرضها حقائق العلاقات الدولية فى المجتمع الإنسانى. وقد بدا أن معظم هذه المعايير تتركز حول مقدرات القوة، سواء الاقتصادية أو التقنية أو العسكرية أو الأمنية أو الثقافية أو الاستقرار السياسى. كما أن الدولة لم تعد تقاس بأحجامها التقليدية، وإنما دخلت هناك مواصفات كثيرة، منها النفسية والثقافية والسياسية، والمعرفية، وهذه فى مجملها غيّرت الكثير من التصنيفات والتفسيرات، فضلًا عما جرى الأخذ به فيما يتعلق بمفهوم الدور الذى تلعبه الدولة دون الالتفات إلى ضرورة أن تكون هذه القدرة مبنية على المعطيات العسكرية والاقتصادية فقط.

ما سبق من إطار نظرى يمكننا فهمه من خلال استعراض التقارير والمقالات والملحق الخاص بمجلة السياسة الدولية فى هذا العدد، والتى نقدم من خلالها معالجات مختلفة تَرِد بها محاولة للاقتراب أكثر لفهم الصورة الكاملة لحرب الإبادة التى يشنها جيش الاحتلال، وتفسير عجزه الكبير رغم الدعم الهائل المقدم لدولة الكيان المحتل، وهو ما يسهم كثيرًا فى فهم أبعاد الوهم الكامن فى عقل من يقومون بأدوار مؤثرة من قلب الحكومة المصغرة التى تم تشكيلها عقب اندلاع الأحداث.

المصلحة الوطنية والريادة المصرية:
أعود لمقال مهم للدكتور محمد كمال، على موقع المركز المصرى للفكر والدراسات بتاريخ 19 يوليو 2023، أكد فيه: "أنه لا ينفصل التأصيل النظرى لمصالح الدول عن واقعها العملى، تحديدًا فى لحظات الأزمات الكبرى، ودور صنّاع القرار فى التعامل مع تلك الأزمات، سواء تطوّرت الأوضاع أم لا. هنا، اعتبارات الدولة وبقاؤها يجب أن تلاقى جميع الاحتمالات، فحيث المصالح الوطنية، ينتفى الارتجال ويضمحل تأثير الصدفة، حيث إن حس البقاء والحاجة للشعور بالأمان دفعا البشرية عبر التاريخ لبناء منظومات حماية، تطوّرت عبر الزمن لتستقر بالدول والحكومات، التى خُوّلت مهمة تكريس الأمان والاستقرار، على اعتبار أنّ مهد المصالح الوطنية يكمن فى مفهوم الأمن القومى بمعناه الواسع والشامل وحمايته من أى تهديد".

وقد شدد على: "أن مفهوم "المصلحة الوطنية المصرية" هو أحد هذه المحددات المشوشة. وهذا المفهوم يعنى باختصار أن السياسة الخارجية المصرية يجب أن تنطلق أولًا ودائمًا من السعى لتعظيم مصالح هذا الوطن بحدوده الجغرافية ومصالح مواطنيه. ولا يوجد مجال هنا لما يسمى المسئولية عن الآخرين، إلا إذا طلب الآخرون منّا تحمل هذه المسئولية، أو تطلبت مصالحنا الوطنية القيام بذلك، وتظل المسئولية الرئيسية لصانع القرار هى عن وطنه وأبنائه. والواقع أن مفهوم المصلحة الوطنية قد أصبح مشتتًا فى أذهان النخبة المصرية بعد سنوات طويلة شهدت توارى هذا المفهوم وراء مفاهيم أخرى تتعلق بنطاق جغرافى أوسع يشمل العالم العربى. تلت ذلك هجمة الإسلام السياسى على عقول الكثير من المصريين، والذى عظّم مفاهيم الأممية الإسلامية على حساب الوطن.

فدولة مثل جمهورية مصر العربية، التى جرى العرف فى العلاقات الدولية على توصيفها بأنها قوة إقليمية أو دولة متوسطة، لا يمكن أن تعيش بمعزل عن محيطها الدولى أو الإقليمى. ومكانة مصر الدولية كثيرًا ما تتم ترجمتها إلى منافع اقتصادية، وترتبط بسياسة خارجية نشطة، خاصة فى محيطها الإقليمى.

لكن من المهم تحديد هذا الدور ووضع أولويات له، ولا يمكن لأى دولة حتى القوى الكبرى أن تمارس دورًا نشطًا أو تلعب دورًا قياديًّا فى كل القضايا، خاصة أن هذا الدور يحتاج إلى موارد. فالسياسة الخارجية مثلها مثل السياسات العامة الأخرى، كالتعليم والصحة والنقل، تحتاج إلى تخصيص موارد مالية وقدرات بشرية كى تحقق أهدافها.

من هنا، فكل دولة تختار عددًا من القضايا التى تعطى لها أولوية، على حساب قضايا أخرى، وهو ما يطلق عليه "الارتباط الانتقائى" بعيدًا عن مفاهيم الكمون أو النشاط الزائد وغوغائيات التدخل.

لذا، حرصت مصر فى الجمهورية الجديدة على استعادة الاستقرار لعلاقاتها مع الفاعلين الدوليين من منظمات إقليمية ودولية، والقوى الكبرى والعظمى المؤثرة فى صياغة العلاقات الدولية، وصناعة القرار السياسى، والاقتصادى، والاجتماعى، والثقافى على مستوى العالم.

لقد تم التأسيس للعديد من المبادئ الفاعلة التى ميزت نمط التفاعل المصرى على مستوى الإقليم والعالم، ويأتى على رأسها مبدأ "المكسب للجميع" من خلال تبنى سياسة خارجية نشطة ذات مقومات تراعى تحقيق الأمن الإنسانى، طرحت من خلالها رؤيتها بشأن التسوية السياسية للأزمات بغية التوصل لحلول واقعية تسهم فى استعادة الدولة الوطنية التى شهدت محاولات الهدم فى المحيط الاستراتيجى المصرى، وتعمل فى نطاق آخر من أجل التنمية الشاملة العادلة لجميع شعوب الإقليم والعالم عبر صنع شبكة علاقات تتبنى دعم عمليات بناء السلام وتحقيق الاستقرار والأمن، بعدِّها من الأهداف السامية للإنسانية، التى ينُص عليها ميثاق الأمم المتحدة، والقواعد الأخلاقية للقانون الدولى، بما جعل مصر دوليًا وإقليميًا هى "صوت الجنوب" المناصرة لقضاياه العادلة.

وقد عُدَّ ما سبق اتجاهًا ثابتًا نفذته السياسة الخارجية المصرية، بأدواتها الدبلوماسية المختلفة، وهو أمر ينبغى أن يتفهم الجميع أنه لا يأتى من منطلق ضعف أو تردد، ولكنه إعلاء لقيم راسخة وثابتة عبَّر عنها الرئيس السيسى بأنها سياسات شريفة تمارسها مصر فى وقت عز فيه الشرف. غير أنه متى فرضت الظروف، والأوضاع، وتطورات الأحداث، سياقات مختلفة، فإن الدولة المصرية قادرة، عبر قواتها المسلحة الشريفة، على صون الأمن القومى المصرى والعربى، وأن أى تهديد لأى دولة عربية، يمس أيًا من الاتجاهات الرشيدة والعقلانية التى تنتهجها السياسة الخارجية المصرية ويهدد أيًا من الاتجاهات الحيوية الاستراتيجية لأمنها القومى، لم يعد أمرًا مقبولا به، وهو ما طبقه الرئيس السيسى من خلال مبدأين آخرين حاكمين لهذا التهديد "مسافة السكة" و"الخط الأحمر". وعلى الجميع تفهم أن التغير فى لهجة الخطاب المصرى، إزاء أى أزمة إقليمية أو دولية، إنما يعنى أن الكيل قد فاض من انتهاكات والتفافات وتراجعات عن التزامات أو تهديد للأمن القومى المصرى فى أى من مجالاته، وهو أمر لن تقبل به الدولة المصرية مجددًا.

لعل هذه الرسائل المصرية القوية قد وصلت إلى جميع دول العالم عبر الجهود التى بذلها السيد الرئيس، وذلك منذ التأسيس الأول لهذه الدبلوماسية فى خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 24 سبتمبر 2014، هذا الخطاب الذى أسس لسياسة مصر الخارجية فى جمهوريتها الجديدة.

وقد أرسى الرئيس عبدالفتاح السيسى، منذ توليه منصب رئيس الجمهورية عام 2014، مجموعة من المبادئ المركزية والثوابت الراسخة، عبرت عن اقتناعاته واستراتيجيته ومنظوره فى الاقتراب من القضايا الشائكة فى إقليم ملتهب، باتت هى القاعدة الرئيسية فى تحديد ملامح السياسة الخارجية، وفى تحديد مساراتها، فضلًا عن دوره المهم فى الإفصاح والإعلان عن المصالح المصرية فى مختلف القضايا، وذلك بحكم خبراته العملية، والمهارات العلمية والإدارية التى اكتسبها طوال فترة خدمته فى القوات المسلحة، ما مكّنه من إدراك التحديات والمخاطر والتهديدات الموجهة صوب الأمن القومى المصرى، وهى أمور تجد تفسيرها فى نظرية الدور السابق الإشارة إليها.

كل ذلك مكّن الدولة المصرية من أن تتحول بعد هذه السنوات العشر من اتباع هذه الدبلوماسية النشطة -التى سبقها تراجع واختفاء الدورين المصرى الإقليمى والدولى- ليس فقط من لاعب إقليمى مؤثر، ولكن إلى شريك دولى فاعل، لديه من الأدوات والسياسات والقدرات ما يمكنه من أن يصنع التأثير الدولى فى الوقت المناسب وفى قضايا شائكة تعجز اقترابات الدول والمنظمات الكبرى عن حلها دون الاعتماد عليه، وذلك بصورة متزنة ورشيدة وفقًا للقواعد الأخلاقية والإنسانية للقانون الدولى.

هنا نجد، أن اتخاذ وصناعة القرار فى السياسة الخارجية المصرية، منذ عام 4102 وحتى الآن، لم يبتعدا كثيرًا عما حدده كل من د. محمد السيد سليم ود. حامد ربيع، حيث أشار الأول فى تعريفه لها بعدّها: "برنامج العمل العلنى الذى يختاره الممثلون الرسميون للوحدة الدولية من بين مجموعة من البدائل البرنامجية المتاحة من أجل تحقيق أهداف محددة فى المحيط الخارجى". فيما عرّفها الثانى بأنها: "جميع صور النشاط الخارجى، حتى ولو لم تصدر عن الدولة كحقيقة نظامية، أى نشاط الجماعة كوجود حضرى، أو التعبيرات الذاتية كصورة فردية للحركة الخارجية، تنطوى وتندرج تحت الباب الواسع الذى نطلق عليه السياسة الخارجية".

عبرت السياسة الخارجية المصرية، طوال هذه الفترة، عن مجموع نشاطات الدولة الناتجة عن اتصالاتها الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولى، وفقًا لبرنامج محكم التخطيط وضعه متخذ القرار، وحدد فيه الأهداف والأولويات، وعملت على إعداد وتنفيذ بدائله جميع مؤسسات الدولة المختصة بإدارة ملف السياسة الخارجية، وهدفت من خلاله إلى التعريف بالمتغيرات الرئيسية التى باتت حاكمة فى توجهات متخذ القرار لتحقيق المصلحة القومية المصرية من أجل الدفاع عن مصالحها الوطنية، وبلوغ الأهداف المحددة سلفًا فى نظامين إقليمى وعالمى، شديدى التعقيد والتقلب، لتحقيق غاية "مبدأ المكسب للجميع".

وكما يرى د. إسماعيل صبري مقلد، فإن هناك "مجموعة من المتغيرات التي تؤثر في عملية اتخاذ القرارات الخارجية، تتمثل في البيئة الخارجية بكل أبعادها وضغوطاتها ومؤثراتها، والبيئة الداخلية، التى تشمل الوضع الاجتماعي السائد، والنظام السياسي والاقتصادي للدولة، والمؤسسات السياسية الموجودة فيها، مثل الأحزاب السياسية وجماعات المصالح".

تنقسم العوامل المؤثرة في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية للدولة إلى عوامل خارجية، تشتمل على طبيعة وتركيبة النظام السياسي والاقتصادي العالمي، ومدى حدود الحركة فى ديناميكية التفاعلات الدولية، وطبيعة المشكلات الدولية والإقليمية، والقانون الدولي، والرأي العام العالمي، وعوامل داخلية تضم الموقع الجغرافية، والصفات العامة للدولة، مثل حجمها الجغرافي، وعدد سكانها، ودرجة نموها، وتطورها الاقتصادي، إضافة إلى طبيعة تركيب نظامها السياسي، وأيديولوجيتها وفلسفتها السياسية، والرأي العام المحلي، والأحزاب السياسية، وجماعات المصالح، ومؤسسات صنع القرار فيها، وبعض الأمور الأخلاقية والشخصية، التي تؤثر في عملية صنع القرار، مثل التصورات، والقيم، والمواقف، والمعتقدات، والمبادئ، والأيديولوجيات.

لهذا، كان من المهم لكى تضمن الدولة المصرية نجاح دبلوماسيتها، التى مكنتها فى النهاية من صناعة التأثير الدولى فى العديد من التفاعلات الإقليمية والدولية الشائكة بهدف الحفاظ على المصلحة الوطنية المصرية، أن يكون هناك تحرك على الأسس التالية:

• الثبات الانفعالى والاستفادة من التجارب التاريخية، سواء المحلية أو الإقليمية التى قوضت فيها مشروعات التنمية نتيجة الاندفاع خلف نزاعات وصراعات، دفعت الشعوب ثمنًا غاليًا جراءها.

• إقامة علاقات متوازنة مع كل القوى والفاعلين الدوليين، والانفتاح على كل الدول والمنظمات التى ترغب فى أن تقدم الدعم لمشروعات التنمية المستدامة التى هى حق للشعوب بحثًا عن تطبيق حقيقى لحقوق الإنسان فى معناها الواسع.

• الانفتاح على كل القوى والفصائل المتنازعة فى البلدان العربية التى تعانى أزمات، بما مكَّن الدولة المصرية من أن تكون لها اليد العليا فى فرض رؤيتها فى آليات تسوية هذه الأزمات سياسيًا عبر إعمال أدوات التفاوض والوساطة المختلفة.

• الانطلاق بمشروعات التنمية بمعدلات تساعد على تحقيق الأمان والاستقرار الداخلي، ومن ثم ارتفاع معدلات الثقة بالنظام السياسي، وقدرته على تحقيق حلم الشعب المصرى فى الحياة الكريمة، والعدالة، والكرامة الإنسانية والوطنية، أى تمتين الجبهة الداخلية بكل الوسائل التى تدعم قدرة الدولة على إدارة ملفاتها الخارجية انطلاقًا من الإرادة الوطنية التى تعبر عن استقلالية القرار والحق السيادى للدولة فى الدفاع عن الشعب ضد أى مهدد يمس ما تحقق من إنجاز تنموى داخلي.

• إدراك القواعد الأخلاقية والقيم الإنسانية التى تعبر عن عمق الحضارة المصرية، والتى تعكس هويتها الوطنية الشاملة، والملتزمة بقواعد القانون الدولى الأخلاقى والإنساني، ولعل ذلك ما عكسه المنهج الأخلاقى الذى اتبعته الدولة المصرية مع كل من حاول الإساءة إليها، تكريسًا لسمو المنظومة القيمية التى أرساها الرئيس السيسى كمنهج رئيسى للجمهورية الجديدة فى الاشتباك مع القضايا الإقليمية الشائكة، مع الاحتفاظ بحق الدولة المصرية فى حماية أمنها القومى بشتى الطرق متى تهدد ذلك بصورة أو بأخرى.

• التعبير عن التجربة المصرية والمنهج الإصلاحى الذى تبنته، والذى يهدف لجذب الاستثمارات الأجنبية فى العديد من نطاقات المشروعات القومية العملاقة التى نفذتها الدولة المصرية، والحرص على نقل خبرات هذه التجربة بكل مشتملاتها بما فيها مكافحة الفساد إلى الدول الشقيقة، والدخول كشريك فى كل محاولات التقارب والشراكة من أجل التنمية، سواء فى القارة الإفريقية أو المنطقة العربية.

مجمل ما سبق هو ما أكده وزير الخارجية السيد / سامح شكرى عندما قال فى مؤتمر "حكاية وطن" فى أكتوبر 2023: "إذا ما استُعرضت السياسة الخارجية فى ظل الجمهورية الجديدة منذ عام 2014، لا بد أن أذكر أن السياسة الخارجية فى المقام الأول هى لخدمة المواطن المصرى وتحقيق طموحاته والازدهار له. ولما كانت السياسة الخارجية مرآة للأوضاع الداخلية، فلا بد أن نتذكر ما كانت عليه الدولة قبيل 2014، فكانت تعانى من صعاب متصلة بأوضاع داخلية تتسم بعدم الاستقرار وتحديات اقتصادية وتراجع فى الدور الإقليمى والدولى لها، وتعانى من هجمات شرسة من الإرهاب، وأدت التطورات إلى تعليق عضويتها بالاتحاد الإفريقى، المؤسسة التى كان لمصر دور رئيسى فى تأسيسها، بالإضافة إلى عدم الرضا الشعبى إزاء ما استشعروا من انتقاص من كرامة الدولة وتراجع مكانتها".

وأكمل الوزير: "كان من الأهمية أن تصيغ الدولة سياسة خارجية تتسق مع رؤية القائد الرئيس عبدالفتاح السيسى، وتحدد هذه الخصائص فى التوازن والتنوع فى العلاقات وتجنيب الاستقطاب، ودعم الاستقرار الإقليمى والدولى، ومركزية الدور للمواطن فى السياسة الخارجية، والاهتمام بالبعد الاقتصادى والتنموى، واستباقية التحرك للتعامل مع التحديات البازغة وسياسات ذات أدوات حثيثة تواكب متطلبات العصر، ولكن لم تكن هذه هى العناصر الوحيدة، وإنما كان من الضرورى لمواجهة التحديات المرتبطة بالأوضاع السابقة لعام 2014 أن تكون هناك رؤية وعزيمة وإرادة، بالإضافة إلى ذلك خاصية استأثرتنى على المستوى الشخصى فى إصرار السيد الرئيس بأن ترتكز السياسة الخارجية المصرية على مبادئ إنسانية وأخلاقية مستمدة من تراث هذا الوطن الحضارى والدينى، مبادئ للتعاون ولتحقيق الاستقرار، ليس فقط لمصر ولكن لمحيطها الإقليمى والدولى، وعدم التآمر والعمل على الخير، وأيضا عدم زعزعة استقرار الآخرين من أجل تحقيق مصالح ذاتية".

لقد خدم قرار السياسة الخارجية، الذي يمكن عدّه قرارًا رشيدًا، طوال هذه الفترة،  المصلحة الوطنية والأهداف القومية للدولة والمواطن، وقام على أساس حصر كل البدائل الممكنة، وتقييم كل منها، ومن ثم اختيار البديل الذي يحقق أعظم منفعة، تطبيقًا لقواعد اتخاذ القرار في منهج الخيار العقلاني أو الرشيد، الذي يقوم على أساس تعظيم المنافع. ويعمل متخذ القرار في هذا النموذج علي تقييم جميع البدائل المتاحة، ويقوم باختيار البديل أو الخيار الذي يحقق له أعلى منفعة ممكنة.

بناء على المعطيات السابقة، تمت صياغة المبادئ العامة الحاكمة لتوجهات السياسة الخارجية المصرية، وذلك فى مختلف الملفات الشائكة التى حققت فيها الدولة المصرية النجاح تلو الآخر. وبعد أن كانت منعزلة عن فاعلية التأثير الإقليمى والدولى طوال الفترة من 2011 وحتى 2014 بحكم ما وصفه الرئيس من أننا كنا نعيش فى "شبه دولة"، انطلقت لتقدم نموذجًا جديدًا فى التفاعل الدولى يمكننا أن نطلق عليه "صناعة التأثير الدولي" لتحقيق المصلحة الوطنية، وهو ما تحقق من خلال:

• استخدام الدبلوماسية الرئاسية، والاستغلال الأمثل للشخصية الكاريزمية التى اكتسبها الرئيس السيسى وسط أقرانه من زعماء العالم، فى إعادة تنميط العلامة الوطنية المصرية وفقًا لثوابتها ومنطلقاتها الجديدة.

• إعادة الفاعلية لدوائر الأمن القومى القريبة التى تعد الحاضن والامتداد الطبيعى للأمن القومى المصري، وعلى رأسها الدائرتان الإفريقية والعربية، حيث يمكن تلمس تغير في طبيعة السياسة الخارجية المصرية الموجهة تجاه دائرتها الإفريقية، حيث ارتكزت علي العامل الاقتصادي، وعملية التنمية العادلة، والقضايا النوعية، كالمناخ، والبيئة.

• تبنى قضايا شعوب الجنوب العادلة، عبر الانفتاح فى العلاقات مع القوى الكبرى كالصين مع إفريقيا (فوكاك)، أو اليابان مع إفريقيا (تيكاد)، أو روسيا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا مع إفريقيا، أو حتى على مستوى الحوار العربى الإفريقى، بهدف دعم مشروعات التنمية المستدامة وفقًا للحقوق العادلة للشعوب.

• تبنى السياسات التوافقية الرشيدة، والحديث باللغة التى يفهمها العقل الغربى بهدف طرح الرؤى اللازمة لتسوية الملفات الشائكة للإقليم والقارة.

• استغلال الرصيد الهائل للثقل الذى اكتسبته الدبلوماسية المصرية والأجهزة الأمنية والمعلوماتية، كلٌ فى ملفاته، بهدف التواصل الفعال مع المؤسسات المعنية المماثلة لها فى كل دول العالم، وطرح ما تقدمه الدولة المصرية من رؤى واستراتيجيات للمواجهة فى مختلف الملفات.

الريادة المصرية فى التعامل مع القضية الفلسطينية:
    لم تغب فلسطين يومًا عن اهتمام الدولة أو الرأى العام الشعبي، حتى فى أدق مراحل الدولة المصرية تأزمًا، كانت مؤسساتها العميقة تعمل من أجل مصلحة القضية واستعادة كامل الأراضى الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطينى، وفقًا لمقررات الشرعية الدولية ممثلة فى قرارات مجلس الأمن، وعلى رأسها القراران 242 و338.

من أجل تحقيق ما سبق، تبنت الدولة المصرية مجموعة من الجهود والسياسات، مثلت أطرًا لتحركها ومقارباتها وأطروحاتها بشأن تحقيق السلم والأمن والاستقرار فى الإقليم، إدراكًا أن أى متغيرات تعصف بعملية السلام قد تهدد الأمن والاستقرار على مستوى الإقليم والعالم.

وقد تمحور ذلك فى الجهود المستمرة من أجل مجابهة ونبذ التطرف، والعنف، والكراهية التى كنا نلمس ملامحها وندرك المصير الذى ستقود إليه السياسات غير العادلة لحكومات الكيان المحتل، والتى لم تعر اهتمامًا لكل ما صدر بشأن تسوية القضية الفلسطينية من مرجعيات أوسلو ومدريد، وما طرحته المبادرة العربية من استجابات متقدمة لدفع عملية. كان الصوت والاستجابة المصرية فى التحرك والتدخل، يهدئان الكثير من عوامل التأجيج التى تعد مسئوليتها الأولى والأخيرة على دولة الكيان المحتل، التى تعد آخر كيان محتل ومغتصب للأراضى والحقوق فى العالم، وهو ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة كما أسلفنا.

شهد التاريخ البشرى جهودًا متعاقبة لمحاولة إحلال السلام فى العالم، وظلت معها فكرة السلام العالمى رهينة النظريات والدعوات، حيث كثيرًا ما عجز التطبيق عن تحقيق النظرية بسبب التناقض والتعارض فى المصالح السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية، والاجتماعية، وبالتالي، ظلت هناك إشكالية كبيرة لتحقيق السلام العالمى، وهو ما أكده أيضًا التباين بين التصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية، والتصويت فى مجلس الأمن، بما يعكس عمق الأزمة والإدراك وتعقد المصالح وازدواجية المعايير.

إن فكرة السلام التى هى حبيسة النظريات، وتتحكم بها فى الواقع القوى الكبرى المتغلبة بإرادتها على الدول الأقل حظًا على سلم التنمية، لا تعنى فقط عدم قيام حرب، فالسلام حالة واقعية ظاهرة، وهى الحالة التى يكون فيها العالم خاليًا من الحروب، ولكنها تعنى أكثر من مجرد غياب الحرب والصراع، فهى مفهوم ديناميكي. يرتبط الحفاظ على السلام كثيرًا بدرجة القدرة على تحقيق التنمية البشرية العادلة لكل الإنسانية، وإمكانية تعايش البشر، من منطلق إدراكهم السليم لحقوق الإنسان، للمضى قدما نحو تحقيق حياة كريمة. فالسلام هو حالة من التوافق، والوئام، والأمن، والاستقرار تسود المجتمع والعالم، وتتيح فرصة التطور والازدهار للجميع.

كانت هناك أربعة اتجاهات يمكن أن تلخص الجهود التى بذلتها مصر لتحقيق السلام فى القضية الفلسطينية عبر تدخلات واستجابات متعددة، وتشمل:

• صنع السلام: وهو مساعدة أطراف النزاع للوصول إلى اتفاق تفاوضى، وهو مصطلح يشير إلى الجهود والعمليات التى تتضمن أى عمل يهدف إلى دفع الأطراف المتحاربة للتوصل إلى اتفاق سلام، من خلال الوسائل السلمية كالتفاوض، والتحاور بين الأطراف، واستعمال الوسائل الدبلوماسية والأمنية لحل النزاع. تجدر الإشارة إلى أن صنع السلام لا يتضمن استخدام القوة العسكرية ضد أى من الأطراف لإنهاء الصراع.

• حفظ السلام: وهو منع أطراف النزاع من الاقتتال، وتعزيز العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، وهو مصطلح يشير إلى كل الجهود التى تُتخذ فى أثناء النزاع بغرض تخفيضه، أو إزالة مظاهر النزاع، وتثبيت تفاعلات النزاع على درجة من عدم العنف، يمكن معها استكشاف أساليب لحل وإصلاح النزاع.

• ترسيخ السلام: وهو تشييد ظروف المجتمع بالآليات والدعائم اللازمة، حتى يستطيع أن يعيش فى سلام، وتوفير كل الجهود من أجل إعادة إعمار الآثار السلبية للنزاعات.

• فرض السلام: وهو إجراء أخير يتم اللجوء إليه إذا ثبت العجز وعدم القدرة على احتواء أحد أطراف الصراع للالتزام بالسلام. ينصرف هذا المفهوم إلى التهديد باستخدام القوة المسلحة، واستخدام كل قدرات القوة الشاملة للدولة، من أجل إرغام الطرف المعنى على الامتثال للإجراءات الكفيلة بالحفاظ على السلم والنظام. يبقى اللجوء إلى الخيار العسكرى أمرًا مشروعًا ضد كل ما هدد الأمن القومى المصرى سابقًا ولاحقًا.

إن ذلك أمر يحمل تفهمًا لرمزية المكانة المصرية، بالنظر لخصوصية الموقع الذى تتمتع به مصر وما فرضه ذلك أخيرًا من تهديدات للمجال الحيوى لأمنها القومى فى اتجاهاته الاستراتيجية المختلفة، ما يفرض دورًا يتحتم على مصر أن تلعبه تحملًا لمسئولياتها، وحفاظًا على أمنها القومى، والأمن القومى العربي، ومن ثم الحفاظ على الأمن والاستقرار فى هذه المنطقة البالغة التعقيد والتشابك فى العالم.  أدى ذلك الأمر بالدولة المصرية إلى التحول لشريك دولى فاعل، وليس فقط لاعبًا إقليميًا مؤثراً فى دائرة عربية وإفريقية تجابه تحديات ضخمة تتعلق بمحاولات تقويض الدول، كنتيجة مباشرة لسياسات غير عادلة فى إدارة العلاقات الدولية على جميع الأصعدة السابقة بين الدول فى الشمال (الأكثر نموًا)، والدول فى الجنوب (النامية والأقل نموًا).

ولعل ذلك كان التحدى الأعظم الذى اضطلعت مصر بعرضه، وطرح استراتيجيات وأدوات التحرك من أجل مواجهته على جميع الدول الكبرى، والولايات المتحدة الأمريكية بعدّها الدولة العظمى، فى هذا المجتمع الدولى المنعقد تحت عباءة المنظمة الأممية الأكبر (الأمم المتحدة)، تلك المنظمة التى من المفترض أن تلعب دورًا مختلفًا من أجل تحقيق السلم والأمن والتعاون الدوليين، وضمان الرفاهية لكل شعوب العالم، والتى أصبحت عاجزة عن الإدارة العادلة للصراعات بفعل الصراعات الجيوبوليتيكية داخلها، ما يتطلب إصلاحًا هيكليًا طالب به الرئيس المصرى فى العديد من المحافل الدولية، وعلى رأسها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لذا، نجد أنه دائمًا ما أكد السيد الرئيس الجهود التى تبذلها مصر لإحياء عملية السلام، ومن بينها تحقيق المصالحة الفلسطينية، مبرزًا دعم مصر لجميع الجهود والمبادرات الدولية الرامية للتوصل إلى تسوية دائمة وعادلة وشاملة للقضية الفلسطينية، وفقًا لمقررات الشرعية الدولية فى هذا الشأن، مشيرًا إلى أن الوصول إلى حل عادل وشامل لهذه القضية من شأنه أن يوفر واقعًا جديدًا بالمنطقة، ويسهم فى تحقيق الاستقرار والتنمية. ودائمًا ما يؤكد الرئيس الجهود الكبيرة التى تبذلها مصر مع الإخوة الفلسطينيين فى الضفة الغربية وقطاع غزة، من أجل تقريب وجهات النظر ورأب الصدع الفلسطيني، سعيًا لتحقيق المصالحة الفلسطينية، بما يقود إلى وجود سلطة فلسطينية تتمتع بالشرعية تستطيع أن تجلس إلى طاولة المفاوضات الثنائية والمتعددة.

ولعل ذلك أيضًا ما ترجمته القاهرة فى السنوات الأخيرة، فيما يعرف بسياسة تكتيكية دائمًا ما اتبعتها فى الآونة الأخيرة، يمكن أن نطلق عليها "الرد على الأرض"، وهى سياسة تباغت بها القاهرة عواصم العالم بتحركات تثبت فيها أنها قابضة على كل الملفات، وأنها الأسرع فى التحرك لرأب الصدع وإعادة الاستقرار، حيث مثل إعلان الرئيس فى زيارته لفرنسا فى مايو 2021- فى أثناء اللقاء الذى جمعه بالرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والعاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى بن الحسين الذى شارك عبر خاصية الفيديو كونفرانس- تخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، كلمة سر تحركت فورها الوفود المصرية الأمنية الرفيعة المستوى بين طرفى الأزمة فى قطاع غزة وإسرائيل، لتتمكن فى أقل من 24 ساعة من التوصل لاتفاق الهدنة، الذى دخل حيز التنفيذ بعدها بساعات قليلة. وقد أدى هذا الدور المصرى والتحرك الفعال والسيطرة على الأرض إلى ردود أفعال دولية وإقليمية مرحبة بهذه القدرة المصرية على صنع الهدنة، وذلك فى الطريق الطويل نحو اتفاق للسلام يحلحل كثيرًا من عوامل عدم الاستقرار الإقليمي.

دائمًا ما تحمل القاهرة رؤية خاصة لمواجهة أى تداعيات تحدث فى القضية الفلسطينية، تقوم على عقيدة يقينية بأن فلسطين فى القلب والعقل المصرى دائمًا. ومن ثم، حان الوقت لتسويتها بصورة عادلة وشاملة ودائمة، فى ظل عجز المجتمع الدولى عن تنفيذ سلسلة طويلة من قرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن بشأنها. وترى القاهرة أن إغلاق ملف هذه القضية، استنادًا إلى القواعد والمبادئ الدولية الراسخة للشرعية الأممية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، مع إعلان القدس الشرقية عاصمة لها، شرط مسبق ضرورى للمنطقة بأسرها فى مرحلة جديدة من مراحلها نحو الاستقرار والتنمية، وهذا أمر ضرورى أيضًا لاستعادة مصداقية الأمم المتحدة والنظام الدولي. وما من شك فى أن تحقيق السلام سوف يؤدى إلى القضاء على إحدى الأدوات الرئيسية التى كان الإرهاب يتلاعب بها، ويستغلها لتمرير أفكاره الجهادية الخادعة، ومن ثم يزيد من انتشاره وتجنيده للعناصر المتطرفة والإرهابية فى المنطقة.

إن تسوية المنازعات فى عالمنا اليوم لا يمكن تحقيقها إلا من خلال احترام مبادئ القانون الدولي، والتفاوض على أساس المبادئ القانونية، والحقوق التاريخية، والقواعد الأخلاقية، فضلًا عن احترام سيادة الدول، ومبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية لديها. وأن الحلول العسكرية لن تؤدى إلا إلى مزيد من مكونات عوامل عدم الاستقرار، وتزيد من محفزات الفقر وإهدار قدرات الدول وتشريد شعوبها. ومن ثم، تبقى التسوية السياسية عبر الوساطة والمفاوضات هى السبيل الوحيد لتحقيق ذلك، فى ظل الاحترام الكامل للاتفاقيات القانونية الثنائية أو الإقليمية أو الدولية المنشئة والمنظمة لحقوق الشعوب والدول.

من هنا، يأتى "الدور الريادى المصرى" فى التفاعل مع أى تطورات فى مسار التصعيد العسكرى أو التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وهى التى أخذت زمام المبادرة مع انطلاق عملية "السيوف الحديدية" لجيش الاحتلال ردًا على "هجمات حماس" فى السابع من أكتوبر 2023. فمصر هى التى أعادت إحياء طرح حتمية التوصل للتسوية الشاملة والعادلة والدائمة للصراع، وفقًا لقواعد الشرعية الدولية، وذلك بعد أن إعادة بناء مؤسسات الدولة عام 2015. ومصر هى التى تبادر -بحكم الدور التاريخى منذ عام 1947 وحتى اليوم، والموقع الجغرافي، وما قدمه أبناؤها من تضحيات وما دفعته من ثمن فى الحروب حتى تحقيق النصر والسلام- إلى التهدئة بين طرفى الصراع عبر تفعيل أدواتها الدبلوماسية ووساطة أجهزتها الأمنية لتفعيل الهدنة وبدء تفاوض جدى لتحقيق السلام. ولعل النقطة الأخيرة هى المثبتة عبر مراحل الحروب الخمس بين فصائل المقاومة المختلفة ودولة الكيان المحتل. فدائمًا ما تُمهد القاهرة الطريق أمام الآخرين بهذه الجهود وعبر أفكار خلاّقة لتحقيق السلام، و هى كثيرًا ما تستبق مخططى الصراع بخطوات إقليمية ودولية تفضح ممارساتهم على الأرض، وتطرح حلولًا مُبتكرة لتقليل مخاطر تمدد الصراع استغلالًا للعقيدة الثابتة فى نفوس كل عربي، والتى يستغلها التطرف لتأجيج المشاعر وصولًا إلى إشعال المنطقة، دون أى حسابات لمخاطر ذلك على معدلات التنمية والعمران التى تستهدفها كل دولة، وتحاول جذب الاستثمارات التى لن تأتى لمنطقة مشتعلة بالصراعات الداخلية والحروب.

يتميز "الدور الريادى المصري" بما يلي:

• وجود هدف واضح ومحدد انطلاقًا من امتلاك المعلومات الكاملة المسبقة التى توفرها مؤسسات وأجهزة الدولة لصون الأمن القومى المصرى، وكذلك حماية حقوق الشعب والدولة الفلسطينية.

• دائمًا ما تطرح مصر آراءً وأفكارًا جديدة تدعم هدفها فى تسوية القضية الفلسطينية، وتمتلك القاهرة فى ذلك الرؤية الواضحة الاستراتيجية فى سعيها لتحقيق أهدافها من تدخلاتها فى هذا الصراع سلمًا وحربًا.

• والقاهرة فى ذلك دائمًا ما تأخذ المبادرة كما أشرنا عبر سياسة "الرد على الأرض" لتباغت طرفى الصراع بحلول مبتكرة وتأثيرات فاعلة.

• وهى فى ذلك تنطلق من تفكير إيجابى ومنظم لجميع جوانب ومعطيات أزمة إدارة الصراع، يمكنها من امتلاك القدرة على اتخاذ القرارات المختلفة المناسبة لمراحل تطور الصراع، سلبًا وإيجابًا.

• وتعلى القاهرة فى كل ذلك من قيمة استقلالية القرار الوطنى الذى يراعى المصلحة الوطنية والأهداف القومية للدولة المصرية.

• القدرة العالية على تحمل المخاطرة فى إدارة الأزمة بحكم عمق مؤسساتها وفهم الأهداف المختلفة لأطراف الصراع، وذلك على عكس الدول التى تتسم تدخلاتها بالتردد وعدم توافر البدائل الوطنية والقومية خشية الوقوع فى المخاطر .

• تتصدى القاهرة لمشكلة إدارة الصراع بأطروحات وآليات تعبر عن مسئوليتها الإنسانية ودورها القومى ومصلحتها الوطنية، ومن ثم تأتى استجاباتها فعالة وواقعية، بما توجده من حلول وتطرحه من سياسات.

• الاحتفاظ بالمرونة العالية فى لغة الخطاب وفقًا لمعطيات مراحل تطور الصراع، عبر سياسات تعبر عن رؤية استراتيجية، متميزة فى كل ذلك بحسن اختيار التوقيت لإعلان موقفها.

ففهم القاهرة لأسباب النزاع والعوامل، التى تؤدى إلى تصاعده، فرض عليها استجابات مختلفة لتحديث طرق وآليات حل هذا الصراع ووقف هذه الحرب المجنونة التى لم يسبق للبشرية أن عرفتها. غير أن توطيد السلام الدائم يتطلب تشييد البنية الأساسية الهيكلية، وتوفير الأمن الإنسانى، وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني، والدفع بعجلة التنمية ومعالجة الاقتصاد المنهار نتيجة ما خلفته هذه الحرب من دمار شامل للبنية التحتية فى قطاع غزة، وكذلك لإزالة الأسباب العميقة للصراع بحيث يتمكن الأطراف من إصلاح علاقتهم مع بعضهم بعضًا، وإصلاح الإدراكات الخاطئة تجاه الآخر عبر إعادة بناء الثقة. فعملية بناء السلام تتضمن مثل هذه الأنشطة، فبناء السلام جاء ليكمل عمليات حفظ السلام وصنع السلام وهذا لتأسيس السلام الدائم والعادل والشامل والحفاظ على الأمن والاستقرار فى النظامين الإقليمى والدولي.

فالقاهرة تهدف بالوصول بطرفى الصراع للحظة النضج، إذ تسعى بشكل متكامل ومتوازن إلى إيجاد الظروف المواتية والسياق الملائم للوصول للهدنة الدائمة وبدء المفاوضات. وللوصول للحظة النضج تلك، فمن المؤكد أنها تقوم عبر مؤسساتها وأجهزتها التى هى على اتصال بطرفى الصراع بتوضيح أنهما يعيشان مأزقًا صعبًا متبادلًا، لا تبدو فى الأفق أية نهاية له، ولا توجد أية إمكانية لتصعيد حاسم يحقق النصر لأى منهما. فالاستمرار فى هذه الحرب المجنونة سيقود إلى كارثة إقليمية ودولية، وسيتجاوز دون وعى حافة الهاوية، ولن يحقق نجاحًا للمباراة الصفرية التى تورط فيها جيش الاحتلال وحكومته.

إن إدراك طرفى النزاع بأنهما فى مأزق، ولو بدرجات متفاوتة، يجعلهما يشعران بأنهما محتجزان ضمن وضعية لا تكون لهما معها أية مكاسب من خلال الاستمرار فى التصعيد. وهنا، يدركان أنه يجب عليهما البحث عن سياسة بديلة أو مخرج لهذا النفق المسدود. ولعل ذلك ما سبق أن أكده "هنرى كيسنجر"، مهندس عملية السلام فى الشرق الأوسط، بإقراره بأن المأزق المتبادل هو أحد الشروط الأساسية لنجاح عملية التسوية.

 يستند إحساس طرفى النزاع بأنهما أمام مأزق إلى المعاناة وتزايد الخسائر التى ترتبط باستمرار التصعيد. وعندما يرتفع معامل التكاليف نسبة إلى المكاسب بشكل دراماتيكي، فمن المؤكد أن يشعرا بوضعية الاحتجـاز ويبدآ فى البحث عـن بديـل آخـر. وينبغى أن تتضمن خياراتهما المستقبلية معاناتهما فى الحروب الخمس السابقة والتكاليف التى تحمَّلاها.

فى هذا السياق، ينبغى أن يدرك الراعى، الذى يقف وراء دولة الكيان المحتل ويحميها باستخدام حق الفيتو فى مجلس الأمن دائمًا من أى إدانة أو تدخل دولى لوقف ممارستها العنصرية والتمييزية، المأزق. إن القادة العسكريين لطرفى النزاع نجدهم مطالبين بإدراك المأزق وبعدد الخسائر المادية والضحايا من البشر والخروقات للقانون الدولى الإنسانى وقواعده الأخلاقية. ومن ثم، عليهم أن يقتنعوا بحتمية وقف هذه الحرب المجنونة، والتسليم بأن المفاوضات بديل جيد لتحقيق النصر. فى إطار ذلك، نؤكد أنه ينبغى العمل على زيادة الضغوط على طرفى الصراع، وعلى الراعى الرئيسى لدولة الكيان المحتل.

من جميع ما سبق عن "ريادة الدور المصرى"، نحاول أن نلخصه من خلال استعراضنا للمعادلتين فى الشكلين التاليين:

"معادلة الريادة المصرية"

تدلنا معادلة مكونات "صناعة الريادة المصرية"، على العناصر التى ترتكز عليها الدولة المصرية فى صناعة علامتها الوطنية الخالصة فى التعامل مع القضية الفلسطينية والتصدى لمخطط دولة الكيان المحتل لتصفيتها عبر حرب إبادة تستخدم فيها أحدث الآليات العسكرية ضد شعب أعزل، بلغت نسبة النساء والأطفال من ضحاياها حتى الآن 70%، والتى تعتمد على مكونين؛ مكون قوة الدولة الوطنية وريادتها عبر مراحل تطور القضية الفلسطينية، ومكون قدرة الدور التى تمكن الدولة من اتخاذ قرارها وفقًا لاعتبارات المصلحة الوطنية المصرية.

ويتشكل مكون "قوة الدولة الوطنية" من عناصر رئيسية؛ قيادة لديها رؤية واستراتيجية ترسم من خلالها الخطوط الواضحة لصون الأمن القومى من خلال سياسة خارجية رشيدة ومتزنة، تقوم مؤسسات وأجهزة الدولة بتنفيذها، ويدعمها شعب تنامت لديه معدلات الوعى الوطنى والقومي، بحيث لم يعد يمكن لأحد أن يتاجر عليه أو يزيف اتجاهاته بشعارات عاطفية تخفى الكثير من المخططات التى تستهدف أمنه واستقراره. يدعم ذلك الدور التاريخى والموقع الجغرافى للدولة اللذان جعلاها على اشتباك دائم مع القضية الفلسطينية مع اختلاف الاستجابات وآليات التدخل وفقًا لطبيعة تطور الصراع سلمًا وحربًا، وهذا ما عكسته فاعلية القوة الناعمة والخشنة على التعامل مع تطورات الصراع منذ 1947 وحتى الآن. أوجد جميع ما سبق دورًا مصريًا لا يمكن أن يُنازع سلمًا وحربًا، دورًا يسمح بوجود شركاء للتوصل لهدف تسوية القضية، ولكنه يظل الدور المركزى والرئيسى فى كل ما يخص القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.

أما مكون "قدرة الدور"، فيعتمد على العناصر التالية؛ الجوار الجغرافى بما جعل القضية الفلسطينية قضية مركزية فى صلب الأمن القومى المصرى وصون الأمن القومى المصري، والحفاظ على السيادة الوطنية المصرية هو حق شرعى أصيل تكفله كافة القوانين والمعاهدات الدولية، الأمر الذى جعل القاهرة دائمًا ما تتصدر المشهد، وذلك ما عكسه الإعلام المصرى بعدّه القوة الناعمة اللازمة لتشكيل توجهات واعية للرأى العام بشأن الدور المصرى عبر تاريخ القضية الفلسطينية، وجعل القوات المسلحة المصرية دائمًا على أهبة الاستعداد لاتخاذ التحرك اللازم فى التوقيت المناسب وفقًا للإحاطة بجميع المعلومات ومناقشة مختلف السيناريوهات للتعامل مع أى تطور فى الأحداث. إن القوات المسلحة المصرية، التى خاضت جميع المواجهات دفاعًا عن الأراضى المصرى وجابهت أى تهديد يمسها، غير غافلة عن القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كل ما سبق ولّد عقيدة راسخة لدى كل المصريين بحتمية مناصرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى والقضية الفلسطينية فى مختلف المحافل الدولية، ومن ثم توفير الدعم الكامل إنسانيًا وأخلاقيًا للشعب الفلسطينى التزامًا بالدور المصري.

لتنفيذ ذلك، اعتمدت الدولة المصرية على لقاءات، وتصريحات، وعقدت "قمة القاهرة للسلام" و "قمة الرياض" التى شكلت اللجنة الوزارية لوزراء الخارجية العرب والمسلمين الذين يمارسون ضغطًا دوليًا باتصالاتهم ومشاركاتهم الدائمة فى اجتماعات الجمعية العامة والتنسيق لمواقف ضاغطة فى أروقة مجلس الأمن. لم تعتمد القاهرة على التحركات الرسمية لوزارة الخارجية والأجهزة الأمنية والمعلوماتية المنوط بها التعامل مع القضية، وإنما فعلت من دور البرلمان والأحزاب والمجتمع المدني، كل ذلك مدعوم بجهود واعية من وسائل الإعلام المصرية والمدونين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعى بهدف ترشيد المظاهرات الداعمة للحق الإنسانى للشعب الفلسطينى فى الحياة بعد الإدراك العام بأن هناك مخططًا واضحًا لتصفية القضية وإبادة الشعب الفلسطينى وتهجير قسرى لمن يتبقى، مع فتح التبرعات لدعم الشعب الفلسطينى من منظمات المجتمع المدنی وجميع المؤسسات والبنوك. تجلى كل ذلك فى احتفالية استاد القاهرة لمناصرة حقوق الشعب الفلسطينى تحت عنوان "تحيا مصر وفلسطين"، التى كانت ليلة بدء الهدنة الإنسانية التى لم ترغب دولة الكيان المحتل فى استمرارها، واستعرضت فيها الدولة المصرية قوافل الإغاثة التى أعدتها منظمات المجتمع المدنی المصرى، وفيها أيضًا أعلن الرئيس السيسى أن تهجير الفلسطينيين خط أحمر لم ولن نقبل أو نسمح به، وأكد كذلك أن مصر لم ولن تغلق أبدًا معبر رفح الحدودى أمام دخول المساعدات الإنسانية.

كل ما سبق عكسه خطاب الخارجية المصرية المتصاعد بدرجات محسوبة، والذى وصل إلى لهجة شديدة يمكن رصدها من خلال تحليل مضمون الخطاب، وكلمة وزير الدفاع المصرى الفريق أول محمد زكى، فى افتتاح معرض "إيديكس" فى 4 ديسمبر 2023، والتى أشار فيها إلى: "أن التعاون المشترك ضمانة حقيقية لتحقيق التنمية والاستقرار والرخاء لكافة الدول والشعوب المحبة للسلام، إلا أن الأحداث العالمية الجارية، خصوصًا ما تواجهه القضية الفلسطينية من منحنى شديد الخطورة والحساسية وتصعيد عسكرى غير محسوب لفرض واقع على الأرض هدفه تصفية القضية الفلسطينية". يستمد الخطابان السابقان فاعلية كبيرة ارتباطًا بالخطاب الرئاسى، الذى عبر منذ اللحظة الأولى عن أربع لاءات شهيرة؛ لا لتصفية القضية الفلسطينية، لا للتهجير القسرى للفلسطينيين، لا لحل القضية على حساب دول الجوار، لا لاستمرار هذه الحرب التى يمكن أن تتوسع بما يهدد الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمى والدولي. هذه اللاءات مثلت المنطلق الفكرى للموقف الريادى المصرى، الذى فعّلت فيه مصر القوى الشاملة للدولة بعناصرها المختلفة، ومثّل الركيزة التى لم يحد عنها الرئيس فى كل لقاءاته وكلماته فى القمم والمؤتمرات المختلفة. وتمثل العناصر التالية التى وردت على لسان الرئيس فى قمة الرياض جوهر الموقف المصرى العادل والنزيه والشريف والخالى من المصالح:

 أولًا: الوقف الفورى والمستدام لإطلاق النار فى القطاع بلا قيد أو شرط.

 ثانيًا: وقف جميع الممارسات التى تستهدف التهجير القسرى للفلسطينيين إلى أى مكان داخل أو خارج أرضهم.

 ثالثًا: اضطلاع المجتمع الدولى بمسئوليته، لضمان أمن المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطينى.

 رابعًا: ضمان النفاذ الآمن والسريع والمستدام، للمساعدات الإنسانية، وتحمل الكيان المحتل مسئوليته الدولية، بعدّها القوة القائمة بالاحتلال.

 خامسًا: التوصل إلى صيغة لتسوية الصراع، بناء على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

سادسًا: رفض تصفية القضية على حساب دول الجوار.

سابعًا: إجراء تحقيق دولى فى كل ما تم ارتكابه من انتهاكات ضد القانون الدولى.

وأخيرًا، وبعد تجديد دولة الكيان المحتل عملياتها العسكرية، عقب انتهاء الهدنة الإنسانية التى فعّلت القاهرة جل جهدها من أجل مدّها بغرض التوصل لوقف إطلاق النار وبدء جولة جديدة من مباحثات السلام الذى يعد الهدف الاستراتيجى للدولة المصرية، صارح الرئيس العالم بأنه قد حان الوقت لإعلان دولة فلسطين، تعبيرًا عن مستوى ضاغط على دولة الكيان فى إدارة الصراع، خاصة مع تراجع الدعم العالمى لما صورته دولة الكيان بأنه استخدام مشروع لحق الدفاع عن النفس، وتفهم العالم نتيجة للجهود المصرية وجهود أطراف إقليمية مخلصة لحقيقة أهداف المحتل.

هذه هى مصر، وهذا هو موقفها الريادى الثابت فى التعامل مع القضية، مهما شكّك فى ذلك كل ذى غرض أو هوى. إن النخبة المصرية الأكاديمية والإعلامية فى حاجة لحوار منهجى حول مفهوم المصلحة الوطنية المصرية، ووضع تعريف لهذا المفهوم ينطلق من النطاق الجغرافى للوطن ومصالح مواطنيه، والتعامل مع قضايا السياسة الخارجية انطلاقًا من مفهوم الواقعية السياسية، وهى إحدى المدارس الكبرى فى العلاقات الدولية، التى تنظر للعالم كما هو، لا كما ينبغى أن يكون. فعالم اليوم تحكمه المصالح وينبغى أن تصل الرسالة بأن مصالح العالم فى الإقليم باتت مهددة بعد اتساع نطاق الصراع وامتداده لباب المندب، كما حذر الرئيس المصرى منذ اللحظة الأولى. وعلى العالم، إذا رغب فى حماية مصالحه، أن يضغط على دولة الكيان والدولة الراعية لها لوقف هذه العمليات العسكرية الإبادية التى يمارسها جيش الاحتلال فى حربه المجنونة لتحقيق مخطط مكتوب عليه أن يتحطم على صخرة الريادة المصرية.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد ناجي قمحة

    أحمد ناجي قمحة

    رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية